[ ص: 12 ] وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
nindex.php?page=treesubj&link=28826قاعدة في الجماعة والفرقة وسبب ذلك ونتيجته قال الله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4327&ayano=42شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } . أخبر سبحانه أنه شرع لنا ما وصى به
نوحا ، والذي أوحاه إلى
محمد صلى الله عليه وسلم وما وصى به الثلاثة المذكورين .
وهؤلاء هم
nindex.php?page=treesubj&link=29638أولو العزم المأخوذ عليهم الميثاق في قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3573&ayano=33وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم } . وقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4327&ayano=42ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به } فجاء في حق
محمد باسم الذي وبلفظ الإيحاء ، وفي سائر الرسل بلفظ [ الوصية ] . ثم قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4327&ayano=42أن أقيموا الدين } وهذا تفسير الوصية ، و ( أن : المفسرة التي تأتي بعد فعل من معنى القول لا من لفظه . كما في قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2040&ayano=16ثم أوحينا إليك أن اتبع } . {
nindex.php?page=tafseer&surano=628&ayano=4ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله } والمعنى قلنا لهم : اتقوا الله .
فكذلك قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4327&ayano=42أن أقيموا الدين } في معنى قال : لكم من الدين ما وصى به رسلا قلنا أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ، فالمشروع لنا هو الموصى به ، والموحى ، وهو : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4327&ayano=42أقيموا الدين } فأقيموا الدين مفسر
[ ص: 13 ] للمشروع لنا الموصى به الرسل ، والموحى إلى
محمد صلى الله عليه وسلم فقد يقال : الضمير في أقيموا عائد إلينا . ويقال هو عائد إلى المرسل .
ويقال هو عائد إلى الجميع . وهذا أحسن ونظيره . أمرتك بما أمرت به زيدا . أن أطع الله ، ووصيتكم بما وصيت بني فلان : أن افعلوا . فعلى الأول : يكون بدلا من ( ما ) أي شرع لكم أن أقيموا وعلى الثاني : شرع ( ما خاطبهم . أقيموا فهو بدل أيضا ، وذكر ما قيل للأولين . وعلى الثالث : شرع الموصى به ( أقيموا ) فلما خاطب بهذه الجماعة بعد الإخبار بأنها مقولة لنا ، ومقولة لهم : علم أن الضمير عائد إلى الطائفتين جميعا .
وهذا أصح إن شاء الله . والمعنى على التقديرين الأولين يرجع إلى هذا ، فإن الذي شرع لنا : هو الذي وصى به الرسل ، وهو الأمر بإقامة الدين والنهي عن التفرق فيه ; ولكن التردد في أن الضمير تناولهم لفظه ; وقد علم أنه قيل لنا مثله ; أو بالعكس ; أو تناولنا جميعا . وإذا كان الله قد أمر الأولين والآخرين بأن يقيموا الدين ، ولا يتفرقوا فيه ، وقد أخبر أنه شرع لنا ما وصى به نوحا ، والذي أوحاه إلى
محمد صلى الله عليه وسلم . فيحتمل شيئين : أحدهما : أن يكون ما أوحاه إلى
محمد صلى الله عليه وسلم يدخل فيه شريعته التي تختص بنا ; فإن جميع ما بعث به
محمد صلى الله عليه وسلم قد أوحاه إليه من الأصول والفروع بخلاف
نوح وغيره من الرسل ; فإنما شرع لنا من الدين ما وصوا به ; من إقامة الدين ، وترك التفرق فيه .
والدين الذي اتفقوا عليه : هو الأصول . فتضمن الكلام أشياء : -
[ ص: 14 ] أحدها : أنه شرع لنا الدين المشترك وهو الإسلام والإيمان العام والدين المختص بنا ; وهو الإسلام والإيمان الخاص . الثاني : أنه أمرنا بإقامة هذا الدين كله المشترك والمختص ونهانا عن التفرق فيه . الثالث : أنه أمر المرسلين بإقامة الدين المشترك ، ونهاهم عن التفرق فيه . الرابع : أنه لما فصل بقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4327&ayano=35والذي أوحينا إليك } بين قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4327&ayano=42ما وصى به نوحا } وقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4327&ayano=42وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى } أفاد ذلك .
ثم قال بعد ذلك : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4328&ayano=42وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } فأخبر أن تفرقهم إنما كان بعد مجيء العلم الذي بين لهم ما يتقون ; فإن الله ما كان ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون . وأخبر أنهم ما تفرقوا إلا بغيا ، والبغي مجاوزة الحد ، كما قال
ابن عمر : الكبر والحسد ; وهذا بخلاف التفرق عن اجتهاد ليس في علم ، ولا قصد به البغي كتنازع العلماء السائغ ، والبغي إما تضييع للحق ، وإما تعد للحد ; فهو إما ترك واجب ، وإما فعل محرم ; فعلم أن موجب التفرق هو ذلك .
وهذا كما قال عن
أهل الكتاب : {
nindex.php?page=tafseer&surano=688&ayano=5ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } فأخبر أن نسيانهم حظا مما ذكروا به - وهو ترك العمل ببعض ما أمروا به - كان سببا لإغراء العداوة والبغضاء بينهم ، وهكذا هو الواقع في أهل ملتنا مثلما نجده بين الطوائف المتنازعة في أصول دينها ، وكثير من فروعه من أهل
[ ص: 15 ] الأصول والفروع ومثلما نجده بين العلماء وبين العباد ; ممن يغلب عليه الموسوية أو العيسوية حتى يبقى فيهم شبه من الأمتين اللتين قالت كل واحدة : ليست الأخرى على شيء . كما نجد المتفقه المتمسك من الدين بالأعمال الظاهرة والمتصوف المتمسك منه بأعمال باطنة كل منهما ينفي طريقة الآخر ويدعي أنه ليس من أهل الدين ، أو يعرض عنه إعراض من لا يعده من الدين ; فتقع بينهما العداوة والبغضاء .
وذلك : أن الله أمر بطهارة القلب ، وأمر بطهارة البدن ، وكلا الطهارتين من الدين الذي أمر الله به وأوجبه . قال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=680&ayano=5ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم } وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1352&ayano=9فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين } وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=231&ayano=2إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1347&ayano=9خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=715&ayano=5أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1272&ayano=9إنما المشركون نجس } وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3599&ayano=33إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } .
فنجد كثيرا من المتفقهة والمتعبدة ، إنما همته طهارة البدن فقط ، ويزيد فيها على المشروع اهتماما وعملا . ويترك من طهارة القلب ما أمر به ; إيجابا ، أو استحبابا ، ولا يفهم من الطهارة إلا ذلك .
ونجد كثيرا من المتصوفة والمتفقرة ، إنما همته طهارة القلب فقط ; حتى يزيد فيها على المشروع اهتماما وعملا ; ويترك من طهارة البدن ما أمر به إيجابا ، أو استحبابا . فالأولون يخرجون إلى الوسوسة المذمومة في كثرة صب الماء ، وتنجيس ما ليس بنجس ، واجتناب ما لا يشرع اجتنابه مع اشتمال قلوبهم على أنواع من
[ ص: 16 ] الحسد والكبر والغل لإخوانهم ، وفي ذلك مشابهة بينة
لليهود . والآخرون يخرجون إلى الغفلة المذمومة ، فيبالغون في سلامة الباطن حتى يجعلون الجهل بما تجب معرفته من الشر - الذي يجب اتقاؤه - من سلامة الباطن ، ولا يفرقون بين سلامة الباطن من إرادة الشر المنهي عنه ، وبين سلامة القلب من معرفة الشر المعرفة المأمور بها ثم مع هذا الجهل والغفلة قد لا يجتنبون النجاسات ، ويقيمون الطهارة الواجبة مضاهاة
للنصارى .
