القول في تأويل قوله تعالى :
[68-69]
nindex.php?page=treesubj&link=28659_31742_31757_32412_32438_33679_34244_34276_34513_28987nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=68وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون nindex.php?page=treesubj&link=17338_28659_32412_32438_33679_34244_34276_34513_28987nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون .
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=68وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون المراد من الوحي : الإلهام والهداية إلى بنائها تلك البيوت العجيبة المسدسة ، من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض ، مما لا يمكن مثله للبشر إلا بأدوات وآلات . وقد أرشدها تعالى إلى بنائها بيوتا تأوي إليها في ثلاثة أمكنة : الجبال . والشجر . وبيوت الناس ، حيث يعرشون ، أي : يبنون العروش ، جمع ( عرش ) وهو البيت الذي يستظل به كالعريش . وليس للنحل بيت في غير هذه الأمكنة : الجبال والشجر وبيوت الناس . وأكثر بيوتها ما كان في الجبال ، وهو المتقدم في الآية ، ثم في الشجر دون ذلك ، ثم في الثالث أقل .
فالنحل إذا نوعان : جبلية تسكن في الجبال والفيافي لا يتعهدها أحد من الناس . وأهلية تأوي إلى البيوت وتتعهد في الخلايا . ومن بديع الإلهام فيها اتخاذها البيوت قبل المرعى . فهي تتخذها أولا . فإذا استقر لها بيت خرجت منه ، فرعت ، وأكلت من الثمرات ، ثم أوت إلى بيوتها . وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69ثم كلي من كل الثمرات أي : من كل ثمرة تشتهيها ، حلوها ومرها . فالعموم عرفي ، أو لفظ ( كل ) للتكثير ، أو هو عام مخصوص بالعادة . ولو أبقي الأمر على ظاهره لجاز ؛ لأنه لا يلزم من الأمر بالأكل من جميع الثمرات الأكل منها ؛ لأن الأمر للتخلية والإباحة .
[ ص: 3827 ] لطيفة :
إنما أوثر ( من ) في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=68من الجبال إلخ ، على ( في ) دلالة على معنى التبعيض . وأن لا تبنى بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش ، ولا في كل مكان منها . نبه عليه
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري .
قال
الناصر : ويتزين هذا المعنى الذي نبه عليه في تبعيض ( من ) المتعلقة باتخاذ البيوت ، بإطلاق الأكل . كأنه تعالى وكل الأكل إلى شهوتها واختيارها ، فلم يحجر عليها فيه ، وإن حجر عليها في البيوت وأمرت باتخاذها في بعض المواضع دون بعض ؛ لأن مصلحة الآكل حاصلة على الإطلاق باستمرار مشتهاها منه . وأما البيوت فلا تحصل مصلحتها في كل موضع . ولهذا المعنى دخلت ( ثم ) لتفاوت الأمر بين الحجر عليها في اتخاذ البيوت ، والإطلاق لها في تناول الثمرات . كما تقول : راع الحلال فيما تأكله ، ثم كل أي شيء شئت . فتوسط ( ثم ) لتفاوت الحجر والإطلاق . فسبحان اللطيف الخبير .
وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69فاسلكي سبل ربك ذللا أي : الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل . فالسبل مجاز عن طرق العمل وأنواعها ، أو على حقيقتها . أي : إذا أكلت الثمار في المواضع النائية ، فاسلكي راجعة إلى بيوتك سبل ربك ، لا تتوعر عليك ولا تضلين فيها . و ( ذللا ) جمع ذلول ، حال من ( السبل ) أي : مذللة ذللها الله لك وسهلها . فهي تسلك من هذا الجو العظيم ، والبراري الشاسعة والأودية والجبال الشاهقة . ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة . وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69يخرج من بطونها شراب استئناف ، عدل به عن خطاب النحل ؛ لبيان ما يظهر منها من عجيب صنعه تعالى ؛ تعديدا للنعم ، وتنبيها على العبر ، وإرشادا إلى الآيات العظيمة من هذا الحيوان الضعيف . وسمي العسل شرابا ؛ لأنه يشرب مع الماء وغيره :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=28مختلف ألوانه أي فمنه أبيض وأصفر وأحمر ؛ لاختلاف ما يؤكل من النور أو مزاجها :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69فيه شفاء للناس لأنه من جملة الأشفية والأدوية في بعض الأمراض . وله دخل في أكثر ما به الشفاء والمعاجين ، وقل
[ ص: 3828 ] معجون من المعاجين ، لم يذكر الأطباء فيه العسل . وقد قام الآن مقامه السكر ، لكثرته بالنسبة إليه . وفي الصحيحين عن
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=655277أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي استطلق بطنه فقال : « اسقه عسلا » فذهب فسقاه عسلا ، فقال : يا رسول الله ! سقيته عسلا ما زاده إلا استطلاقا . قال : « اذهب فاسقه عسلا » فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال : يا رسول الله ! ما زاده إلا استطلاقا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « صدق الله وكذب بطن أخيك ، اذهب فاسقه عسلا . فذهب فسقاه عسلا فبرأ » .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير : قال بعض العلماء بالطب : كان هذا الرجل عنده فضلات . فلما سقاه عسلا وهو حار تحللت فأسرعت في الاندفاع ، فزاده إسهالا ، فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره ، وهو مصلحة لأخيه ، ثم سقاه فازداد التحليل والدفع ، ثم سقاه فكذلك ، فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن ، استمسك بطنه ، وصلح مزاجه واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته صلى الله عليه وسلم . انتهى .
وفي (" العناية ")
للشهاب هنا ، قصة عن طبقات الأطباء فيها تأييد لقصة الأعرابي فانظرها .
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون أي : فيعتبرون ويستدلون على وحدانيته سبحانه ، وانفراده بألوهيته ، وأنه هو الذي ألهم هذه الدواب الضعيفة فعلمت مساقط الأنداء ، من وراء البيداء ، فتقع على كل حرارة عبقة ، وزهرة أنقة ، ثم تصدر عنها بما تحفظه رضابا ، وتلفظه شرابا .
[ ص: 3829 ] قال الحجة
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي (" في الإحياء ") : انظر إلى النحل كيف أوحى الله إليها حتى اتخذت من الجبال بيوتا . وكيف استخرج من لعابها الشمع والعسل . وجعل أحدهما ضياء والآخر شفاء . ثم لو تأملت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار ، واحترازها من النجاسات والأقذار ، وطاعتها لواحد من جملتها وهو أكبرها شخصا وهو أميرها ، ثم ما سخر الله لأميرها من العدل والإنصاف بينها ، حتى أنه ليقتل منها على باب المنفذ كل ما وقع منها على نجاسة ؛ لقضيت من ذلك العجب إن كنت بصيرا في نفسك ، وفارغا من هم بطنك وفرجك ، وشهوات نفسك في معاداة أقرانك ، وموالاة إخوانك . ثم دع عنك جميع ذلك ، وانظر إلى بنيانها بيتا من الشمع ، واختيارها من جميع الأشكال الشكل المسدس ، فلا تبني بيتها مستديرا ولا مربعا ولا مخمسا ، بل مسدسا لخاصية في الشكل المسدس ، يقصر فهم المهندس عن درك ذلك . وهو أن أوسع الأشكال وأحواها المستدير وما يقرب منه . فإن المربع تخرج منه زوايا ضائعة . وشكل النحل مستدير مستطيل . فترك المربع حتى لا تبقى الزوايا فارغة . ثم لو بناها مستديرة لبقي خارج البيوت فرج ضائعة ، فإن الأشكال المستديرة إذا اجتمعت لم تجتمع متراصة ، ولا شكل في الأشكال ذوات الزوايا يقرب في الاحتواء من المستدير . ثم تتراص الجملة منه بحيث لا تبقى بعد اجتماعها فرجة إلا المسدس . وهذه خاصية هذا الشكل . فانظر كيف ألهم الله تعالى النحل ، على صغر جرمه ، ذلك ؛ لطفا به وعناية بوجوده فيما هو محتاج إليه ؛ ليهنأ عيشه . فسبحانه ما أعظم شأنه وأوسع لطفه وامتنانه . وفي طبعه أنه يهرب بعضه من بعض ويقاتل بعضه بعضا في الخلايا ويلسع من دنا من الخلية . وربما هلك الملسوع . وإذا أهلك شيء منها داخل الخلايا أخرجته الأحياء إلى خارج . وفي طبعه أيضا النظافة . فلذلك يخرج رجيعه من الخلية ؛ لأنه منتن الريح . وهو يعلم زماني الربيع والخريف . والذي يعمله في الربيع أجود . والصغير أعمل من الكبير ، وهو يشرب من الماء ما كان صافيا عذبا ، يطلبه حيث كان . ولا يأكل من العسل إلا قدر شبعة . وإذا قل العسل في الخلية ، قذفه بالماء ليكثر ، خوفا على نفسه من نفاده ؛ لأنه إذا نفد أفسد النحل بيوت الملوك وبيوت الذكور . وربما قتلت ما كان منها هناك .
[ ص: 3830 ] قال حكيم من اليونان لتلامذته : كونوا كالنحل في الخلايا . قالوا : وكيف النحل في الخلايا ؟ قال : إنها لا تترك عندها بطالا إلا نفته وأبعدته وأقصته عن الخلية ، لأنه يضيق المكان ، ويفني العسل ، ويعلم النشيط الكسل .
والنحل يسلخ جلده كالحيات . وتوافقه الأصوات اللذيذة المطربة ، ويضره السوس . ودواؤه أن يطرح له في كل خلية كف ملح . وأن يفتح في كل شهر مرة ، ويدخن بأخثاء البقر . وفي طبعه أنه متى طار من الخلية ، يرعى ثم يعود ، فتعود كل نحلة إلى مكانها لا تخطئه . كذا في (" حياة الحيوان ") .
وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=14847الإمام الغزالي أيضا في كتاب (" الحكمة في خلق المخلوقات ") : أن الله تعالى جعل للنحل رئيسا تتبعه وتهتدي به فيما تناله من أقواتها . فإن ظهر مع الرئيس الذي تتبعه رئيس آخر من جنسه ؛ قتل أحدهما الآخر ، وذلك لمصلحة ظاهرة ، وهو خوف الافتراق ؛ لأنهما إذا كانا أميرين ، وسلك كل واحد منهما فجا ، افترق النحل خلفهما . ثم إنها ألهمت أن ترعى رطوبات من على الأزهار . فيستحيل في أجوافها عسلا . فعلم من هذا التسخير ما فيه من مصالح العباد ، من شراب فيه شفاء للناس ، كما أخبر سبحانه وتعالى . وفيه غذاء وملاذ للعباد . وفيه من أقوات فضلات عظيمة جعلت لمنافع بني
آدم . فهي مثل ما يفضل من اللبن الذي خلق لمصالح أولاد البهائم وأقواتها . وما فضل من ذلك ففيه من البركة والكثرة ما ينتفع به الناس . ثم انظر ما تحمله النحل من الشمع في أرجلها ، لتوعي فيه العسل وتحفظه . فلا تكاد تجد وعاء أحفظ للعسل من الشمع في الأجناح . فانظر في هذه الذبابة ، هل في علمها وقدرتها جمع الشمع مع العسل ؟ أو عندها من المعرفة بحيث رتبت حفظ العسل مدة طويلة باستقراره في الشمع وصيانته في الجبال والشجر في المواضع التي تحفظه ولا يفسد فيها ! ثم انظر لخروجها نهارا لرعيها ورجوعها عشية إلى أماكنها وقد حملت ما يقوم بقوتها ويفضل عنها ، ولها في ترتيب بيوتها من الحكمة في بنائها حافظ لما تلقيه من أجوافها من العسل ،
[ ص: 3831 ] ولها جهة أخرى تجعل فيها برازها مباعدا عن مواضع العسل . وفيها غير هذا مما انفرد الله بعلمه .
قال
أبو السعود : ولما ذكر سبحانه من عجائب أحوال ما ذكر من الماء والنبات والأنعام والنحل ؛ أشار إلى بعض عجائب أحوال البشر من أول عمره إلى آخره وتطوراته فيما بين ذلك . وقد ضبطوا مراتب العمر في أربع : الأولى : سن النشوء والنماء . والثانية : سن الوقوف وهي سن الشباب . والثالثة : سن الانحطاط القليل وهي سن الكهولة . والرابعة : سن الانحطاط الكبير وهي سن الشيخوخة ، فقال سبحانه :
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[68-69]
nindex.php?page=treesubj&link=28659_31742_31757_32412_32438_33679_34244_34276_34513_28987nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=68وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ nindex.php?page=treesubj&link=17338_28659_32412_32438_33679_34244_34276_34513_28987nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ .
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=68وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْوَحْيِ : الْإِلْهَامُ وَالْهِدَايَةُ إِلَى بِنَائِهَا تِلْكَ الْبُيُوتَ الْعَجِيبَةَ الْمُسَدَّسَةَ ، مِنْ أَضْلَاعٍ مُتَسَاوِيَةٍ لَا يَزِيدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ ، مِمَّا لَا يُمْكِنُ مِثْلُهُ لِلْبَشَرِ إِلَّا بِأَدَوَاتٍ وَآلَاتٍ . وَقَدْ أَرْشَدَهَا تَعَالَى إِلَى بِنَائِهَا بُيُوتًا تَأْوِي إِلَيْهَا فِي ثَلَاثَةِ أَمْكِنَةٍ : الْجِبَالِ . وَالشَّجَرِ . وَبُيُوتِ النَّاسِ ، حَيْثُ يَعْرِشُونَ ، أَيْ : يَبْنُونَ الْعُرُوشَ ، جَمْعُ ( عَرْشٍ ) وَهُوَ الْبَيْتُ الَّذِي يُسْتَظَلُّ بِهِ كَالْعَرِيشِ . وَلَيْسَ لِلنَّحْلِ بَيْتٌ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ : الْجِبَالِ وَالشَّجَرِ وَبُيُوتِ النَّاسِ . وَأَكْثَرُ بُيُوتِهَا مَا كَانَ فِي الْجِبَالِ ، وَهُوَ الْمُتَقَدِّمُ فِي الْآيَةِ ، ثُمَّ فِي الشَّجَرِ دُونَ ذَلِكَ ، ثُمَّ فِي الثَّالِثِ أَقَلُّ .
فَالنَّحْلُ إِذًا نَوْعَانِ : جَبَلِيَّةٌ تَسْكُنُ فِي الْجِبَالِ وَالْفَيَافِي لَا يَتَعَهَّدُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ . وَأَهْلِيَّةٌ تَأْوِي إِلَى الْبُيُوتِ وَتَتَعَهَّدُ فِي الْخَلَايَا . وَمِنْ بَدِيعِ الْإِلْهَامِ فِيهَا اتِّخَاذُهَا الْبُيُوتَ قَبْلَ الْمَرْعَى . فَهِيَ تَتَّخِذُهَا أَوَّلًا . فَإِذَا اسْتَقَرَّ لَهَا بَيْتٌ خَرَجَتْ مِنْهُ ، فَرَعَتْ ، وَأَكَلَتْ مِنَ الثَّمَرَاتِ ، ثُمَّ أَوَتْ إِلَى بُيُوتِهَا . وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ أَيْ : مِنْ كُلِّ ثَمَرَةٍ تَشْتَهِيهَا ، حُلْوِهَا وَمُرِّهَا . فَالْعُمُومُ عُرْفِيٌّ ، أَوْ لَفْظُ ( كُلِّ ) لِلتَّكْثِيرِ ، أَوْ هُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِالْعَادَةِ . وَلَوْ أُبْقِي الْأَمْرُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَجَازَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْأَكْلِ مِنْ جَمِيعِ الثَّمَرَاتِ الْأَكْلُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلتَّخْلِيَةِ وَالْإِبَاحَةِ .
[ ص: 3827 ] لَطِيفَةٌ :
إِنَّمَا أُوثِرَ ( مِنْ ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=68مِنَ الْجِبَالِ إلخ ، عَلَى ( فِي ) دَلَالَةً عَلَى مَعْنَى التَّبْعِيضِ . وَأَنْ لَا تُبْنَى بُيُوتُهَا فِي كُلِّ جَبَلٍ وَكُلِّ شَجَرٍ وَكُلِّ مَا يُعَرَّشُ ، وَلَا فِي كُلِّ مَكَانٍ مِنْهَا . نَبَّهَ عَلَيْهِ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ .
قَالَ
النَّاصِرُ : وَيَتَزَيَّنُ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي تَبْعِيضِ ( مِنِ ) الْمُتَعَلِّقَةِ بِاتِّخَاذِ الْبُيُوتِ ، بِإِطْلَاقِ الْأَكْلِ . كَأَنَّهُ تَعَالَى وَكَلَ الْأَكْلَ إِلَى شَهْوَتِهَا وَاخْتِيَارِهَا ، فَلَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهَا فِيهِ ، وَإِنْ حَجَرَ عَلَيْهَا فِي الْبُيُوتِ وَأُمِرَتْ بِاتِّخَاذِهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ دُونَ بَعْضٍ ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْآكِلِ حَاصِلَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِاسْتِمْرَارِ مُشْتَهَاهَا مِنْهُ . وَأَمَّا الْبُيُوتُ فَلَا تَحْصُلُ مَصْلَحَتُهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ . وَلِهَذَا الْمَعْنَى دَخَلَتْ ( ثُمَّ ) لِتَفَاوُتِ الْأَمْرِ بَيْنَ الْحَجْرِ عَلَيْهَا فِي اتِّخَاذِ الْبُيُوتِ ، وَالْإِطْلَاقِ لَهَا فِي تَنَاوُلِ الثَّمَرَاتِ . كَمَا تَقُولُ : رَاعِ الْحَلَالَ فِيمَا تَأْكُلُهُ ، ثُمَّ كُلْ أَيَّ شَيْءٍ شِئْتَ . فَتَوَسُّطٌ ( ثُمَّ ) لِتَفَاوُتِ الْحَجْرِ وَالْإِطْلَاقِ . فَسُبْحَانُ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا أَيِ : الطُّرُقَ الَّتِي أَلْهَمَكِ وَأَفْهَمَكِ فِي عَمَلِ الْعَسَلِ . فَالسُّبُلُ مَجَازٌ عَنْ طُرُقِ الْعَمَلِ وَأَنْوَاعِهَا ، أَوْ عَلَى حَقِيقَتِهَا . أَيْ : إِذَا أَكَلْتِ الثِّمَارَ فِي الْمَوَاضِعِ النَّائِيَةِ ، فَاسْلُكِي رَاجِعَةً إِلَى بُيُوتِكِ سُبُلَ رَبِّكِ ، لَا تَتَوَعَّرُ عَلَيْكِ وَلَا تَضِلِّينَ فِيهَا . وَ ( ذُلُلًا ) جَمْعُ ذَلُولٍ ، حَالٌ مِنَ ( السُّبُلَ ) أَيْ : مُذَلَّلَةً ذَلَّلَهَا اللَّهُ لَكِ وَسَهَّلَهَا . فَهِيَ تَسْلُكُ مِنْ هَذَا الْجَوِّ الْعَظِيمِ ، وَالْبَرَارِيِّ الشَّاسِعَةِ وَالْأَوْدِيَةِ وَالْجِبَالِ الشَّاهِقَةِ . ثُمَّ تَعُودُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا إِلَى بَيْتِهَا لَا تَحِيدُ عَنْهُ يُمْنَةً وَلَا يُسْرَةً . وَقَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ اسْتِئْنَافٌ ، عَدَلَ بِهِ عَنْ خِطَابِ النَّحْلِ ؛ لِبَيَانِ مَا يَظْهَرُ مِنْهَا مِنْ عَجِيبِ صُنْعِهِ تَعَالَى ؛ تَعْدِيدًا لِلنِّعَمِ ، وَتَنْبِيهًا عَلَى الْعِبَرِ ، وَإِرْشَادًا إِلَى الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ مِنْ هَذَا الْحَيَوَانِ الضَّعِيفِ . وَسُمِّيَ الْعَسَلُ شَرَابًا ؛ لِأَنَّهُ يُشْرَبُ مَعَ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=28مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ أَيْ فَمِنْهُ أَبْيَضُ وَأَصْفَرُ وَأَحْمَرُ ؛ لِاخْتِلَافِ مَا يُؤْكَلُ مِنَ النَّوْرِ أَوْ مِزَاجِهَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْفِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ فِي بَعْضِ الْأَمْرَاضِ . وَلَهُ دَخْلٌ فِي أَكْثَرِ مَا بِهِ الشِّفَاءُ وَالْمَعَاجِينُ ، وَقَلَّ
[ ص: 3828 ] مَعْجُونٌ مِنَ الْمَعَاجِينِ ، لَمْ يَذْكُرِ الْأَطِبَّاءُ فِيهِ الْعَسَلَ . وَقَدْ قَامَ الْآنَ مَقَامَهُ السُّكَّرُ ، لِكَثْرَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=44أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=655277أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنْ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ فَقَالَ : « اسْقِهِ عَسَلًا » فَذَهَبَ فَسَقَاهُ عَسَلًا ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! سَقَيْتُهُ عَسَلًا مَا زَادَهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا . قَالَ : « اذْهَبْ فَاسْقِهِ عَسَلًا » فَذَهَبَ فَسَقَاهُ عَسَلًا ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! مَا زَادَهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ ، اذْهَبْ فَاسْقِهِ عَسَلًا . فَذَهَبَ فَسَقَاهُ عَسَلًا فَبَرَأَ » .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابْنُ كَثِيرٍ : قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالطِّبِّ : كَانَ هَذَا الرَّجُلُ عِنْدَهُ فَضَلَاتٌ . فَلَمَّا سَقَاهُ عَسَلًا وَهُوَ حَارٌّ تَحَلَّلَتْ فَأَسْرَعَتْ فِي الِانْدِفَاعِ ، فَزَادَهُ إِسْهَالًا ، فَاعْتَقَدَ الْأَعْرَابِيُّ أَنَّ هَذَا يَضُرُّهُ ، وَهُوَ مَصْلَحَةٌ لِأَخِيهِ ، ثُمَّ سَقَاهُ فَازْدَادَ التَّحْلِيلُ وَالدَّفْعُ ، ثُمَّ سَقَاهُ فَكَذَلِكَ ، فَلَمَّا انْدَفَعَتِ الْفَضَلَاتُ الْفَاسِدَةُ الْمُضِرَّةُ بِالْبَدَنِ ، اسْتَمْسَكَ بَطْنُهُ ، وَصَلَحَ مِزَاجُهُ وَانْدَفَعَتِ الْأَسْقَامُ وَالْآلَامُ بِبَرَكَةِ إِشَارَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . انْتَهَى .
وَفِي (" الْعِنَايَةُ ")
لِلشِّهَابِ هُنَا ، قِصَّةٌ عَنْ طَبَقَاتِ الْأَطِبَّاءِ فِيهَا تَأْيِيدٌ لِقِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ فَانْظُرْهَا .
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أَيْ : فَيَعْتَبِرُونَ وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ ، وَانْفِرَادِهِ بِأُلُوهِيَّتِهِ ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَلْهَمَ هَذِهِ الدَّوَابَّ الضَّعِيفَةَ فَعَلِمَتْ مَسَاقِطَ الْأَنْدَاءِ ، مِنْ وَرَاءِ الْبَيْدَاءِ ، فَتَقَعُ عَلَى كُلِّ حَرَارَةٍ عَبِقَةٍ ، وَزَهْرَةٍ أَنِقَةٍ ، ثُمَّ تَصْدُرُ عَنْهَا بِمَا تَحْفَظُهُ رِضَابًا ، وَتَلْفِظُهُ شَرَابًا .
[ ص: 3829 ] قَالَ الْحُجَّةُ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الْغَزَالِيُّ (" فِي الْإِحْيَاءِ ") : انْظُرْ إِلَى النَّحْلِ كَيْفَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا حَتَّى اتَّخَذَتْ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا . وَكَيْفَ اسْتَخْرَجَ مِنْ لُعَابِهَا الشَّمْعَ وَالْعَسَلَ . وَجَعَلَ أَحَدَهُمَا ضِيَاءً وَالْآخَرَ شِفَاءً . ثُمَّ لَوْ تَأَمَّلْتَ عَجَائِبَ أَمْرِهَا فِي تَنَاوُلِهَا الْأَزْهَارَ وَالْأَنْوَارَ ، وَاحْتِرَازِهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ وَالْأَقْذَارِ ، وَطَاعَتِهَا لِوَاحِدٍ مِنْ جُمْلَتِهَا وَهُوَ أَكْبَرُهَا شَخْصًا وَهُوَ أَمِيرُهَا ، ثُمَّ مَا سَخَّرَ اللَّهُ لِأَمِيرِهَا مِنَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ بَيْنَهَا ، حَتَّى أَنَّهُ لَيُقْتَلُ مِنْهَا عَلَى بَابِ الْمَنْفَذِ كُلُّ مَا وَقَعَ مِنْهَا عَلَى نَجَاسَةٍ ؛ لَقَضَيْتَ مِنْ ذَلِكَ الْعَجَبِ إِنْ كُنْتَ بَصِيرًا فِي نَفْسِكَ ، وَفَارِغًا مِنْ هَمِّ بَطْنِكَ وَفَرْجِكَ ، وَشَهَوَاتِ نَفْسِكَ فِي مُعَادَاةِ أَقْرَانِكَ ، وَمُوَالَاةِ إِخْوَانِكَ . ثُمَّ دَعْ عَنْكَ جَمِيعَ ذَلِكَ ، وَانْظُرْ إِلَى بُنْيَانِهَا بَيْتًا مِنَ الشَّمْعِ ، وَاخْتِيَارِهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَشْكَالِ الشَّكْلَ الْمُسَدَّسَ ، فَلَا تَبْنِي بَيْتَهَا مُسْتَدِيرًا وَلَا مُرَبَّعًا وَلَا مُخَمَّسًا ، بَلْ مُسَدَّسًا لِخَاصِّيَّةٍ فِي الشَّكْلِ الْمُسَدَّسِ ، يَقْصُرُ فَهُمُ الْمُهَنْدِسِ عَنْ دَرَكِ ذَلِكَ . وَهُوَ أَنْ أَوْسَعَ الْأَشْكَالِ وَأَحْوَاهَا الْمُسْتَدِيرُ وَمَا يَقْرُبُ مِنْهُ . فَإِنَّ الْمُرَبَّعَ تَخْرُجُ مِنْهُ زَوَايَا ضَائِعَةٌ . وَشَكْلُ النِّحَلِ مُسْتَدِيرٌ مُسْتَطِيلٌ . فَتَرَكَ الْمُرَبَّعَ حَتَّى لَا تَبْقَى الزَّوَايَا فَارِغَةً . ثُمَّ لَوْ بَنَاهَا مُسْتَدِيرَةً لَبَقِيَ خَارِجَ الْبُيُوتِ فُرَجٌ ضَائِعَةٌ ، فَإِنَّ الْأَشْكَالَ الْمُسْتَدِيرَةَ إِذَا اجْتَمَعَتْ لَمْ تَجْتَمِعْ مُتَرَاصَّةً ، وَلَا شَكْلَ فِي الْأَشْكَالِ ذَوَاتِ الزَّوَايَا يَقْرُبُ فِي الِاحْتِوَاءِ مِنَ الْمُسْتَدِيرِ . ثُمَّ تَتَرَاصُّ الْجُمْلَةُ مِنْهُ بِحَيْثُ لَا تَبْقَى بَعْدَ اجْتِمَاعِهَا فُرْجَةٌ إِلَّا الْمُسَدَّسَ . وَهَذِهِ خَاصِّيَّةُ هَذَا الشَّكْلِ . فَانْظُرْ كَيْفَ أَلْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى النَّحْلَ ، عَلَى صِغَرِ جِرْمِهِ ، ذَلِكَ ؛ لُطْفًا بِهِ وَعِنَايَةً بِوُجُودِهِ فِيمَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ ؛ لِيَهْنَأَ عَيْشُهُ . فَسُبْحَانَهُ مَا أَعْظَمَ شَأْنَهُ وَأَوْسَعَ لُطْفَهُ وَامْتِنَانَهُ . وَفِي طَبْعِهِ أَنَّهُ يَهْرُبُ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ وَيُقَاتِلُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْخَلَايَا وَيَلْسَعُ مَنْ دَنَا مِنَ الْخَلِيَّةِ . وَرُبَّمَا هَلَكَ الْمَلْسُوعُ . وَإِذَا أُهْلِكَ شَيْءٌ مِنْهَا دَاخِلَ الْخَلَايَا أَخْرَجَتْهُ الْأَحْيَاءُ إِلَى خَارِجٍ . وَفِي طَبْعِهِ أَيْضًا النَّظَافَةُ . فَلِذَلِكَ يَخْرُجُ رَجِيعُهُ مِنَ الْخَلِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْتِنُ الرِّيحِ . وَهُوَ يَعْلَمُ زَمَانَيِ الرَّبِيعِ وَالْخَرِيفِ . وَالَّذِي يَعْمَلُهُ فِي الرَّبِيعِ أَجْوَدُ . وَالصَّغِيرُ أَعْمَلُ مِنَ الْكَبِيرِ ، وَهُوَ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ مَا كَانَ صَافِيًا عَذْبًا ، يَطْلُبُهُ حَيْثُ كَانَ . وَلَا يَأْكُلُ مِنَ الْعَسَلِ إِلَّا قَدْرَ شِبْعَةٍ . وَإِذَا قَلَّ الْعَسَلُ فِي الْخَلِيَّةِ ، قَذَفَهُ بِالْمَاءِ لِيَكْثُرَ ، خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ نَفَادِهِ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا نَفِدَ أَفْسَدَ النَّحْلُ بُيُوتَ الْمُلُوكِ وَبُيُوتَ الذُّكُورِ . وَرُبَّمَا قَتَلَتْ مَا كَانَ مِنْهَا هُنَاكَ .
[ ص: 3830 ] قَالَ حَكِيمٌ مِنَ الْيُونَانَ لِتَلَامِذَتِهِ : كُونُوا كَالنَّحْلِ فِي الْخَلَايَا . قَالُوا : وَكَيْفَ النَّحْلُ فِي الْخَلَايَا ؟ قَالَ : إِنَّهَا لَا تَتْرُكُ عِنْدَهَا بَطَّالًا إِلَّا نَفَتْهُ وَأَبْعَدَتْهُ وَأَقْصَتْهُ عَنِ الْخَلِيَّةِ ، لِأَنَّهُ يُضَيِّقُ الْمَكَانَ ، وَيُفْنِي الْعَسَلَ ، وَيُعَلِّمُ النَّشِيطُ الْكَسَلَ .
وَالنَّحْلُ يَسْلَخُ جِلْدَهُ كَالْحَيَّاتِ . وَتُوَافِقُهُ الْأَصْوَاتُ اللَّذِيذَةُ الْمُطْرِبَةُ ، وَيَضُرُّهُ السُّوسُ . وَدَوَاؤُهُ أَنْ يُطْرَحَ لَهُ فِي كُلِّ خَلِيَّةٍ كَفُّ مِلْحٍ . وَأَنْ يُفْتَحَ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً ، وَيُدَخَّنَ بِأَخْثَاءِ الْبَقَرِ . وَفِي طَبْعِهِ أَنَّهُ مَتَى طَارَ مِنَ الْخَلِيَّةِ ، يَرْعَى ثُمَّ يَعُودُ ، فَتَعُودُ كُلُّ نَحْلَةٍ إِلَى مَكَانِهَا لَا تُخْطِئُهُ . كَذَا فِي (" حَيَاةُ الْحَيَوَانِ ") .
وَذَكَرَ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِ (" الْحِكْمَةُ فِي خَلْقِ الْمَخْلُوقَاتِ ") : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلنَّحْلِ رَئِيسًا تَتْبَعُهُ وَتَهْتَدِي بِهِ فِيمَا تَنَالُهُ مِنْ أَقْوَاتِهَا . فَإِنْ ظَهَرَ مَعَ الرَّئِيسِ الَّذِي تَتْبَعُهُ رَئِيسٌ آخَرُ مِنْ جِنْسِهِ ؛ قَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ، وَذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ ظَاهِرَةٍ ، وَهُوَ خَوْفُ الِافْتِرَاقِ ؛ لِأَنَّهُمَا إِذَا كَانَا أَمِيرَيْنِ ، وَسَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَجًّا ، افْتَرَقَ النَّحْلُ خَلْفَهُمَا . ثُمَّ إِنَّهَا أُلْهِمَتْ أَنْ تَرْعَى رُطُوبَاتٍ مِنْ عَلَى الْأَزْهَارِ . فَيَسْتَحِيلُ فِي أَجْوَافِهَا عَسَلًا . فَعُلِمَ مِنْ هَذَا التَّسْخِيرِ مَا فِيهِ مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ ، مِنْ شَرَابٍ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ، كَمَا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَفِيهِ غِذَاءٌ وَمَلَاذٌ لِلْعِبَادِ . وَفِيهِ مِنْ أَقْوَاتِ فَضَلَاتٍ عَظِيمَةٍ جُعِلَتْ لِمَنَافِعِ بَنِي
آدَمَ . فَهِيَ مِثْلُ مَا يَفْضُلُ مِنَ اللَّبَنِ الَّذِي خُلِقَ لِمَصَالِحِ أَوْلَادِ الْبَهَائِمِ وَأَقْوَاتِهَا . وَمَا فَضَلَ مِنْ ذَلِكَ فَفِيهِ مِنَ الْبَرَكَةِ وَالْكَثْرَةِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ . ثُمَّ انْظُرْ مَا تَحْمِلُهُ النَّحْلُ مِنَ الشَّمْعِ فِي أَرْجُلِهَا ، لِتُوعِيَ فِيهِ الْعَسَلَ وَتَحْفَظَهُ . فَلَا تَكَادُ تَجِدُ وِعَاءً أَحْفَظَ لِلْعَسَلِ مِنَ الشَّمْعِ فِي الْأَجْنَاحِ . فَانْظُرْ فِي هَذِهِ الذُّبَابَةِ ، هَلْ فِي عِلْمِهَا وَقُدْرَتِهَا جَمْعُ الشَّمْعِ مَعَ الْعَسَلِ ؟ أَوْ عِنْدَهَا مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِحَيْثُ رَتَّبَتْ حِفْظَ الْعَسَلِ مُدَّةً طَوِيلَةً بِاسْتِقْرَارِهِ فِي الشَّمْعِ وَصِيَانَتِهِ فِي الْجِبَالِ وَالشَّجَرِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَحْفَظُهُ وَلَا يَفْسَدُ فِيهَا ! ثُمَّ انْظُرْ لِخُرُوجِهَا نَهَارًا لِرَعْيِهَا وَرُجُوعِهَا عَشِيَّةً إِلَى أَمَاكِنِهَا وَقَدْ حَمَلَتْ مَا يَقُومُ بِقُوَّتِهَا وَيَفْضُلُ عَنْهَا ، وَلَهَا فِي تَرْتِيبِ بُيُوتِهَا مِنَ الْحِكْمَةِ فِي بِنَائِهَا حَافِظٌ لِمَا تُلْقِيهِ مِنْ أَجْوَافِهَا مِنَ الْعَسَلِ ،
[ ص: 3831 ] وَلَهَا جِهَةٌ أُخْرَى تَجْعَلُ فِيهَا بِرَازَهَا مُبَاعَدًا عَنْ مَوَاضِعِ الْعَسَلِ . وَفِيهَا غَيْرُ هَذَا مِمَّا انْفَرَدَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ .
قَالَ
أَبُو السُّعُودِ : وَلَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مِنْ عَجَائِبِ أَحْوَالِ مَا ذَكَرَ مِنَ الْمَاءِ وَالنَّبَاتِ وَالْأَنْعَامِ وَالنَّحْلِ ؛ أَشَارَ إِلَى بَعْضِ عَجَائِبِ أَحْوَالِ الْبَشَرِ مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهِ إِلَى آخِرِهِ وَتَطَوُّرَاتِهِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ . وَقَدْ ضَبَطُوا مَرَاتِبَ الْعُمْرِ فِي أَرْبَعٍ : الْأُولَى : سِنُّ النُّشُوءِ وَالنَّمَاءِ . وَالثَّانِيَةُ : سِنُّ الْوُقُوفِ وَهِيَ سِنُّ الشَّبَابِ . وَالثَّالِثَةُ : سِنُّ الِانْحِطَاطِ الْقَلِيلِ وَهِيَ سِنُّ الْكُهُولَةِ . وَالرَّابِعَةُ : سِنُّ الِانْحِطَاطِ الْكَبِيرِ وَهِيَ سِنُّ الشَّيْخُوخَةِ ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ :