ولا تلبسوا واللبس إبداء الشيء في غير صورته ، ومنه اللباس [ ص: 320 ] لإخفائه الأعضاء حتى لا تبين هيئتها ، قاله : الحرالي الحق أي ما تقرون به على ما هو عليه من التوراة والإنجيل مما لا غرض لكم في تبديله بالباطل مما تحرفونه منهما ، والحق قال ما يقر ويثبت حتى يضمحل مقابله ، فكل زوجين فأثبتهما حق وأذهبهما باطل ، وذلك الحق فالباطل هو ما أمد إدالته قصير بالإضافة إلى طول أمد زوجه القار . انتهى . ولما كان اللبس قد يفارق الكتمان بأن يسأل شخص عن شيء فيبديه ملتبسا بغيره أو يكتمه وهو عالم به قال : الحرالي وتكتموا الحق أي عمن لا يعلمه وأنتم تعلمون أي مكلفون ، وجعله على ظاهره فقال : لما الحرالي نهاهم عن سوء العمل وما لبسوا به الأمر عند أتباعهم من ملتهم وعند من استرشدهم من طلبهم تعالى بالوفاء بالعهد العرب ، فلبسوا باتباعهم حق الإيمان بموسى عليه الصلاة والسلام والتوراة بباطل ما اختذلوه من كتابهم من إثبات الإيمان لمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ، فكتموا الحق [ ص: 321 ] التام الجامع ولبسوا الحق الماضي المعهود بالباطل الأعرق الأفرط ، لأن باطل الحق الكامل باطل مفرط معرق بحسب مقابله ، وعرفهم بأن ذلك منهم كتمان شهادة عليهم بعلمهم بذلك إفهاما ، ثم أعقبه بالشهادة عليهم بالعلم تصريحا . انتهى .
وفي هذه الآية أعظم زاجر لأهل الكتاب عما أظهروا فيه من العناد ، ومن لطف الله تعالى زجر القاسي البعيد ونهي العاصي القلق إلى ما دون ذلك من تنبيه الغافل وزيادة الكامل . قال الإمام في كتاب العروة : وجه إنزال هذا الحرف - يعني حرف النهي - كف الخلق عما يهلكهم في أخراهم وعما يخرجهم عن السلامة في موتهم وبعثهم مما رضوا به واطمأنوا إليه وآثروه من دنياهم ، فمتوجهه للمطمئن بدنياه المعرض عن داعيه إلى اجتناب ما هو عليه يسمى زجرا ، ومتوجهه للمتلفت المستشعر ببعض الخلل فيما هو عليه يسمى نهيا ، وهما يجتمعان في معنى واحد ومقصود واحد إلا أنه متفاوت ، ولذلك رددهما النبي صلى الله عليه وسلم على المعنى الجامع في هذا الحديث يعني المذكور أول البقرة ، وأولاهما بالبدئية في الإنزال الزجر لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما [ ص: 322 ] بعثه الله حين انتهى الضلال المبين في الخلق ونظر الله سبحانه إلى جميع أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ، كما ورد في الحديث الصحيح إسنادا ومتنا ، ولذلك أبو الحسن الحرالي يا أيها المدثر كان أول منزل الرسالة سورة قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر وهي أول قوارع الأمر كما أن أول قوارع الخلق ، ولذلك انتظم فكرهما في قوله تعالى : فجاءة الساعة فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير وللمزجور حالان إما أن ينفر عند الزجرة توحشا كما قال تعالى : كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة وإما أن يدبر بعد فكره تكبرا كما قال تعالى : ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر وربما شارف أن يبصر فصرف ، قال رضي الله عنه : لكنها عقول كادها باريها عمر بن الخطاب سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية [ ص: 323 ] لا يؤمنوا بها صرفوا عن آيات الحق السماوية على ظهورها عقوبة على ذنب تكبرهم على الخلق مع الإحساس بظهور آية انضمام الأرحام في وضوحها وكل قارعة لنوعي الكافرين النافرين والمدبرين من هذا الحرف وتمام هذا المعنى ينهى المتأنس المحاصر عن الفواحش الظاهرة والباطنة الضارة في العقبى وإن تضرروا بتركها في الدنيا نحو قوله تعالى : " ولا تقربوا " في ، إلى ما دون ذلك من النهي عما يعدونه في دنياهم كيسا ، نحو قوله : أكل مال اليتيم والزنا وإتيان الحائض ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل و لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا و لا يسخر قوم من قوم وما لحق بهذا النمط - إلى ما دون ذلك على اتصال التفاوت من النهي عن سوء التأويل لطية غرض النفس [ ص: 324 ] نحو قوله تعالى : ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا إلى ما دون ذلك من النهي عما يقدح في الفضل وإن كان من حكم العدل نحو قوله تعالى : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله إلى تمام ما لا تحصل السلامة إلا به من النهي عما زاد على الكفاف والبلغة في الدنيا الذي به يصح العمل بالحكمة نحو قوله تعالى : ولا تمش في الأرض مرحا إلى قوله : ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ونحو قوله تعالى : ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه لأن كل زائد على الكفاف فتنة ، وهذا هو أساس ما به تتفاوت درجات العلم في الدنيا ودرحات الجنة في الآخرة ، ولا تصح الوجوه والحروف التي بعده أي وهي سائر الحروف علما وعملا وثباتا وقبولا عند التمحيص إلا بحسب الإحكام في قراءة هذا الحرف وجمعه وبيانه [ ص: 325 ] لأنه ظهور لما بعده من صلات حرف الأمر وما قصر بعشرات فرق الأمة إلى التقصير في حرف النهي ، لأن الملة الحنيفية مبنية على الاكتفاء باليسير من المأمورات والمبالغة في الحمية من عموم ما لا يتناهى من المنهيات لكثرة مداخل الآفات منها على الخلق فيما بعد الموت ويصعب هذا الحرف على الخلق بما استقر في أوهامهم أن دنياهم لا تصلح إلا بالمثابرة على صنوف المنهيات لنظرهم لجدواها في الدنيا وعماهم عن وبالها في الأخرى وما حوفظ على الرياضات والتأديبات والتهذيبات إلا بوفاء الحمية منها ، والحمية أصل الدواء ، فمن لم يحتم عن المنهيات لم ينفعه تداويه بالمأمورات ، كالذي يتداوى ولا يحتمي يخسر الدواء ويتضاعف الداء هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا وجاؤوا بحسنات كالجبال وكانوا يصومون ويصلون ويأخذون وهنا من الليل لكن ذلك تداو بغير حمية لما لم يحتموا من الدنيا [ ص: 326 ] التي نهوا عن زهرتها ، فكانوا إذا لاحت لهم وثبوا عليها فيصيبون منها الشهوات ويعملون المعصيات فلم ينفعهم المداواة ، فمن احتمى فقد قرأ هذا الحرف وهو حسبه فاقرؤوا ما تيسر منه ، أحب العبادات إلى الله ترك الدنيا وحمية النفس من هوى جاهها ومالها ، " " " بل نبيا عبدا أجوع يوما وأشبع يوما " ، " " ، ومن رغب عن سنتي فليس مني الجبة التي في والقرآن حجة لمن عمل به فصار إمامه يقوده إلى الجنة . وحجة على من لم يعمل به يصير خلفه فيسوقه إلى نار والوادي والجب في كل يوم سبع مرات جب وادي جهنم التي تستعيذ جهنم منها ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " " . أعوذ بعفوك من عقوبتك ، وبرضاك [ ص: 327 ] من سخطك ، وبك منك ، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
ثم قال فيما تحصل به قراءة حرف النهي : اعلم أن الموفي بقراءة حرفي الحلال والحرام المنزلين لإصلاح أمر الدنيا وتحسين حال الجسم والنفس تحصل له عادة بالخير تيسر عليه قراءة حرفي صلاح الآخرة من الأمر والنهي ، ولما اقتضت الحكمة والعلم إقامة أمر الدنيا بقراءة حرفي صلاحها تماما اقتضى الإيمان بالغيب وتصديق الوعد والوعيد تجارة اشتراء الغيب الموعود من عظيم خلاق الأخرى بما ملك العبد من منقود متاع الدنيا ، فكل الحلال ما عدا الكفاف بالسنة متجر للعبد ، إن أنفقه ربحه وأبقاه فقدم عليه ، وإن استمتع به أفناه فندم عليه فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ذلك مال رابح ذلك مال رابح ، وكما أن حرف الحلال موسع ليحصل به الشكر فحرف النهي مضيق لمتسع حرف الحلال ليحصل به الصبر ليكون به العبد شاكرا صابرا ، فالذي يحصل به قراءة حرفي النهي [ ص: 328 ] إما من جهة القلب ورؤيا الفؤاد فمشاهدة البصيرة لموعود الجزاء حتى كأنه ينظر إليه لترتاح النفس بخيره وترتاع من شره ، كما قال حارثة : " كأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة ينعمون وإلى أهل النار في النار يعذبون " ، فأثمر له ذلك ما أخبر به عن نفسه في قوله : " وعزفت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي ذهبها وخزفها " ، وخصوصا من أيد بالمبشرات من الرؤيا الصالحة والكشف الصادق ليدع الفاني للباقي على يقين ومشاهدة ، وإما من جهة حال النفس فالصبر بحبسها عما تشتهيه طبعا مما هو محلل لها شرعا ، رضي الله عنه لما رثى لحاله : " أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ لعمر " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعينوا بالصبر ، وقتلها بإضنائها منها هو حياتها ، [ ص: 329 ] وإطلاقها ترتع في شهواتها هو تدسيتها ، وصبر النفس عن شهواتها وإن كانت حلالا هو حقيقة تزكيتها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها والنفس مطية يقويها إنضاؤها ، ويضعفها استمتاعها ، وحبسها عن ذلك شائع في جهات وجوه الحلال كلها إلا في شيئين : في النساء بكلمة الله ، لأنهم من ذات نفس الرجال ولسن غيرا لهم هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها و وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا والثاني في الطيب ، لأنه غذاء للروح وتقوية للحواس ونسمة من باطن الملكوت إلى ظاهر الملك ، وما عداهما فالاستمتاع به وإتباع النفس هواها فيه علامة تكذيب وعد الرحمن وتصديق وعد الشيطان وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا هذا من جهة النفس ، وأما من جهة العمل وتناول اليد فرفعها عما زاد [ ص: 330 ] على الكفاف وتخليته لذوي الحاجة ليتخذوه معاشا ، وأن يكون التمول من غير القوام تجارة نقل وضرب في الأرض وإرصاد لوقت حاجة لا حكرة وتضييقا ، اتخاذ أكثر من لبستين للمهنة والجمعة علامة لضعف الإيمان وخلاف السنة وانقطاع عن آثار النبوة وعدول عن سنة الخلفاء وترك لشعار الصالحين ، وكذلك تصفية لباب الطعام وقصد المستحسن في الصورة دون المستحسن في العلم وإيثار الطيب في المطعم على الطيب في الورع وتكثير الأدم وتلوين الأطعمة ، وكذلك اتخاذ أكثر من مسكن واحد وأكثر من مزدرع كاف ورفع البناء والاستشراف بالمباني ، امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من رد السلام على رجل اتخذ قبة في المدينة حتى هدمها وسواها مع بيوت أهل المدينة ، وإنما ، وإن لم يشعر بأنها سجن فوسع فيها على نفسه طلب البقاء فيها وليست بباقية ، والخيل ثلاثة : أجر للمجاهد ، ووزر على المباهي ، [ ص: 331 ] وعفو للمستكفي بها فيما يعنيه من شأنه ، والزيادة على الكفاف من النعم السائمة انقطاع عن آثار النبوة وتضييق على ذوي الحاجة وتمول لما وضع لإقامة المعاش وأن يتخذ منه الكفاف ، قال صلى الله عليه وسلم : " الدنيا للمؤمن سجن إن شعر به وضيق فيه على نفسه طلبت السراح منه إلى الآخرة فيسعد " لنا غنم مائة لا نريد أن تزيد ، فإذا ولد الراعي بهمة ذبحنا مكانها شاة والطعام لا يتمول وكذلك ما اتخذ للقوام لا يحتكره إلا خاطئ " " . فالأمتعة تجلب وتختزن ويستنمى فيه الدينار والدراهم ، والطعام والقوام يجلب ولا يختزن فيستنمى فيه الدينار والدرهم ، ومن اختزنه يستنمي فيه الدينار والدرهم فقد احتكره ، وما منع فيه من مد العين فأحرى أن يمنع فيه مد اليد من احتكر طعاما أربعين يوما فقد برئ من الله وبرئ الله منه لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا الآيتين ، فبهذه [ ص: 332 ] الأمور من إيمان القلب ورؤية الفؤاد وصبر النفس وكف اليد عن الانبساط في التمول فيما به القوام تحصل قراءة حرف النهي ، والله ولي التأييد . انتهى .