وتقع العداوة بين الطائفتين بسبب ترك حظ مما ذكروا به والبغي الذي هو مجاوزة الحد إما تفريطا وتضييعا للحق ، وإما عدوانا وفعلا للظلم . والبغي تارة يكون من بعضهم على بعض وتارة يكون في حقوق الله ، وهما متلازمان ولهذا قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4328&ayano=2بغيا بينهم } فإن كل طائفة بغت على الأخرى ، فلم تعرف حقها الذي بأيديها ولم تكف عن العدوان عليها .
وقال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6232&ayano=98وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } وقال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=222&ayano=2كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم } . وقال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4534&ayano=45ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة } الآية وقال تعالى في
موسى بن عمران مثل ذلك وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=401&ayano=3ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=954&ayano=6إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3469&ayano=30فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } {
nindex.php?page=tafseer&surano=3470&ayano=30منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين } {
nindex.php?page=tafseer&surano=3471&ayano=30من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } لأن المشركين كل منهم يعبد إلها يهواه .
كما قال في الآية الأولى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4327&ayano=42كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2747&ayano=23يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم } {
nindex.php?page=tafseer&surano=2748&ayano=23وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } {
nindex.php?page=tafseer&surano=2749&ayano=23فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون } . فظهر أن سبب الاجتماع والألفة جمع الدين والعمل به كله ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، كما أمر به باطنا ، وظاهرا . وسبب الفرقة : ترك حظ مما أمر العبد به ، والبغي بينهم . ونتيجة الجماعة : رحمة الله ، ورضوانه ، وصلواته ، وسعادة الدنيا والآخرة ، وبياض الوجوه . ونتيجة الفرقة : عذاب الله ، ولعنته ، وسواد الوجوه ، وبراءة الرسول صلى الله عليه وسلم منهم . وهذا أحد الأدلة على أن الإجماع حجة قاطعة ، فإنهم إذا اجتمعوا كانوا مطيعين لله بذلك مرحومين ، فلا تكون طاعة الله ورحمته : بفعل لم يأمر الله به من اعتقاد ، أو قول ، أو عمل ، فلو كان القول ، أو العمل الذي اجتمعوا عليه لم يأمر الله به لم يكن ذلك طاعة لله ، ولا سببا لرحمته ، وقد احتج بذلك
أبو بكر عبد العزيز في أول " التنبيه " نبه على هذه النكتة .
[ ص: 18 ]
وقال : فصل قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور في السنن من رواية فقيهي
الصحابة :
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود ،
وزيد بن ثابت {
nindex.php?page=hadith&LINKID=17101ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر ولزوم جماعة المسلمين ; فإن دعوتهم تحيط من ورائهم } وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة المحفوظ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=595072إن الله يرضى لكم ثلاثا : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم } . فقد جمع في هذه الأحاديث بين الخصال الثلاث ;
nindex.php?page=treesubj&link=28678_28822_18291إخلاص العمل لله ومناصحة أولي الأمر ولزوم جماعة المسلمين ، وهذه الثلاث تجمع أصول الدين وقواعده وتجمع الحقوق التي لله ولعباده ، وتنتظم مصالح الدنيا والآخرة .
وبيان ذلك أن الحقوق قسمان : حق لله وحق لعباده ، فحق الله أن نعبده ولا نشرك به شيئا ، كما جاء لفظه في أحد الحديثين ; وهذا معنى إخلاص العمل لله ، كما جاء في الحديث الآخر . وحقوق العباد قسمان : خاص وعام ; أما الخاص فمثل بر كل إنسان والديه ، وحق زوجته وجاره ; فهذه من فروع الدين ; لأن المكلف قد يخلو عن وجوبها عليه ; ولأن مصلحتها خاصة فردية .
وأما الحقوق العامة فالناس نوعان : رعاة ورعية ; فحقوق الرعاة مناصحتهم ; وحقوق الرعية لزوم جماعتهم ; فإن مصلحتهم لا تتم إلا باجتماعهم ، وهم لا يجتمعون
[ ص: 19 ] على ضلالة ; بل مصلحة دينهم ودنياهم في اجتماعهم واعتصامهم بحبل الله جميعا ; فهذه الخصال تجمع أصول الدين . وقد جاءت مفسرة في الحديث الذي رواه
مسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=155تميم الداري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {
nindex.php?page=hadith&LINKID=14202الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم } .
فالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله تدخل في حق الله وعبادته وحده لا شريك له ، والنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم هي مناصحة ولاة الأمر ولزوم جماعتهم ، فإن لزوم جماعتهم هي نصيحتهم العامة ، وأما النصيحة الخاصة لكل واحد منهم بعينه ، فهذه يمكن بعضها ويتعذر استيعابها على سبيل التعيين .
[ ص: 12 ] وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
nindex.php?page=treesubj&link=28826قَاعِدَةٌ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْفُرْقَةِ وَسَبَبُ ذَلِكَ وَنَتِيجَتُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4327&ayano=42شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } . أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ شَرَعَ لَنَا مَا وَصَّى بِهِ
نُوحًا ، وَاَلَّذِي أَوْحَاهُ إلَى
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا وَصَّى بِهِ الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورِينَ .
وَهَؤُلَاءِ هُمْ
nindex.php?page=treesubj&link=29638أُولُو الْعَزْمِ الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِمْ الْمِيثَاقُ فِي قَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3573&ayano=33وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } . وَقَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4327&ayano=42مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ } فَجَاءَ فِي حَقِّ
مُحَمَّدٍ بَاسِمِ الَّذِي وَبِلَفْظِ الْإِيحَاءِ ، وَفِي سَائِرِ الرُّسُلِ بِلَفْظِ [ الْوَصِيَّةِ ] . ثُمَّ قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4327&ayano=42أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ } وَهَذَا تَفْسِيرُ الْوَصِيَّةِ ، و ( أَنْ : الْمُفَسِّرَةُ الَّتِي تَأْتِي بَعْدَ فِعْلٍ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ لَا مِنْ لَفْظِهِ . كَمَا فِي قَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2040&ayano=16ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ } . {
nindex.php?page=tafseer&surano=628&ayano=4وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ } وَالْمَعْنَى قُلْنَا لَهُمْ : اتَّقُوا اللَّهَ .
فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4327&ayano=42أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ } فِي مَعْنَى قَالَ : لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ رُسُلًا قُلْنَا أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ، فَالْمَشْرُوعُ لَنَا هُوَ الْمُوصَى بِهِ ، وَالْمُوحَى ، وَهُوَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4327&ayano=42أَقِيمُوا الدِّينَ } فَأَقِيمُوا الدِّينَ مُفَسِّرٌ
[ ص: 13 ] لِلْمَشْرُوعِ لَنَا الْمُوصَى بِهِ الرُّسُلُ ، وَالْمُوحَى إلَى
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ يُقَالُ : الضَّمِيرُ فِي أَقِيمُوا عَائِدٌ إلَيْنَا . وَيُقَالُ هُوَ عَائِدٌ إلَى الْمُرْسَلِ .
وَيُقَالُ هُوَ عَائِدٌ إلَى الْجَمِيعِ . وَهَذَا أَحْسَنُ وَنَظِيرُهُ . أَمَرْتُكَ بِمَا أَمَرْتُ بِهِ زَيْدًا . أَنْ أَطِعْ اللَّهَ ، وَوَصَّيْتُكُمْ بِمَا وَصَّيْتُ بَنِي فُلَانٍ : أَنْ افْعَلُوا . فَعَلَى الْأَوَّلِ : يَكُونُ بَدَلًا مِنْ ( مَا ) أَيْ شَرَعَ لَكُمْ أَنْ أَقِيمُوا وَعَلَى الثَّانِي : شَرَعَ ( مَا خَاطَبَهُمْ . أَقِيمُوا فَهُوَ بَدَلٌ أَيْضًا ، وَذَكَرَ مَا قِيلَ لِلْأَوَّلِينَ . وَعَلَى الثَّالِثِ : شَرَعَ الْمُوصَى بِهِ ( أَقِيمُوا ) فَلَمَّا خَاطَبَ بِهَذِهِ الْجَمَاعَةِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهَا مَقُولَةٌ لَنَا ، وَمَقُولَةٌ لَهُمْ : عَلِمَ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلَى الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا .
وَهَذَا أَصَحُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَالْمَعْنَى عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يَرْجِعُ إلَى هَذَا ، فَإِنَّ الَّذِي شُرِعَ لَنَا : هُوَ الَّذِي وَصَّى بِهِ الرُّسُلَ ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِإِقَامَةِ الدِّينِ وَالنَّهْيُ عَنْ التَّفَرُّقِ فِيهِ ; وَلَكِنَّ التَّرَدُّدَ فِي أَنَّ الضَّمِيرَ تَنَاوَلَهُمْ لَفْظُهُ ; وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ قِيلَ لَنَا مِثْلُهُ ; أَوْ بِالْعَكْسِ ; أَوْ تَنَاوَلَنَا جَمِيعًا . وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَ الْأَوَّلِينَ والآخرين بِأَنْ يُقِيمُوا الدِّينَ ، وَلَا يَتَفَرَّقُوا فِيهِ ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ شَرَعَ لَنَا مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ، وَاَلَّذِي أَوْحَاهُ إلَى
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَيَحْتَمِلُ شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَا أَوْحَاهُ إلَى
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ فِيهِ شَرِيعَتُهُ الَّتِي تَخْتَصُّ بِنَا ; فَإِنَّ جَمِيعَ مَا بُعِثَ بِهِ
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَوْحَاهُ إلَيْهِ مِنْ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ بِخِلَافِ
نُوحٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الرُّسُلِ ; فَإِنَّمَا شَرَعَ لَنَا مِنْ الدِّينِ مَا وُصُّوا بِهِ ; مِنْ إقَامَةِ الدِّينِ ، وَتَرْكِ التَّفَرُّقِ فِيهِ .
وَالدِّينُ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ : هُوَ الْأُصُولُ . فَتَضَمَّنَ الْكَلَامُ أَشْيَاءَ : -
[ ص: 14 ] أَحَدُهَا : أَنَّهُ شَرَعَ لَنَا الدِّينَ الْمُشْتَرَكَ وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ الْعَامُّ وَالدِّينُ الْمُخْتَصُّ بِنَا ; وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ الْخَاصُّ . الثَّانِي : أَنَّهُ أَمَرَنَا بِإِقَامَةِ هَذَا الدِّينِ كُلِّهِ الْمُشْتَرَكِ وَالْمُخْتَصِّ وَنَهَانَا عَنْ التَّفَرُّقِ فِيهِ . الثَّالِثُ : أَنَّهُ أَمَرَ الْمُرْسَلِينَ بِإِقَامَةِ الدِّينِ الْمُشْتَرَكِ ، وَنَهَاهُمْ عَنْ التَّفَرُّقِ فِيهِ . الرَّابِعُ : أَنَّهُ لَمَّا فَصَلَ بِقَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4327&ayano=35وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ } بَيْنَ قَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4327&ayano=42مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا } وَقَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4327&ayano=42وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى } أَفَادَ ذَلِكَ .
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4328&ayano=42وَمَا تَفَرَّقُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } فَأَخْبَرَ أَنَّ تَفَرُّقَهُمْ إنَّمَا كَانَ بَعْدَ مَجِيءِ الْعِلْمِ الَّذِي بَيَّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ ; فَإِنَّ اللَّهَ مَا كَانَ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ . وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ مَا تَفَرَّقُوا إلَّا بَغْيًا ، وَالْبَغْيُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ ، كَمَا قَالَ
ابْنُ عُمَرَ : الْكِبْرُ وَالْحَسَدُ ; وَهَذَا بِخِلَافِ التَّفَرُّقِ عَنْ اجْتِهَادٍ لَيْسَ فِي عِلْمٍ ، وَلَا قَصَدَ بِهِ الْبَغْيَ كَتَنَازُعِ الْعُلَمَاءِ السَّائِغِ ، وَالْبَغْيُ إمَّا تَضْيِيعٌ لِلْحَقِّ ، وَإِمَّا تَعَدٍّ لِلْحَدِّ ; فَهُوَ إمَّا تَرْكُ وَاجِبٍ ، وَإِمَّا فِعْلُ مُحَرَّمٍ ; فَعُلِمَ أَنَّ مُوجِبَ التَّفَرُّقِ هُوَ ذَلِكَ .
وَهَذَا كَمَا قَالَ عَنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=688&ayano=5وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } فَأَخْبَرَ أَنَّ نِسْيَانَهُمْ حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ - وَهُوَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِبَعْضِ مَا أُمِرُوا بِهِ - كَانَ سَبَبًا لِإِغْرَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَهُمْ ، وَهَكَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي أَهْلِ مِلَّتِنَا مِثْلَمَا نَجِدُهُ بَيْنَ الطَّوَائِفِ الْمُتَنَازِعَةِ فِي أُصُولِ دِينِهَا ، وَكَثِيرٍ مِنْ فُرُوعِهِ مِنْ أَهْلِ
[ ص: 15 ] الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَمِثْلَمَا نَجِدُهُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَبَيْنَ الْعِبَادِ ; مِمَّنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الموسوية أَوْ العيسوية حَتَّى يَبْقَى فِيهِمْ شَبَهٌ مِنْ الْأُمَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَالَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ : لَيْسَتْ الْأُخْرَى عَلَى شَيْءٍ . كَمَا نَجِدُ الْمُتَفَقِّهَ الْمُتَمَسِّكَ مِنْ الدِّينِ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْمُتَصَوِّفَ الْمُتَمَسِّكَ مِنْهُ بِأَعْمَالِ بَاطِنَةٍ كُلٌّ مِنْهُمَا يَنْفِي طَرِيقَةَ الْآخَرِ وَيَدَّعِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ ، أَوْ يُعْرِضُ عَنْهُ إعْرَاضَ مَنْ لَا يَعُدُّهُ مِنْ الدِّينِ ; فَتَقَعُ بَيْنَهُمَا الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ .
وَذَلِكَ : أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِطَهَارَةِ الْقَلْبِ ، وَأَمَرَ بِطَهَارَةِ الْبَدَنِ ، وَكِلَا الطَّهَارَتَيْنِ مِنْ الدِّينِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَوْجَبَهُ . قَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=680&ayano=5مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } وَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1352&ayano=9فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } وَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=231&ayano=2إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } وَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1347&ayano=9خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } وَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=715&ayano=5أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1272&ayano=9إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } وَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3599&ayano=33إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } .
فَنَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَعَبِّدَةِ ، إنَّمَا هِمَّتُهُ طَهَارَة الْبَدَنِ فَقَطْ ، وَيَزِيدُ فِيهَا عَلَى الْمَشْرُوعِ اهْتِمَامًا وَعَمَلًا . وَيَتْرُكُ مِنْ طَهَارَةِ الْقَلْبِ مَا أُمِرَ بِهِ ; إيجَابًا ، أَوْ اسْتِحْبَابًا ، وَلَا يَفْهَمُ مِنْ الطَّهَارَةِ إلَّا ذَلِكَ .
وَنَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ ، إنَّمَا هَمَّتْهُ طِهَارَةُ الْقَلْبِ فَقَطْ ; حَتَّى يَزِيدَ فِيهَا عَلَى الْمَشْرُوعِ اهْتِمَامًا وَعَمَلًا ; وَيَتْرُكُ مِنْ طَهَارَةِ الْبَدَنِ مَا أُمِرَ بِهِ إيجَابًا ، أَوْ اسْتِحْبَابًا . فَالْأَوَّلُونَ يَخْرُجُونَ إلَى الْوَسْوَسَةِ الْمَذْمُومَةِ فِي كَثْرَةِ صَبِّ الْمَاءِ ، وَتَنْجِيسِ مَا لَيْسَ بِنَجِسِ ، وَاجْتِنَابِ مَا لَا يُشْرَعُ اجْتِنَابُهُ مَعَ اشْتِمَالِ قُلُوبِهِمْ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ
[ ص: 16 ] الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ وَالْغِلِّ لِإِخْوَانِهِمْ ، وَفِي ذَلِكَ مُشَابَهَةٌ بَيِّنَةٌ
لِلْيَهُودِ . وَالْآخَرُونَ يَخْرُجُونَ إلَى الْغَفْلَةِ الْمَذْمُومَةِ ، فَيُبَالِغُونَ فِي سَلَامَةِ الْبَاطِنِ حَتَّى يَجْعَلُونَ الْجَهْلَ بِمَا تَجِبُ مَعْرِفَتُهُ مِنْ الشَّرِّ - الَّذِي يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ - مِنْ سَلَامَةِ الْبَاطِنِ ، وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ سَلَامَةِ الْبَاطِنِ مِنْ إرَادَةِ الشَّرِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، وَبَيْنَ سَلَامَةِ الْقَلْبِ مِنْ مَعْرِفَةِ الشَّرِّ الْمَعْرِفَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا ثُمَّ مَعَ هَذَا الْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ قَدْ لَا يَجْتَنِبُونَ النَّجَاسَاتِ ، وَيُقِيمُونَ الطِّهَارَةَ الْوَاجِبَةَ مُضَاهَاةً
لِلنَّصَارَى .
وَتَقَعُ الْعَدَاوَةُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ بِسَبَبِ تَرْكِ حَظٍّ مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَالْبَغْيِ الَّذِي هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ إمَّا تَفْرِيطًا وَتَضْيِيعًا لِلْحَقِّ ، وَإِمَّا عُدْوَانًا وَفِعْلًا لِلظُّلْمِ . وَالْبَغْيُ تَارَةً يَكُونُ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَتَارَةً يَكُونُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ ، وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ وَلِهَذَا قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4328&ayano=2بَغْيًا بَيْنَهُمْ } فَإِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ بَغَتْ عَلَى الْأُخْرَى ، فَلَمْ تَعْرِفْ حَقَّهَا الَّذِي بِأَيْدِيهَا وَلَمْ تَكُفَّ عَنْ الْعُدْوَانِ عَلَيْهَا .
وَقَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6232&ayano=98وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } وَقَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=222&ayano=2كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } . وَقَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4534&ayano=45وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ } الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى فِي
مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=401&ayano=3وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } وَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=954&ayano=6إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } وَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3469&ayano=30فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=3470&ayano=30مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=3471&ayano=30مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَعْبُدُ إلَهًا يَهْوَاهُ .
كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4327&ayano=42كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ } وَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2747&ayano=23يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=2748&ayano=23وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=2749&ayano=23فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } . فَظَهَرَ أَنَّ سَبَبَ الِاجْتِمَاعِ وَالْأُلْفَةِ جَمْعُ الدِّينِ وَالْعَمَلُ بِهِ كُلِّهِ ، وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، كَمَا أَمَرَ بِهِ بَاطِنًا ، وَظَاهِرًا . وَسَبَبُ الْفُرْقَةِ : تَرْكُ حَظٍّ مِمَّا أُمِرَ الْعَبْدُ بِهِ ، وَالْبَغْيُ بَيْنَهُمْ . وَنَتِيجَةُ الْجَمَاعَةِ : رَحْمَةُ اللَّهِ ، وَرِضْوَانُهُ ، وَصَلَوَاتُهُ ، وَسَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَبَيَاضُ الْوُجُوهِ . وَنَتِيجَةُ الْفُرْقَةِ : عَذَابُ اللَّهِ ، وَلَعْنَتُهُ ، وَسَوَادُ الْوُجُوهِ ، وَبَرَاءَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ . وَهَذَا أَحَدُ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ ، فَإِنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا كَانُوا مُطِيعِينَ لِلَّهِ بِذَلِكَ مَرْحُومِينَ ، فَلَا تَكُونُ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ : بِفِعْلِ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ مِنْ اعْتِقَادٍ ، أَوْ قَوْلٍ ، أَوْ عَمَلٍ ، فَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ ، أَوْ الْعَمَلُ الَّذِي اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَاعَةً لِلَّهِ ، وَلَا سَبَبًا لِرَحْمَتِهِ ، وَقَدْ احْتَجَّ بِذَلِكَ
أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي أَوَّلِ " التَّنْبِيهِ " نَبَّهَ عَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ .
[ ص: 18 ]
وَقَالَ : فَصْلٌ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ فَقِيهَيْ
الصَّحَابَةِ :
nindex.php?page=showalam&ids=10عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ،
وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=17101ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ } وَفِي حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَحْفُوظِ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=595072إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا : أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ، وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ } . فَقَدْ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بَيْنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ ;
nindex.php?page=treesubj&link=28678_28822_18291إخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَمُنَاصَحَةِ أُولِي الْأَمْرِ وَلُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَهَذِهِ الثَّلَاثُ تَجْمَعُ أُصُولَ الدِّينِ وَقَوَاعِدَهُ وَتَجْمَعُ الْحُقُوقَ الَّتِي لِلَّهِ وَلِعِبَادِهِ ، وَتَنْتَظِمُ مَصَالِحَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْحُقُوقَ قِسْمَانِ : حَقٌّ لِلَّهِ وَحَقٌّ لِعِبَادِهِ ، فَحَقُّ اللَّهِ أَنْ نَعْبُدَهُ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ، كَمَا جَاءَ لَفْظُهُ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ ; وَهَذَا مَعْنَى إخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ . وَحُقُوقُ الْعِبَادِ قِسْمَانِ : خَاصٌّ وَعَامٌّ ; أَمَّا الْخَاصُّ فَمِثْلُ بِرِّ كُلِّ إنْسَانٍ وَالِدَيْهِ ، وَحَقِّ زَوْجَتِهِ وَجَارِهِ ; فَهَذِهِ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ ; لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ قَدْ يَخْلُو عَنْ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ ; وَلِأَنَّ مَصْلَحَتَهَا خَاصَّةٌ فَرْدِيَّةٌ .
وَأَمَّا الْحُقُوقُ الْعَامَّةُ فَالنَّاسُ نَوْعَانِ : رُعَاةٌ وَرَعِيَّةٌ ; فَحُقُوقُ الرُّعَاةِ مُنَاصَحَتُهُمْ ; وَحُقُوقُ الرَّعِيَّةِ لُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ ; فَإِنَّ مَصْلَحَتَهُمْ لَا تَتِمُّ إلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ ، وَهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ
[ ص: 19 ] عَلَى ضَلَالَةٍ ; بَلْ مَصْلَحَةُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فِي اجْتِمَاعِهِمْ وَاعْتِصَامِهِمْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ; فَهَذِهِ الْخِصَالُ تَجْمَعُ أُصُولَ الدِّينِ . وَقَدْ جَاءَتْ مُفَسَّرَةً فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ
مُسْلِمٌ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=155تَمِيمٍ الداري قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=14202الدِّينُ النَّصِيحَةُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ قَالُوا : لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ } .
فَالنَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ تَدْخُلُ فِي حَقِّ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَالنَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ هِيَ مُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ ، فَإِنَّ لُزُومَ جَمَاعَتِهِمْ هِيَ نَصِيحَتُهُمْ الْعَامَّةُ ، وَأَمَّا النَّصِيحَةُ الْخَاصَّةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ ، فَهَذِهِ يُمْكِنُ بَعْضُهَا وَيَتَعَذَّرُ اسْتِيعَابُهَا عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ .