واختلف النحاة في أيتهما المحذوفة: فمذهب ومن تبعه أن المحذوفة هي الأولى، ومذهب سيبويه ومن تبعه أن المحذوفة هي الثانية، استدل الأخفش على ذلك بأن نون الرفع قد عهد حذفها دون ملاقاة مثل رفعا، وأنشد: سيبويه
1968 - فإن يك قوم سرهم ما صنعتم ستحتلبوها لاقحا غير باهل
أي: فستحتلبونها، لا يقال إن النون حذفت جزما في جواب الشرط; لأن الفاء هنا واجبة الدخول لعدم صلاحية الجملة الجزائية شرطا، وإذا تقرر وجوب الفاء، وإنما حذفت ضرورة، ثبت أن نون الرفع كان من حقها الثبوت [ ص: 17 ] إلا أنها حذفت ضرورة، وأنشدوا أيضا قوله:
1969 - أبيت أسري وتبيتي تدلكي وجهك بالعنبر والمسك الذكي
أي: تبيتين وتدلكين، وفي الحديث: فـ "لا" الداخلة على "تدخلوا" و"تؤمنوا" نافية لا ناهية، لفساد المعنى عليه، وإذا ثبت حذفها دون ملاقاة "مثل" رفعا فلأن تحذف مع ملاقاة "مثل" استثقالا بطريق الأولى والأحرى، وأيضا فإن النون نائبة عن الضمة، والضمة قد عهد حذفها في فصيح الكلام كقراءة "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا" ينصركم ويشعركم ويأمركم وبابه بسكون آخر الفعل، وقوله: أبي عمرو:
1970 - فاليوم أشرب غير مستحقب إثما من الله ولا واغل
وإذا ثبت حذف الأصل فليثبت حذف الفرع لئلا يلزم تفضيل فرع على أصله، وأيضا فإن ادعاء حذف نون الرفع لا يحوج إلى حذف آخر، وحذف نون الوقاية قد يحوج إلى ذلك، وبيانه أنه إذا دخل جازم أو ناصب على أحد هذه الأمثلة فلو كان المحذوف نون الوقاية لكان ينبغي أن تحذف هذه النون لأنها نون رفع وهي تسقط للناصب والجازم، بخلاف ادعاء حذف نون الرفع، فإنه لا يحوج إلى ذلك لأنه لا عمل له في التي للوقاية.
ولقائل أن يقول: لا يلزم من جواز حذف الأصل حذف الفرع، لأن في [ ص: 18 ] الأصل قوة تقتضي جواز حذفه بخلاف الفرع، وعلى الآخر له أن يقول: هذا معارض بإلغاء العامل: وذلك أنه لو كان المحذوف نون الرفع لأجل نون الوقاية ودخل الجازم والناصب لم يجد له شيئا يحذفه; لأن النون حذفت لعارض آخر. واستدلوا أيضا بأن نون الوقاية مكسورة، فبقاؤها على حالها لا يلزم منه تغيير بخلاف ما لو ادعينا حذفها فإنا يلزمنا تغيير نون الرفع من فتح إلى كسر، وتقليل العمل أولى، واستدلوا أيضا بأنها قد حذفت مع مثلها وإن لم يكن نون وقاية كقوله: لسيبويه
1971 - كل له نية في بغض صاحبه بنعمة الله نقليكم وتقلونا
أي: وتقلوننا، فالمحذوف نون الرفع لا نون "نا" لأنها بعض ضمير، وعورض هذا بأن نون الرفع أيضا لها قوة لدلالتها على الإعراب، فحذفها أيضا لا يجوز، وجعل المحذوفة من قول الشاعر: سيبويه
1972 - تراه كالثغام يعل مسكا يسوء الفاليات إذا فليني
نون الفاعل لا نون الوقاية، واستدل بأن الثقل إنما حصل بالثانية، ولأنه قد استغني عنها، فإنه إنما أتي بها لتقي الفعل من الكسر، وهو مأمون لوقوع الكسر على نون الرفع، ولأنها لا تدل على معنى بخلاف نون الرفع، وأيضا فإنها تحذف في نحو: ليتني فيقال: ليتي، كقوله: الأخفش
1973 - كمنية جابر إذ قال ليتي أصادفه وأتلف بعض مالي
واعلم أن حذف النون في هذا النحو جائز فصيح، ولا يلتفت إلى قول [ ص: 19 ] من منع ذلك إلا في ضرورة أو قليل من الكلام، ولهذا عيب على حيث قال: "الحذف بعيد في العربية قبيح مكروه، وإنما يجوز في الشعر للوزن، والقرآن لا يحتمل ذلك فيه إذ لا ضرورة تدعو إليه" . وتجاسر بعضهم فقال: "هذه القراءة أعني تخفيف النون لحن" وهذان القولان مردودان عليهما لتواتر ذلك، وقد قدمت الدليل على صحته لغة، وأيضا فإن الثقات نقلوا أنها لغة ثابتة مكي ابن أبي طالب للعرب وهم غطفان فلا معنى لإنكارها.
و"في الله" متعلق بـ "أتحاجوني" لا بـ "حاجه" ، والمسألة من باب التنازع، وأعمل الثاني لأنه لما أضمر في الأول حذف، ولو أعمل الأول لأضمر في الثاني من غير حذف، ومثله: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ، كذا قال الشيخ، وفيه نظر، من حيث إن المعنى ليس على تسلط "وحاجه" على قوله "في الله" ; إذ الظاهر انقطاع الجملة القولية مما قبلها. وقوله "في الله" أي في شأنه ووحدانيته.
قوله: "وقد هداني" في محل نصب على الحال، وفي صاحبها وجهان أظهرهما: أنه التاء في "أتحاجونني" أي: أتجادلونني فيه حال كوني مهديا من عنده.
والثاني: أنه حال من "الله" أي: أتخاصمونني فيه حال كونه هاديا لي، فحجتكم لا تجدي شيئا لأنها داحضة.
قوله: ولا أخاف ما تشركون به هذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفة، أخبر عليه السلام بأنه لا يخاف ما تشركون به ربه ثقة به، وكانوا قد خوفوه من ضرر يحصل له بسبب سب آلهتهم، ويحتمل أن تكون في محل نصب على الحال باعتبارين أحدهما: أن تكون ثانية عطفا على الأولى، فتكون الحالان [ ص: 20 ] من الياء في "أتحاجوني" . والثاني: أنها حال من الياء في "هداني" فتكون جملة حالية من بعض جملة حالية فهي قريبة من الحال المتداخلة، إلا أنه لا بد من إضمار مبتدإ على هذا الوجه قبل الفعل المضارع، لما تقدم من أن الفعل المضارع بـ "لا" حكمه حكم المثبت من حيث إنه لا تباشره الواو.
و"ما" يجوز فيها الأوجه الثلاثة: أن تكون مصدرية، وعلى هذا فالهاء في "به" لا تعود على "ما" عند الجمهور، بل تعود على الله تعالى، والتقدير: ولا أخاف إشراككم بالله، والمفعول محذوف أي: ما تشركون غير الله به، وأن تكون بمعنى الذي، وأن تكون نكرة موصوفة، والهاء في "به" على هذين الوجهين تعود على "ما" ، والمعنى: ولا أخاف الذي تشركون الله به، فحذف المفعول أيضا كما حذفه في الوجه الأول، وقدر قبل الضمير مضافا فقال: "ويجوز أن تكون الهاء عائدة على "ما" أي: ولا أخاف الذي تشركون بسببه ، ولا حاجة إلى ذلك. أبو البقاء
قوله: إلا أن يشاء في هذا الاستثناء قولان، أظهرهما: أنه متصل، والثاني: أنه منقطع، والقائلون بالاتصال: اختلفوا في المستثنى منه، فجعله زمانا فقال: "إلا وقت مشيئة ربي شيئا يخاف، فحذف الوقت يعني: لا أخاف معبوداتكم في وقت قط; لأنها لا تقدر على منفعة ولا مضرة إلا إذا شاء ربي" . وجعله الزمخشري حالا فقال: تقديره إلا في حال مشيئة ربي أي: لا أخافها في كل حال إلا في هذه الحال. وممن ذهب إلى انقطاعه أبو البقاء ابن عطية والحوفي في أحد الوجهين، فقال وأبو البقاء "تقديره: لكن مشيئة الله إياي بضر أخاف" ، وقال الحوفي: "استثناء ليس من الأول [ ص: 21 ] ولما كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضرا استثنى مشيئة ربه في أن يريده بضر". ابن عطية:
قوله: "شيئا" يجوز فيه وجهان، أظهرهما: أنه منصوب على المصدر تقديره: إلا أن يشاء ربي شيئا من المشيئة، والثاني: أنه مفعول به ليشاء، وإنما كان الأول أظهر لوجهين، أحدهما: أن الكلام المؤكد أقوى وأثبت في النفس من غير المؤكد.
والثاني: أنه قد تقدم أن مفعول المشيئة والإرادة لا يذكران إلا إذا كان فيهما غرابة كقوله:
1974 - ولو شئت أن أبكي دما لبكيته ... ... ... ...
قوله: "علما" فيه وجهان، أظهرهما: أنه منصوب على التمييز، وهو محول عن الفاعل تقديره: وسع علم ربي كل شيء، كقوله: واشتعل الرأس شيبا . والثاني: أنه منصوب على المفعول المطلق; لأن معنى وسع علم. قال "لأن ما يسع الشيء فقد أحاط به، والعالم بالشيء محيط بعلمه" وهذا الذي ادعاه من المجاز بعيد. و"كل شيء" مفعول لوسع على كلا التقديرين. و"أفلا تتذكرون" جملة تقرير وتوبيخ، ولا محل لها لاستئنافها. أبو البقاء: