ثم علمهم بما لم ينالوا من قتل أعظم من جاء من أنبيائهم؛ بأعظم ما رأوا من الآيات من بعد موسى؛ وهو عيسى - عليهما الصلاة والسلام -؛ ثم بادعائهم لقتله؛ وصلبه؛ افتخارا به؛ مع شكهم فيه؛ فقال: وقولهم إنا قتلنا المسيح ؛ ثم بينه بقوله: عيسى ابن مريم ؛ ثم تهكموا به بقولهم رسول الله [ ص: 465 ] ؛ أي: الذي له أنهى العظمة؛ فجمعوا بين أنواع من القبائح؛ منها التشيع بما لم يعطوا؛ ومنها أنه - على تقدير صدقهم - جامع لأكبر الكبائر مطلقا؛ وهو الكفر بقتل النبي؛ لكونه نبيا؛ بعده؛ وهو مطلق القتل؛ ولم يكفهم ذلك حتى كانوا يصفونه بالرسالة مضافة إلى الاسم الأعظم؛ استهزاء به؛ وبمن أرسله - عز اسمه؛ وجلت عظمته؛ وتعالى كبرياؤه؛ وتمت كلماته؛ ونفذت أوامره - لكونه لم يمنعه منهم - على زعمهم - وأكبر الكبائر وما ؛ أي: والحالة أنهم ما قتلوه وما صلبوه ؛ وإن كثر قائلو ذلك منهم؛ وسلمه لهم النصارى؛ ولكن ؛ لما كان المقصود وقوع اللبس عليهم؛ الضار لهم؛ لا لكونه من معين؛ قال: شبه لهم ؛ أي: فكانوا في عزمهم بذلك متشيعين بما لم يعطوا.
ولما أفهم التشبيه الاختلاف؛ فكان التقدير: "فاختلفوا بسبب التشبيه في قتله؛ فمنهم من قال: قتلناه؛ جازما؛ ومنهم من قال: ليس هو المقتول؛ ومنهم من قال: الظاهر أنه هو"؛ عطف عليه قوله - دالا على شكهم باختلافهم -: وإن الذين اختلفوا فيه ؛ أي: في قتله؛ لفي شك منه ؛ أي: تردد مستوي الطرفين؛ كلهم؛ وإن جزم بعضهم؛ ثم أكد هذا المعنى بقوله: ما لهم به ؛ وأغرق في النفي بقوله: من علم [ ص: 466 ] ولما كانوا يكلفون أنفسهم اعتقاد ذلك؛ بالنظر في شهادته؛ فربما قويت عندهم شبهة؛ فصارت أمارة أوجبت لهم - لشغفهم بآمالها - ظنا؛ ثم اضمحلت في الحال؛ لكونها لا حقيقة لها؛ فعاد الشك؛ وكان أبلغ في التحير; قال: إلا ؛ أي: لكن؛ اتباع الظن ؛ أي: يكلفون أنفسهم الارتقاء من درك الشك إلى رتبة الظن؛ وعبر بأداة الاستثناء دون "لكن"؛ الموضوعة للانقطاع؛ إشارة إلى أن إدراكهم لما زعموه من قتله؛ مع كونه في الحقيقة شكا؛ يكلفون أنفسهم جعله ظنا؛ ثم يجزمون به؛ ثم صار عندهم متواترا قطعيا؛ فلا أجهل منهم.
ولما أخبر بشكهم فيه بعد الإخبار بنفيه؛ أعاد ذلك على وجه أبلغ؛ فقال: وما قتلوه ؛ أي: انتفى قتلهم له انتفاء؛ يقينا ؛ أي: انتفاؤه على سبيل القطع؛ ويجوز أن يكون حالا من "قتلوه"؛ أي: ما فعلوا القتل متيقنين أنه عيسى - عليه الصلاة والسلام -؛ بل فعلوه شاكين فيه؛ والحق أنهم لم يقتلوا إلا الرجل الذي ألقي شبهه عليه؛ والوجه الأول أولى؛ لقوله: