قال : الزمخشري "في السماوات" متعلق بمعنى اسم الله، كأنه قيل: وهو المعبود فيها - ومنه: وهو الذي في السماء إله - أو هو المعروف بالإلهية والمتوحد بالإلهية فيها، أو هو الذي يقال له: "الله" لا يشركه في هذا الاسم غيره". قلت: إنما قال: "أو هو المعروف، أو هو الذي يقال له: الله"؛ لأن هذا الاسم الشريف تقدم لك فيه خلاف: هل هو مشتق أو لا ؟ فإن كان مشتقا ظهر تعلق الجار به، وإن كان ليس بمشتق: فإما أن يكون منقولا أو مرتجلا، وعلى كلا التقديرين فلا يعمل؛ لأن الأعلام لا تعمل، فاحتاج أن يتأول ذلك على كل قول من هذه الأقوال الثلاثة، فقوله: "المعبود" راجع للاشتقاق، وقوله: "المعروف" راجع لكونه علما منقولا، وقوله: "الذي يقال له: الله" راجع إلى كونه مرتجلا، وكأنه - رحمه الله - استشعر بالاعتراض المذكور. والاعتراض منقول عن قال: "وإذا جعلت الظرف [ ص: 530 ] متعلقا باسم الله، جاز عندي على قياس من يقول: إن الله أصله الإله، ومن ذهب بهذا الاسم مذهب الأعلام وجب أن لا يتعلق به عنده، إلا أن تقدر فيه ضربا من معنى الفعل"، فكأن الفارسي، - والله أعلم - أخذ هذا من قول الزمخشري وبسطه. إلا أن الفارسي نقل عن أبا البقاء أنه لا يتعلق "في" باسم الله؛ لأنه صار بدخول الألف واللام، والتغيير الذي دخله كالعلم، ولهذا قال تعالى: أبي علي هل تعلم له سميا . فظاهر هذا النقل أنه يمنع التعلق به وإن كان في الأصل مشتقا.
وقال "هو متعلق بما تضمنه اسم الله من المعاني، كقولك: "أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب". قال الزجاج: : "هذا عندي أفضل الأقوال وأكثرها إحرازا لفصاحة اللفظ، وجزالة المعنى". وإيضاحه: أنه أراد أن يدل على خلقه وآثار قدرته، وإحاطته واستيلائه، ونحو هذه الصفات، فجمع هذه كلها في قوله: ابن عطية وهو الله أي: الذي له هذه كلها في السماوات وفي الأرض، كأنه قال: وهو الخالق، والرازق، والمحيي، والمحيط في السماوات وفي الأرض، كما تقول: "زيد السلطان في الشام والعراق"، فلو قصدت ذات زيد لكان محالا، فإذ كان مقصد قولك: [ زيد ] الآمر الناهي الذي يولي ويعزل، كان فصيحا صحيحا، فأقمت السلطنة مقام هذه الصفات، كذلك في الآية الكريمة أقمت "الله" مقام تلك الصفات".
قال الشيخ: "ما ذكره وأوضحه الزجاج، صحيح من حيث [ ص: 531 ] المعنى، لكن صناعة النحو تساعد عليه؛ لأنهما زعما أن "في السماوات" متعلق باسم الله لما تضمنه من تلك المعاني، ولو صرح بتلك المعاني لم تعمل فيه جميعها، بل العمل من حيث اللفظ لواحد منها، وإن كان ابن عطية "في السماوات" متعلقا بجميعها من حيث المعنى، بل الأولى أن يتعلق بلفظ "الله" لما تضمنه من معنى الألوهية وإن كان علما؛ لأن العلم يعمل في الظرف لما يتضمنه من المعنى، كقوله:
1863 - أنا أبو المنهال بعض الأحيان
فـ "بعض" نصب بالعلم؛ لأنه في معنى أنا المشهور". قلت: قوله: "لو صرح بها لم تعمل" ممنوع، بل تعمل ويكون عملها على سبيل التنازع، مع أنه لو سكت عن الجواب لكان واضحا. ولما ذكر الشيخ ما قاله ، قال: "فانظر كيف قدر العامل فيها واحدا لا جميعها"، يعني: أنه استنصر به فيما رد به على الزمخشري الزجاج وابن عطية.
الوجه الثاني: أن "في السماوات" متعلق بمحذوف هو صفة لله تعالى حذفت لفهم المعنى، فقدرها بعضهم: وهو الله المعبود، وبعضهم: وهو الله المدبر، وحذف الصفة قليل جدا لم يرد منه إلا موضع يسيرة على نظر فيها، فمنها: وكذب به قومك ؛ أي: المعاندون، إنه ليس من أهلك ؛ أي: الناجين، فلا ينبغي أن يحمل هذا عليه.
الوجه الثالث: قال "- وهو أحسن ما قيل فيه - إن الكلام [ ص: 532 ] تم عند قوله: النحاس: "وهو الله"، والمجرور متعلق بمفعول "يعلم" وهو "سركم وجهركم"؛ [ أي: ] يعلم سركم وجهركم فيهما". وهذا ضعيف جدا لما فيه من تقديم معمول المصدر عليه، وقد عرف ما فيه.
الوجه الرابع: أن الكلام تم أيضا عند الجلالة، ويتعلق الظرف بنفس "يعلم" وهذا ظاهر، و "يعلم" على هذين الوجهين مستأنف.
الوجه الخامس: أن الكلام تم عند قوله: "في السماوات"، فيتعلق "في السماوات" باسم الله، على ما تقدم، ويتعلق "في الأرض" بـ "يعلم"، وهو قول قال الطبري. : "وهو ضعيف؛ لأن الله تعالى معبود في السماوات وفي الأرض، ويعلم ما في السماوات وما في الأرض، فلا تتخصص إحدى الصفتين بأحد الظرفين"، وهو رد جميل. أبو البقاء
الوجه السادس: أن "في السماوات" متعلق بمحذوف على أنه حال من "سركم"، ثم قدمت الحال على صاحبها وعلى عاملها.
السابع: أنه متعلق بـ "يكسبون"، وهذا فاسد من جهة أنه يلزم منه تقديم معمول الصلة على الموصول؛ لأن "ما" موصولة اسمية أو حرفية، وأيضا فالمخاطبون كيف يكسبون في السماوات ؟ ولو ذهب هذا القائل إلى أن الكلام تم عند قوله: "في السماوات"، وعلق "في الأرض" بـ "يكسبون"، لسهل الأمر من حيث المعنى لا من حيث الصناعة.
الثامن: أن “الله" خبر أول، و "في السماوات" خبر ثان. قال : "على معنى: أنه الله وأنه في السماوات وفي الأرض، وعلى [ ص: 533 ] معنى: أنه عالم بما فيهما لا يخفى عليه شيء، كأنه ذاته فيهما". قال الشيخ: "وهذا ضعيف؛ لأن المجرور بـ "في" لا يدل على كون مقيد، إنما يدل على كون مطلق"، وهذا سهل الجواب لتقدمه مرارا. الزمخشري
التاسع: أن يكون "هو" مبتدأ، و "الله" بدل منه، و "يعلم" خبره، و "في السماوات" على ما تقدم.
العاشر: أن يكون "الله" بدلا أيضا، و "في السماوات" الخبر بالمعنى الذي قاله . الزمخشري
الحادي عشر: أن "هو" ضمير الشأن في محل رفع بالابتداء، والجلالة مبتدأ ثان، وخبرها "في السماوات" بالمعنى المتقدم أو "يعلم"، والجملة خبر الأول - وهو الثاني عشر - مفسرة له.
وأما "يعلم" فقد عرفت تفاصيل ما تقدم أنه يجوز أن يكون مستأنفا، فلا محل [ له ]، أو في محل رفع خبرا، أو في محل نصب على الحال، و "سركم وجهركم": يجوز أن يكونا على بابهما من المصدرية ويكونان مضافين للفاعل. وأجاز أن يكونا واقعين موقع المفعول به؛ أي: مسركم ومجهوركم، واستدل بقوله تعالى: أبو البقاء يعلم ما يسرون وما يعلنون ، ولا دليل [ فيه ]؛ لأنه يجوز أن تكون "ما" مصدرية. و "ما" في "ما تكسبون" يحتمل أن تكون مصدرية - وهو الأليق لمناسبة المصدرين قبلها - وأن تكون بمعنى الذي.