[ ص: 325 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[155 ]
nindex.php?page=treesubj&link=19573_32495_34308_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=155ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين [156 ]
nindex.php?page=treesubj&link=24582_32495_33155_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=156الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون
وقوله تعالى : "ولنبلونكم بشيء" خطاب لمن آمن مع النبي صلى الله عليه وسلم ، خصوا به ، وإن شمل من ماثلهم ، لأنهم المباشرون للدعوة والجهاد ، ومكافحة الفجار . وكل قائم بحق ، وداع إليه ، معرض للابتلاء بما ذكر ، كله أو بعضه . والتنوين للتقليل ; أي : بقليل من كل واحد من هذه البلايا وطرف منه ، وإنما قلل ليؤذن أن كل بلاء أصاب الإنسان ، وإن جل ، ففوقه ما يقل إليه ، وليخفف عليهم ويريهم أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم ، وإنما أخبر به قبل الوقوع ، ليوطنوا عليه نفوسهم ، ويزداد يقينهم ، عند مشاهدتهم له حسبما أخبر به ، وليعلموا أنه شيء يسير ، له عاقبة حميدة "من الخوف" أي خوف العدو والإرجاف به "والجوع" أي الفقر ، للشغل بالجهاد ، أو فقد الزاد ، إذا كنتم في سرية تجاهدون في سبيل الله . وقد كان يتفق لهم ذلك أياما يتبلغون فيها بتمرة "ونقص من الأموال" أي : لانقطاعهم بالجهاد عن عمارة بساتينهم ، أو لافتقاد بعضها بسبب الهجرة ، وترك شيء منه في البلدة المهاجر منها "والأنفس" بقتلها شهيدة في سبيل الله ، أو ذهاب أطرافها فيه "والثمرات" أي بأن لا نغل الحدائق كعادتها ، للغيبة عنها في سبيل الله ، وفقد من يتعاهدها ، وخصت بالذكر لأنها أعظم أموال الأنصار الذين هم أخص الناس بهذا الذكر لا سيما في وقت نزول هذه الآيات ، وهو أول زمان الهجرة . فكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده كما قال
[ ص: 326 ] nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=31ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين قال
nindex.php?page=showalam&ids=14343الراغب: هذه الآية مشتملة على محن الدنيا كلها : أي إذا نظر إلى عموم كل فرد مما ذكر فيها ، وقطع النظر عن خصوص حال المخاطبين فيها ، بما يدل عليه سابقه .
ثم بين تعالى ما للصابرين عنده بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=155وبشر الصابرين nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=156الذين إذا أصابتهم مصيبة مكروه ، اسم فاعل من أصابته شدة : لحقته . أي كهذه البلايا "قالوا إنا لله" أي ملكا وخلقا، فلا ينبغي أن نخاف غيره ، لأنه غالب على الكل ، أو نبالي بالجوع ; لأن رزق العبد على سيده ، فإن منع وقتا ، فلا بد أن يعود إليه . وأموالنا وأنفسنا وثمراتنا ملك له ، فله أن يتصرف فيها بما يشاء "وإنا إليه راجعون" في الدار الآخرة . فيحصل لنا عنده ما فوته علينا . لأنه لا يضيع أجر المحسنين . فالمصاب يهون عليه خطبه ، إذا تسلى بقوله هذا ، وتصور ما خلق له ، وأنه راجع إلى ربه ، وتذكر نعم الله عليه ، ورأى أن ما أبقى عليه أضعاف ما استرده منه . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14343الراغب : وليس يريد بالقول اللفظ فقط ، فإن التلفظ بذلك مع الجزع القبيح وتسخط القضاء ليس يغني شيئا ، وإنما يريد تصور ما خلق الإنسان لأجله والقصد له ، والاستهانة بما يعرض في طريق الوصول إليه ، فأمر تعالى ببشارة من اكتسب العلوم الحقيقية وتصورها ، وقصد هذا المقصد ووطن نفسه عليه .
(ثم قال) إن قيل : ولم قلت : إن الأمر بالصبر يقتضي العلم ؟ قيل : الصبر في الحقيقة إنما يكون لمن عرف فضيلة مطلوبه .
[ ص: 325 ] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[155 ]
nindex.php?page=treesubj&link=19573_32495_34308_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=155وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [156 ]
nindex.php?page=treesubj&link=24582_32495_33155_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=156الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ" خِطَابٌ لِمَنْ آمَنَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، خُصُّوا بِهِ ، وَإِنْ شَمِلَ مَنْ مَاثَلَهُمْ ، لِأَنَّهُمُ الْمُبَاشِرُونَ لِلدَّعْوَةِ وَالْجِهَادِ ، وَمُكَافَحَةِ الْفُجَّارِ . وَكُلُّ قَائِمٍ بِحَقٍّ ، وَدَاعٍ إِلَيْهِ ، مُعَرَّضٌ لِلِابْتِلَاءِ بِمَا ذَكَرَ ، كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ . وَالتَّنْوِينُ لِلتَّقْلِيلِ ; أَيْ : بِقَلِيلٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْبَلَايَا وَطَرَفٍ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا قَلَّلَ لِيُؤْذَنَ أَنَّ كُلَّ بِلَاءٍ أَصَابَ الْإِنْسَانَ ، وَإِنْ جَلَّ ، فَفَوْقَهُ مَا يَقِلُّ إِلَيْهِ ، وَلِيُخَفِّفَ عَلَيْهِمْ وَيُرِيَهُمْ أَنَّ رَحْمَتَهُ مَعَهُمْ فِي كُلِّ حَالٍ لَا تُزَايِلُهُمْ ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ بِهِ قَبْلَ الْوُقُوعِ ، لِيُوَطِّنُوا عَلَيْهِ نُفُوسَهُمْ ، وَيَزْدَادَ يَقِينُهُمْ ، عِنْدَ مُشَاهَدَتِهِمْ لَهُ حَسْبَمَا أُخْبِرَ بِهِ ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّهُ شَيْءٌ يَسِيرٌ ، لَهُ عَاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ "مِنَ الْخَوْفِ" أَيْ خَوْفِ الْعَدُوِّ وَالْإِرْجَافِ بِهِ "وَالْجُوعِ" أَيِ الْفَقْرِ ، لِلشَّغْلِ بِالْجِهَادِ ، أَوْ فَقْدِ الزَّادِ ، إِذَا كُنْتُمْ فِي سَرِيَّةٍ تُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَقَدْ كَانَ يَتَّفِقُ لَهُمْ ذَلِكَ أَيَّامًا يَتَبَلَّغُونَ فِيهَا بِتَمْرَةٍ "وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ" أَيْ : لِانْقِطَاعِهِمْ بِالْجِهَادِ عَنْ عِمَارَةِ بَسَاتِينِهِمْ ، أَوْ لِافْتِقَادِ بَعْضِهَا بِسَبَبِ الْهِجْرَةِ ، وَتَرْكِ شَيْءٍ مِنْهُ فِي الْبَلْدَةِ الْمُهَاجَرِ مِنْهَا "وَالْأَنْفُسِ" بِقَتْلِهَا شَهِيدَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ ذَهَابِ أَطْرَافِهَا فِيهِ "وَالثَّمَرَاتِ" أَيْ بِأَنْ لَا نَغِلَّ الْحَدَائِقَ كَعَادَتِهَا ، لِلْغَيْبَةِ عَنْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَفَقْدِ مَنْ يَتَعَاهَدُهَا ، وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ أَمْوَالِ الْأَنْصَارِ الَّذِينَ هُمْ أَخَصُّ النَّاسِ بِهَذَا الذِّكْرِ لَا سِيَّمَا فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ ، وَهُوَ أَوَّلُ زَمَانِ الْهِجْرَةِ . فَكُلُّ هَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يَخْتَبِرُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ كَمَا قَالَ
[ ص: 326 ] nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=31وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14343الرَّاغِبُ: هَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مِحَنِ الدُّنْيَا كُلِّهَا : أَيْ إِذَا نَظَرَ إِلَى عُمُومِ كُلِّ فَرْدٍ مِمَّا ذَكَرَ فِيهَا ، وَقَطَعَ النَّظَرَ عَنْ خُصُوصِ حَالِ الْمُخَاطَبِينَ فِيهَا ، بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سَابِقُهُ .
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا لِلصَّابِرِينَ عِنْدَهُ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=155وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=156الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ مَكْرُوهٌ ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَصَابَتْهُ شِدَّةٌ : لَحِقَتْهُ . أَيْ كَهَذِهِ الْبَلَايَا "قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ" أَيْ مُلْكًا وَخَلْقًا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ نَخَافَ غَيْرَهُ ، لِأَنَّهُ غَالِبٌ عَلَى الْكُلِّ ، أَوْ نُبَالِي بِالْجُوعِ ; لِأَنَّ رِزْقَ الْعَبْدِ عَلَى سَيِّدِهِ ، فَإِنْ مُنِعَ وَقْتًا ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ . وَأَمْوَالُنَا وَأَنْفُسُنَا وَثَمَرَاتُنَا مِلْكٌ لَهُ ، فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا بِمَا يَشَاءُ "وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ" فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ . فَيَحْصُلُ لَنَا عِنْدَهُ مَا فَوَّتَهُ عَلَيْنَا . لِأَنَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ . فَالْمُصَابُ يَهُونُ عَلَيْهِ خَطْبُهُ ، إِذَا تَسَلَّى بِقَوْلِهِ هَذَا ، وَتَصَوَّرَ مَا خُلِقَ لَهُ ، وَأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى رَبِّهِ ، وَتَذَكَّرَ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَرَأَى أَنَّ مَا أَبْقَى عَلَيْهِ أَضْعَافُ مَا اسْتَرَدَّهُ مِنْهُ . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14343الرَّاغِبُ : وَلَيْسَ يُرِيدُ بِالْقَوْلِ اللَّفْظَ فَقَطْ ، فَإِنَّ التَّلَفُّظَ بِذَلِكَ مَعَ الْجَزَعِ الْقَبِيحِ وَتَسَخُّطِ الْقَضَاءِ لَيْسَ يُغْنِي شَيْئًا ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ تَصَوُّرَ مَا خُلِقَ الْإِنْسَانُ لِأَجْلِهِ وَالْقَصْدَ لَهُ ، وَالِاسْتِهَانَةَ بِمَا يَعْرِضُ فِي طَرِيقِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ ، فَأَمَرَ تَعَالَى بِبِشَارَةِ مَنِ اكْتَسَبَ الْعُلُومَ الْحَقِيقِيَّةَ وَتَصَوَّرَهَا ، وَقَصَدَ هَذَا الْمَقْصِدِ وَوَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ .
(ثُمَّ قَالَ) إِنْ قِيلَ : وَلِمَ قُلْتَ : إِنَّ الْأَمْرَ بِالصَّبْرِ يَقْتَضِي الْعِلْمَ ؟ قِيلَ : الصَّبْرُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ عَرَفَ فَضِيلَةَ مَطْلُوبِهِ .