[ ص: 1858 ] القول في تأويل قوله تعالى:
[5] اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين
وقوله تعالى: اليوم أحل لكم الطيبات أي: من الذبائح والصيد. تكريره تأكيد للمنة. قال أبو السعود: قيل: المراد بالأيام الثلاثة وقت واحد. وإنما كرر للتأكيد. ولاختلاف الأحداث الواقعة فيه حسن تكريره. والمراد بالطيبات ما مر.
تنبيه:
قال بعض مفسري الزيدية: دلت الآية على جواز أكل العالي من الأطعمة والأصباغ. قال في "الروضة والغدير": وإن كان التقنع بالأدون هو الأولى، كما فعله علي عليه السلام وغيره من الفضلاء. فقد روي أن عليه السلام كان يطعم الناس أطيب الطعام. فرأى بعض أصحابه طعامه. وهو خبز شعير غير منخول، وملح جريش، وهو مختوم عليه لئلا يبدل. ومن كلامه عليه السلام: والله! لأروضن نفسي رياضة تهش إلى القرص إن وجدته مطعوما، وإلى الملح إن وجدته مأدوما. ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في كراهة الإدامين مجتمعين. انتهى. عليا
وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وغيرهم: يعني ذبائحهم. وسعيد بن جبير
قال وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء; أن ذبائحهم حلال للمسلمين. لأنهم [ ص: 1859 ] يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله، وإن اعتقدوا فيه ما هو منزه عنه، تعالى وتقدس. انتهى. ابن كثير:
قال المهايمي: وإن لم يعتد بذكرهم اسم الله، لكنهم لما ذكروه، أشبه ما يعتد بذكره، فأشبه طعامهم الطيبات.
مباحث:
الأول: ما ذكرناه من أن المعني بالطعام الذبائح، هو الذي قاله أئمة السلف: صحابة كابن عباس وأتباعا وأبي أمامة، وثمانية غيره، كما في كمجاهد ابن جرير وفي "اللباب": أجمعوا على أن المراد: وابن كثير. وطعام الذين أوتوا الكتاب خاصة. لأن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم. فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة. ولأن ما قبل هذه الآية في بيان حكم الصيد والذبائح. فحمل هذه الآية عليه أولى. لأن سائر الطعام لا يختلف، من تولاه من كتابي أو غيره. وإنما تختلف الذكاة. فلما خص أهل الكتاب بالذكر، دل على أن المراد بطعامهم ذبائحهم. انتهى. ذبائحهم
الثاني: استدل بالآية على جميع أجزاء ذبائحهم. وهو قول الجمهور.
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": وعن مالك تحريم ما حرم الله على أهل الكتاب كالشحوم. قال وأحمد، ابن القاسم: لأن الذي أباحه الله طعامهم. وليس الشحوم من طعامهم. ولا يقصدونها عند الذكاة. وتعقب بأن فسر (طعامهم) بذبائحهم، وإذا أبيحت ذبائحهم لم يحتج إلى قصدهم أجزاء المذبوح. والتذكية لا تقع على بعض أجزاء المذبوح دون بعض. وإن كانت التذكية شائعة في جميعها دخل الشحم لا محالة. وأيضا فإن الله تعالى نص بأنه حرم عليهم كل ذي ظفر. فكان يلزم، على قول هذا القائل، أن اليهودي، إذا ذبح ما له ظفر، لا يحل للمسلم أكله. ثم قال ابن عباس ابن حجر: وقوله تعالى: أحل لكم الطيبات [ ص: 1860 ] يستدل به على الحل، لأنه لم يخص لحما من شحم، وكون الشحوم محرمة على أهل الكتاب لا يضر، لأنها محرمة عليهم لا علينا. وغايته بعد أن يتقرر أن ذبائحهم لنا حلال، أن الذي حرم عليهم منها مسكوت في شرعنا عن تحريمه علينا. فيكون على أصل الإباحة. انتهى.
وفي "الصحيح" عن رضي الله عنه قال: عبد الله بن مغفل خيبر. فرمى إنسان بجراب فيه شحم. فنزوت لآخذه. فالتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه» . وفي رواية: «كنا محاصرين قصر خيبر. فحضنته وقلت: لا أعطي اليوم من هذا أحدا. والتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم» . «أدلي بجراب من شحم يوم
قال الحافظ ابن حجر: فيه حجة على من منع ما حرم عليهم كالشحوم. لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ابن مغفل على الانتفاع بالجراب المذكور. وفيه جواز ولو كانوا أهل حرب. انتهى. أكل الشحم، مما ذبحه أهل الكتاب،
وقال الحافظ ابن كثير: استدل على المالكية الجمهور بهذا الحديث. وفي ذلك نظر. لأنه قضية عين. ويحتمل أن يكون شحما يعتقدون حله، كشحم الظهر والحوايا ونحوهما. والله أعلم.
وأجود منه في الدلالة ما ثبت في "الصحيح" خيبر أهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 1861 ] شاة مصلية. وقد سموا ذراعها - وكان يعجبه الذراع - فتناوله فنهش منه نهشة. فأخبره الذراع أنه مسموم، فلفظه وأثر ذلك في ثنايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبهره. وأكل معه منها فمات. فقتل اليهودية التي سمتها، وكان اسمها بشر بن البراء بن معرور، زينب. ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه، ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا؟ وفي الحديث الآخر: أن أهل . «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي على خبز شعير وإهالة سنخة. يعني ودكا زنخا»
الثالث: تمسك - من أئمة المالكية - بهذه الآية على حل ما يقتله الفرنج، وإن رأينا ذلك، لأنه من طعامهم. نقله عنه ابن العربي الشيخ خليل في "توضيحه" واستبعده. وقال الإمام ابن زكري: صنف في إباحة مذكى النصراني بغير وجه ذكاتنا. والمحققون على تحريمه. وقد أوضح ذلك الفقيه ابن العربي محمد الدليمي السوسي المالكي في "فتاويه"، وقد سئل عن بقوله مجيبا: [ ص: 1862 ] قال الإمام ذبيحة الكتابي: هل تحل المذكى كيف كانت. سواء وافقت ذكاتنا أم لا؟ إذا سل النصراني عنق دجاجة حل للمسلم أكلها. لأن الله تعالى أحل لنا أكل طعامهم الذي يستحلونه في دينهم. وكل ما ذكوه على مقتضى دينهم، حل لنا أكله. ولا يشترط أن تكون ذكاتهم موافقة لذكاتنا. وذلك رخصة من الله تعالى وتيسير منه علينا. ولا يستثنى من ذلك إلا ما حرم الله تعالى على الخصوص. فإنه، وإن كان طعامهم الذي يستحلونه، فلا يحل لنا أكله. انتهى. ابن العربي:
الرابع: قال الرازي: نقل عن بعض أئمة الزيدية; أن المراد ب (الطعام) في الآية الخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى الذكاة. انتهى.
وقد اطلعت على قطعة من تفسير بديع لبعض الزيدية قال فيه: اختلف العلماء من الأئمة والفقهاء: ما أريد ب (الطعام)؟ فقال القاسم والهادي ومحمد بن عبد الله، ورواية عن إن ذبائح أهل الكتاب وجميع الكفار لا تجوز. لقوله تعالى: زيد: إلا ما ذكيتم وهذا خطاب للمسلمين، والرواية الثانية عن وعامة الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية زيد والجعفرية والإمامية. واختاره الأمير ح والأمير يحيى: جواز ذبائح أهل الكتاب. ويفسرون (الطعام) بالذبائح وغيرها. وهذا مروي عن الحسن والزهري والشعبي وعطاء وأكثر المفسرين. وأخذوا بالعموم في إطلاق (الطعام). فأجاب الأولون بأن (الطعام) يطلق على الحبوب يقال: سوق الطعام. قال وقتادة القاضي: الأقرب الحل. لأن ذلك بفعلهم يصير طعاما. ولأنه خص أهل الكتاب. أجيب: بأنه خصهم لئلا يظن أن طعامهم الذي لم يذكوه محرم. ثم عند الهادي والقاسم، عليهما السلام، تنجس رطوباتهم. لقوله تعالى: إنما المشركون نجس فيحرم ما حصل فيه رطوبتهم، إلا ما أخذناه قهرا. وعند المؤيد بالله ومن معه: إن رطوبتهم طاهرة. والخلاف في الرطوبة عامة في الكفار. انتهى.
وفي "الروضة الندية" ما نصه: وأما فقد دل على حلها القرآن الكريم بهذه الآية. ومن قال: إن اللحم لا يتناوله (الطعام) فقد قصر في البحث، ولم [ ص: 1863 ] ينظر في كتب اللغة، ولا نظر في الأدلة الشرعية المصرحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل ذبائح أهل الكتاب. كما في أكله صلى الله عليه وسلم للشاة التي طبختها يهودية وجعلت فيها سما، والقصة أشهر من أن تحتاج إلى التنبيه عليها. ولا مستند للقول بتحريم ذبائحهم إلا مجرد الشكوك والأوهام التي يبتلى بها من لم يرسخ قدمه في علم الشرع. فإن قلت: قد يذبحونه لغير الله، أو بغير تسمية، أو على غير الصفة المشروعة في الذبح. قلت: إن صح شيء من هذا، فالكلام في ذبيحته، كالكلام في ذبيحة المسلم إذا وقعت على أحد هذه الوجوه. وليس النزاع إلا في مجرد كون كفر الكتابي مانعا، لا كونه أخذ بشرط معتبر. انتهى. ذبيحة أهل الذمة،
الخامس: أريد ب: أهل الكتاب اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. وأما من دخل في دينهم بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم - وهم متنصرو العرب من بني تغلب - فلا تحل ذبيحته. روي عن قال: لا تأكل من علي بن أبي طالب بني تغلب؛ فإنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر. وبه قال ذبائح نصارى وسئل ابن مسعود. عن ابن عباس العرب؟ فقال: لا بأس به. ثم قرأ: ذبائح نصارى ومن يتولهم منكم فإنه منهم . هذا قول الحسن وعطاء والشعبي وعكرمة وقتادة والزهري والحكم وحماد - كذا في "اللباب".
قال وأما المجوس فإنهم - وإن أخذت منهم الجزية تبعا وإلحاقا لأهل الكتاب - فإنه لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم. خلافا ابن كثير: لأبي ثور، إبراهيم بن خالد الكلبي (أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي، ولما قال ذلك، واشتهر عنه، أنكر عليه الفقهاء ذلك. حتى قال عنه الإمام وأحمد بن حنبل) أحمد: كاسمه - يعني في هذه المسألة - وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أبو ثور سنوا بهم سنة أهل الكتاب.
[ ص: 1864 ] ولكن لم يثبت بهذا اللفظ. وإنما الذي في "صحيح" عن البخاري عبد الرحمن بن عوف هجر. ولو سلم صحة هذا الحديث، فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم فدل بمفهوم المخالفة، على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحل...!
السادس: قيل: هذه الآية تقتضي إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقا، وإن ذكروا غير اسم الله تعالى. وعن لو ذبح يهودي أو نصراني على غير اسم الله تعالى، لا يحل ذلك. وهو قول ابن عمر: ربيعة. وسئل الشعبي عن النصراني يذبح باسم المسيح؟ فقال: يحل. فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون. وقال وعطاء، إذا ذبح اليهودي أو النصراني وذكر اسم الله، وأنت تسمع، فلا تأكل. وإذا غاب عنك فكل. فقد أحله الله لك. كذا في "اللباب". وقول الحسن: - في هذا البحث - هو الحسن. الحسن
وفي "النهاية" من كتب الزيدية: أما إذا ذبح أهل الذمة لأعيادهم وكنائسهم. فكرهه مالك، وأباحه أشهب، وحرمه وذلك لتعارض عموم قوله تعالى: الشافعي. وطعام الذين أوتوا الكتاب وعموم قوله تعالى: وما أهل به لغير الله فتخصيص [ ص: 1865 ] كل واحد للآخر محتمل. ثم قال: والجمهور على تحريم وأجازها ذبيحة المرتد. وكرهها إسحاق، وسبت الخلاف: هل المرتد يتناول اسم (الكتاب) أم لا؟ قال: وهكذا منشأ الخلاف في ذبائح الثوري. بني تغلب، هل اسم (الكتاب) يتناول المتنصر والمتهود من العرب، كما روي عن أو لا يتناول، كما روي عن ابن عباس؟ عليه السلام. انتهى. علي بن أبي طالب
وقوله تعالى: وطعامكم حل لهم يعني: ذبائحكم حلال لهم. فتأكل اليهود والنصارى ذبيحة المسلمين. كذا في "التفسير" المنسوب لابن عباس.
ونقل بعض مفسري الزيدية عن ابن عباس وبقية التابعين السالف ذكرهم، وأكثر المفسرين والفقهاء، أن المراد ذبائح المسلمين. وأبي الدرداء،
وقال تأويله: حل لكم أن تطعموهم. لأن الحلال والحرام والفرائض إنما تعقد على أهل الشريعة. الزجاج:
وقال أي: ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم. وليس إخبارا عن الحكم عندهم. اللهم! إلا يكون خبرا عما أمروا به من الأكل من كل طعام ذكر اسم الله عليه. سواء كان من أهل ملتهم أو غيرها. والأول أظهر في المعنى. أي: ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم. وهذا من باب المكافأة والمجازاة. كما ألبس [ ص: 1866 ] النبي صلى الله عليه وسلم ثوبه ابن كثير: لعبد الله بن أبي ابن سلول حين مات ودفنه فيه. قالوا: لأنه كان قد كسا حين قدم العباس المدينة ثوبه. فجازاه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بذلك. فأما الحديث الذي فيه فمحمول على الندب والاستحباب، والله أعلم. انتهى. «لا تصحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي»
وقال الرازي: أي: ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم. لأنه لا يمتنع أن يحرم الله أن نطعمهم من ذبائحنا. وأيضا فالفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة في الجانبين، وإباحة الذبائح كانت حاصلة في الجانبين لا جرم ذكر الله تعالى ذلك تنبيها على التمييز بين النوعين. انتهى.
وقال البرهان البقاعي في "تفسيره": وقوله تعالى: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم أي: تناوله لحاجتكم إلى مخالطتهم، للإذن في إقرارهم على دينهم بالجزية. ولما كان هذا مشعرا بإبقائهم على ما اختاروا لأنفسهم. زاده تأكيدا بقوله: وطعامكم حل لهم أي: فلا عليكم في بذله لهم، ولا عليهم في تناوله. انتهى.
وفي "أمالي" الإمام السهيلي رحمه الله تعالى: قيل: ما الحكمة في هذه الجملة وهم كفار لا يحتاجون إلى بياننا؟ فعنه جوابان: أحدهما أن المعنى: انظروا إلى ما أحل لكم في شريعتكم، فإن أطعموكموه فكلوه، ولا تنظروا إلى ما كان محرما عليهم، فإن لحوم الإبل ونحوها كانت محرمة عليهم. ثم نسخ ذلك في شرعنا. والآية بيان لنا لا لهم، أي: اعلموا أن ما كان محرما عليهم، مما هو حلال قد أحل لهم أيضا. ولذلك لو أطعمونا خنزيرا أو نحوه وقالوا: [ ص: 1867 ] هو حلال في شريعتنا، وقد أباح الله لكم طعامنا - كذبناهم وقلنا: إن الطعام الذي يحل لكم هو الذي يحل لنا، لا غيره. فالمعنى - طعامهم حل لكم، إذا كان الطعام الذي أحللته لكم. وهذا التفسير معنى قول وغيره. السدي
الثاني: للنحاس والزجاج وكثير من المتأخرين، أن المعنى: جائز لكم أن تطعموهم من طعامكم. لا أن يبين لهم ما يحل لهم في دينهم. لأن دينهم باطل. إلا أنه لم يقل: وإطعامكم، بل (طعامكم) - والطعام المأكول - وأما الفعل فهو الإطعام. فإن زعموا أن (الطعام) يقوم مقام (الإطعام) توسعا، قلنا: بقي اعتراض آخر. وهو الفصل بين المصدر وصلته بخبر المبتدأ. وهو ممتنع بالإجماع. لا يجيزون (إطعام زيد حسن للمساكين) ولا (ضربك شديد زيدا) فكيف جاز (وطعامكم حل لهم)؟ انتهى. والنقاش
قال الناصر في "الانتصاف": وقد يستدل بهذه الآية من يرى الكفار مخاطبين بفروع الشريعة. لأن التحليل حكم وقد علقه بهم في قوله: وطعامكم حل لهم كما علق الحكم بالمؤمنين. وهذه الآية أبين في الاستدلال بها من قوله: لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن فإن لقائل أن يقول: في تلك الآية نفي الحكم ليس بحكم. ولا يستطيع ذلك في آية (المائدة) هذه. لأن الحكم فيها مثبت، والله أعلم.
ثم قال: ولما استشعر دلالتها على ذلك، وهو من القائلين بأن الكفار يستحيل خطابهم بفروع الشريعة - أسلف تأويلها بصرف الخطاب إلى المؤمنين، أي: لا جناح عليكم - أيها المسلمون! - أن تطعموا أهل الكتاب. انتهى. الزمخشري
والمحصنات من المؤمنات عطف على (الطيبات) أو مبتدأ حذف خبره لدلالة ما قبله عليه. أي: حل لكم. والمراد ب (المحصنات) العفيفات عن الزنى. كما قال تعالى في الآية الأخرى: محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان وهو المروي عن الحسن والشعبي وسفيان وإبراهيم وحكى ومجاهد. رواية أخرى عن ابن جرير أنه قال: [ ص: 1868 ] المحصنات الحرائر. فقيل: عني بهن غير الإماء. وقيل: أراد بهن العفيفات، كقول الجمهور. وذلك لأن الحر يطلق على خلاف العبد، وعلى خيار كل شيء، كما في "القاموس". مجاهد
قال وتخصيصهن بعث على تخير المؤمنين لنطفهم. والإماء من المسلمات يصح نكاحهن بالاتفاق. وكذلك نكاح غير العفائف منهن. انتهى. الزمخشري:
أقول: جواز نكاح الأمة موقوف على خوف العنت وعدم طول الحرة، لآية: ومن لم يستطع منكم طولا إلخ. وأما نكاح غير العفيفة فأجازه الأكثرون. وذهب الإمام إلى تحريم أحمد حتى تتوب وتنقضي عدتها. لقوله تعالى: نكاح الزانية على زان وغيره، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ولما أخرجه بإسناد رجاله ثقات، أحمد في "الكبير" و "الأوسط" من حديث والطبراني عبد الله بن عمرو: أم مهزول، كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه. فقرأ عليه صلى الله عليه وسلم: والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك أن رجلا من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها
وأخرج أبو داود والنسائي وحسنه، من حديث والترمذي ابن عمر: مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة. وكان بمكة بغي يقال لها عناق. وكانت صديقته. قال: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! أنكح عناقا؟ قال فسكت عني. فنزلت الآية: والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فدعاني فقرأها علي وقال: لا تنكحها. أن
[ ص: 1869 ] وأخرج أحمد بإسناد رجاله ثقات، من حديث وأبو داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي هريرة . قال «الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله» ابن القيم: أخذ بهذه الفتاوى - التي لا معارض لها - الإمام ومن وافقه - وهي من محاسن مذهبه - فإنه يجوز أن ينكح الرجل زوجا تحبه. ويعضد مذهبه بضعة وعشرون دليلا قد ذكرناها في موضع آخر. أحمد
وأخرج ابن ماجه وصححه، من حديث والترمذي عمرو بن الأحوص، . وأخرج أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال: «استوصوا في النساء خيرا، فإنما هن عندكم عوان. ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك. إلا أن يأتين بفاحشة مبينة. فإن فعلن، فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا» أبو داود من حديث والنسائي، قال: ابن عباس . قال «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي لا تمنع يد لامس، قال: غربها، قال: أخاف أن تتبعها نفسي. قال: فاستمتع بها» المنذري: ورجال إسناده محتج بهم في الصحيحين.
قال ابن القيم: عورض بهذا الحديث المتشابه، الأحاديث المحكمة الصريحة في المنع من تجويز البغايا. واختلفت مسالك المحرمين لذلك فيه، فقالت طائفة: المراد ب (اللامس) [ ص: 1870 ] ملتمس الصدقة لا ملتمس الفاحشة. وقالت طائفة: بل هذا في الدوام غير مؤثر. وإنما المانع ورود العقد على الزانية فهذا هو الحرام، وقالت طائفة: بل هذا من التزام أخف المفسدتين لدفع أعلاهما؛ فإنه لما أمر بمفارقتها خاف من أن لا يصبر عنها فيواقعها حراما، فأمره حينئذ بإمساكها. إذ مواقعتها بعقد النكاح أقل فسادا من مواقعتها بالسفاح. وقالت طائفة: بل الحديث ضعيف لا يثبت. وقالت طائفة: ليس في الحديث ما يدل على أنها زانية. وإنما فيه أنها لا تمنع ممن يمسها أو يضع يده عليها أو نحو ذلك، فهي تعطي الليان لذلك. ولا يلزم أن تعطيه الفاحشة الكبرى. ولكن هذا لا يؤمن معه إجابتها الداعي إلى الفاحشة. فأمره بفراقها، تركا لما يريبه إلى ما لا يريبه. فلما أخبره بأن نفسه تتبعها، وأنه لا صبر له عنها، رأى مصلحة إمساكها أرجح المسالك. والله تعالى أعلم. وتتمة البحث في ذلك يأتي إن شاء الله تعالى في سورة النور.
فائدة:
أفتى جابر بن عبد الله وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها، أنه يفرق بينهما وترد عليه ما بذل لها من المهر. رواه والحسن البصري عنهم. ابن جرير
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم أي: هن أيضا حل لكم. والجمهور: على أن المراد ب (المحصنات) العفائف عن الزنى، كما قدمنا.
قال وهو الأشبه. لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية، ويتحصل زوجها على ما قيل، حشفا وسوء كيلة. ابن كثير:
وحكى عن طائفة من السلف - ممن فسر (المحصنات) بالعفيفات; أن الآية تعم كل كتابية عفيفة. سواء كانت حرة أو أمة. ومن فسرها ب (الحرائر) قال: لا يصح نكاح الأمة الكتابية بحال، إذ لا يحتمل عار الكفر مع عار الرق، على أنه يؤدي إلى استرقاق الكافر ولد المسلم. ابن جرير
تنبيهات:
[ ص: 1871 ] الأول: ظاهر الآية جواز وهذا مذهب أكثر الفقهاء والمفسرين. نكاح الكتابية.
ورواية عن زيد والصادق والباقر، واختاره الإمام يحيى وقال: إنه إجماع الصدر الأول من الصحابة، وأن تزوج عثمان بن عفان نائلة بنت الفرافصة على نسائه، وهي نصرانية. وأن تزوج يهودية. كذا نقله المفسرون. وروى طلحة بن عبيد الله البيهقي وعبد الرزاق عن وابن جرير أنه قال: المسلم يتزوج النصرانية ولا يتزوج النصراني المسلمة. وروى عمر أيضا عن عبد الرزاق أن سعيد بن المسيب، كتب إلى عمر بن الخطاب وهو حذيفة بن اليمان بالكوفة، ونكح امرأة من أهل الكتاب، فكتب: أن فارقها فإنك بأرض المجوس، فإني أخشى أن يقول الجاهل: قد تزوج صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كافرة! ويحلل الرخصة التي كانت من الله عز وجل فيتزوجوا نساء المجوس... ففارقها.
وروى عبد الرزاق عن والبيهقي أن قتادة: نكح يهودية. فقال حذيفة طلقها فإنها جمرة. فقال: أحرام هي؟ قال: لا، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن... عمر:
وروى عن عبد الرزاق قال: كتب زيد بن وهب إن المسلم ينكح النصرانية، والنصراني لا ينكح المسلمة. وروي أيضا عن عمر بن الخطاب: قال: نساء أهل الكتاب لنا حل، ونساؤنا عليهم حرام. وروي أيضا عن جابر عن معمر قال: نكح رجل من قومي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم امرأة من أهل الكتاب. وروي عن الزهري كراهية ذلك. ويحتج بقوله تعالى: ابن عمر ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن وكان يقول: لا أعلم شركا [ ص: 1872 ] أعظم من قولها: إن ربها عيسى. وأجاب الجمهور بأنه عام خص بهذه الآية، إن قيل بدخول الكتابيات في عموم المشركات، وإلا، فلا معارضة بين الآيتين. لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع. كقوله تعالى: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة وكقوله: وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم
الثاني: استدل بعموم الآية من جوز وروي عن نكاح الحربيات الكتابيات. أن الإذن في الذميات خاصة، ويقرأ: ابن عباس: قاتلوا الذين - إلى قوله -: حتى يعطوا الجزية قال: فمن أعطى، حل. ومن لا، فلا. وهذا الاستدلال دقيق جدا. فليتأمل!.
الثالث: قال المهايمي: لما اعتبر في طعام أهل الكتاب شبهه بالطيب - كما قدمنا - اعتبر في باب النكاح، فأحل المحصنات منهم، واحتمل كفرهن لأنه إنما لم يحتمل كفر غيرهم لأنهم يدعون إلى النار. وهؤلاء لما اعترفوا بأصل النبوة، ولا شبهة لهم في أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فضلا عن حجة، ضعفت دعوتهم إليها، فلم يعتد بها. على أن الرجل مستول على المرأة. فلا تؤثر فيه تأثير الرجل؛ فلذلك لم يصح تزويج المسلمة بالكتابي. على أن فيه إذلالا للمسلمة فلا تحتمل.
الرابع: ذهب ثلة من العترة الطاهرة إلى أن المراد من (المحصنات) المؤمنات منهن. ذهابا إلى تحريم نكاح الكافرة. قال بعض مفسري الزيدية، بعد أن ساق مذهب الأكثرين المتقدم: وقال القاسم والهادي والنفس الزكية ومحمد بن عبد الله وعامة القاسمية - وهو مروي [ ص: 1873 ] عن إنه لا يجوز لمسلم نكاح كافرة، كتابية كانت أو غيرها. واحتجوا بقوله في سورة البقرة: ابن عمر: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن قالوا - يعني الأكثرين -: هذا في المشركات لا في الكتابيات، قلنا: اسم الشرك ينطلق على أهل الكتاب بدليل قوله تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم إلى قوله: سبحانه عما يشركون وعن لا أعلم شركا أعظم من قول النصرانية: إن ربها ابن عمر: عيسى. وعن قد كثر الله المسلمات. وإنما رخص لهم يومئذ. قالوا: إنه تعالى عطف أحدهما على الآخر فدل على أنهما غيران، حيث قال تعالى: عطاء: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين قلنا: هذا كقوله تعالى: الوصية للوالدين والأقربين قالوا: الآية مصرحة بالجواز في قوله: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب قلنا: في سورة النور: الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين وقوله في سورة النساء: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم
[ ص: 1874 ] فشرط الإيمان في هذا يقضي بالتحريم. فتتأول هذه الآية: أنه أراد المحصنات من أهل الكتاب اللاتي قد أسلمن، لأنهم كانوا يتكرهون ذلك، فسماهن باسم ما كن عليه. وقد ورد مثل هذا في كتاب الله تعالى. قال الله: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به وقوله تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وقوله تعالى: وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله قالوا: سبب النزول وفعل الصحابة يدل على الجواز. وإنا نجمع بين الآيات الكريمة فنقول: قوله: ولا تنكحوا المشركات عام نخصه بقوله تعالى: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب أو نقول: أراد ب: المشركات الوثنيات وب: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ما أفاده الظاهر. أو يكون قوله: والمحصنات ناسخا لتحريم الكتابيات بقوله: ولا تنكحوا المشركات قلنا: نقابل ما ذكرتم بما روي، أن [ ص: 1875 ] أراد أن يتزوج بيهودية أو نصرانية. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «إنها لا تحصن ماءك» كعب بن مالك ; وروي أنه نهاه عن ذلك. وبأنا نتأول قوله تعالى: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب فنجمع ونقول: تخصيص المشركات ب: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب متراخ، والبيان لا يجوز أن يتراخى! قالوا: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: جابر بن عبد الله «أحل لنا ذبائح أهل الكتاب وأحل لنا نساؤهم، وحرم عليهم أن يتزوجوا نساءنا» . قال في "الشفا": قال علماؤنا: هذا حديث ضعيف النقل. قالوا: قوله صلى الله عليه وسلم في المجوس: الخبر. أفاد جواز ذبائحهم ونكاح نسائهم. قلنا: الجواز منسوخ بأدلة التحريم. ثم إنا نقوي أدلتنا بالقياس فنقول: كافرة فأشبهت الحربية، أو لما حرمت الموارثة حرمت المناكحة. أو لما حرم نكاح الكافر للمسلمة حرم العكس. قالوا: لا حكم للاعتبار مع الأدلة. انتهى بحروفه وهو فقه غريب. «سنوا بهم سنة أهل الكتاب»
وقوله تعالى: إذا آتيتموهن أجورهن أي: أعطيتموهن مهورهن. وتقييد الحل بإيتائها، لتأكيد وجوبها والحث على ما هو الأولى، مبادرة لفراغ الذمة. فإن شغل الذمة بحق الآدمي أشد من شغلها بحق الله تعالى: محصنين متعففين: غير مسافحين أي: غير مجاهرين بالزنى: ولا متخذي أخدان مسرين به، و (الخدن) الصديق، يقع على الذكر والأنثى. وحمل المسافحة على إظهار الزنى لظهور مقابله في الإسرار، لتبادره من الخدن وهو الصديق. وقيل: الأول نهي عن الزنى، والثاني نهي عن مخالطتهن. كذا في "العناية".
قال كما شرط الإحصان في النساء - وهي العفة عن الزنى - كذلك شرطها في الرجال. وهو أن يكون الرجل أيضا محصنا عفيفا؛ ولهذا قال: غير مسافحين وهم الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية ولا يردون أنفسهم عمن جاءهم: ولا متخذي أخدان أي: ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلا معهن، كما تقدم في سورة النساء، سواء، ولهذا ذهب الإمام ابن كثير: - رحمه الله - إلى أنه لا يصح أحمد بن حنبل حتى تتوب، [ ص: 1876 ] وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف. وكذلك لا يصح عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنى، لهذه الآية وللحديث: نكاح المرأة البغي . «لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله»
وروى أن ابن جرير: قال: لقد هممت أن لا أدع أحدا أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة. فقال له عمر بن الخطاب يا أمير المؤمنين! الشرك أعظم من ذلك. وقد يقبل منه إذا تاب. أبي بن كعب:
وقوله تعالى: ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين يريد ب (الإيمان) شرائع الإسلام. على أنه مصدر أريد به المؤمن به، ك (درهم ضرب الأمير). (الكفر) الإباء عنه وجحوده. والآية تذييل لقوله: اليوم أحل لكم الطيبات تعظيما لشأن ما أحله الله وما حرمه، وتغليظا على من خالف ذلك. كذلك في "العناية".