ومثل ذلك " " لما يحتاج الناس إليه روى الاحتكار مسلم في صحيحه عن معمر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { } " فإن المحتكر هو الذي يعمد إلى شراء ما يحتاج إليه الناس من الطعام فيحبسه عنهم ويريد إغلاءه عليهم وهو ظالم للخلق المشترين ولهذا كان لا يحتكر إلا خاطئ مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه والناس في [ ص: 76 ] مخمصة . فإنه يجبر على بيعه للناس بقيمة المثل ولهذا قال الفقهاء : لولي الأمر أن يكره الناس على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه ولو امتنع من بيعه إلا بأكثر من سعره لم يستحق إلا سعره . من اضطر إلى طعام الغير أخذه منه بغير اختياره بقيمة مثله
ومن هنا يتبين أن فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه ; أو منعهم مما أباحه الله لهم : فهو حرام . وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل ; ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل : فهو جائز ; بل واجب . السعر منه ما هو ظلم لا يجوز ومنه ما هو عدل جائز
فأما الأول فمثل ما روى أنس { } " ; رواه قال : غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله لو سعرت ؟ فقال : إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال أبو داود والترمذي وصححه . فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم وقد ارتفع السعر إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق : فهذا إلى الله . فإلزام الخلق أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق .
وأما الثاني فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس [ ص: 77 ] إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل فيجب أن يلتزموا بما ألزمهم الله به .
وأبلغ من هذا أن يكون الناس قد التزموا ألا يبيع الطعام أو غيره إلا أناس معروفون لا تباع تلك السلع إلا لهم ; ثم يبيعونها هم ; فلو باع غيرهم ذلك منع إما ظلما لوظيفة تؤخذ من البائع ; أو غير ظلم ; لما في ذلك من الفساد فههنا يجب التسعير عليهم بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل ولا يشترون أموال الناس إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء ; لأنه إذا كان قد منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه : فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما اختاروا أو اشتروا بما اختاروا كان ذلك ظلما للخلق من وجهين : ظلما للبائعين الذين يريدون بيع تلك الأموال ; وظلما للمشترين منهم . والواجب إذا لم يمكن دفع جميع الظلم أن يدفع الممكن منه فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع وحقيقته : إلزامهم ألا يبيعوا أو لا يشتروا إلا بثمن المثل .
وهذا واجب في مواضع كثيرة من الشريعة ; فإنه كما أن الإكراه على البيع لا يجوز إلا بحق : يجوز في مواضع مثل بيع المال لقضاء الدين الواجب والنفقة الواجبة والإكراه على ألا يبيع إلا بثمن المثل لا يجوز إلا بحق ويجوز في مواضع ; مثل المضطر إلى [ ص: 78 ] طعام الغير ومثل الغراس والبناء الذي في ملك الغير ; فإن لرب الأرض أن يأخذه بقيمة المثل لا بأكثر . ونظائره كثيرة . الإكراه على البيع بحق
وكذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " { السراية في العتق } " . من أعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل لا وكس ولا شطط فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد ; وإلا فقد عتق منه ما عتق
وكذلك من وجب عليه شراء شيء للعبادات كآلة الحج ورقبة العتق وماء الطهارة ; فعليه أن يشتريه بقيمة المثل ; ليس له أن يمتنع عن الشراء إلا بما يختار .
وكذلك فيما يجب عليه من طعام أو كسوة لمن عليه نفقته إذا وجد الطعام أو اللباس الذي يصلح له في العرف بثمن المثل : لم يكن له أن ينتقل إلى ما هو دونه ; حتى يبذل له ذلك بثمن يختاره . ونظائره كثيرة .
ولهذا منع غير واحد من العلماء كأبي حنيفة وأصحابه القسام الذين يقسمون العقار وغيره بالأجر أن يشتركوا والناس محتاجون إليهم ويغلو عليهم الأجر ; فمنع البائعين الذين تواطئوا على ألا يبيعوا إلا بثمن قدروه أولى . وكذلك منع المشترين إذا تواطئوا على أن يشتركوا فإنهم إذا اشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتى يهضموا سلع الناس أولى أيضا [ ص: 79 ] فإذا كانت الطائفة التي تشتري نوعا من السلع أو تبيعها قد تواطأت على أن يهضموا ما يشترونه فيشترونه بدون ثمن المثل المعروف ; ويزيدون ما يبيعونه بأكثر من الثمن المعروف ; وينموا ما يشترونه : كان هذا أعظم عدوانا من تلقي السلع ومن بيع الحاضر للبادي ومن النجش ويكونون قد اتفقوا على ظلم الناس حتى يضطروا إلى بيع سلعهم وشرائها بأكثر من ثمن المثل والناس يحتاجون إلى ذلك وشرائه وما احتاج إلى بيعه وشرائه عموم الناس فإنه يجب أن لا يباع إلا بثمن المثل : إذا كانت الحاجة إلى بيعه وشرائه عامة .
ومن ذلك أن : فإن الناس لا بد لهم من طعام يأكلونه وثياب يلبسونها ومساكن يسكنونها فإذا لم يجلب لهم من الثياب ما يكفيهم كما كان يجلب إلى يحتاج الناس إلى صناعة ناس ; مثل حاجة الناس إلى الفلاحة والنساجة والبناية الحجاز على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت الثياب تجلب إليهم من اليمن ومصر والشام وأهلها كفار وكانوا يلبسون ما نسجه الكفار ولا يغسلونه فإذا لم يجلب إلى ناس البلد ما يكفيهم احتاجوا إلى من ينسج لهم الثياب . ولا بد لهم من طعام إما مجلوب من غير بلدهم وإما من زرع بلدهم وهذا هو الغالب . وكذلك لا بد لهم من مساكن يسكنونها ; فيحتاجون إلى البناء ; فلهذا قال غير واحد من الفقهاء من أصحاب الشافعي وغيرهم : [ ص: 80 ] وأحمد بن حنبل كأبي حامد الغزالي ; وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم : أن هذه الصناعات فرض على الكفاية ; فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بها ; كما أن الجهاد فرض على الكفاية ; إلا أن يتعين فيكون فرضا على الأعيان ; مثل أن يقصد العدو بلدا ; أو مثل أن يستنفر الإمام أحدا .
; مثل طلب كل واحد علم ما أمره الله به وما نهاه عنه ; فإن هذا فرض على الأعيان كما أخرجاه في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { وطلب العلم الشرعي فرض على الكفاية إلا فيما يتعين } " وكل من أراد الله به خيرا لا بد أن يفقهه في الدين فمن لم يفقهه في الدين لم يرد الله به خيرا والدين : ما بعث الله به رسوله ; وهو ما يجب على المرء التصديق به والعمل به وعلى كل أحد أن يصدق من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين محمدا صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به ويطيعه فيما أمر تصديقا عاما وطاعة عامة ثم إذا ثبت عنه خبر كان عليه أن يصدق به مفصلا وإذا كان مأمورا من جهة بأمر معين كان عليه أن يطيعه طاعة مفصلة .
وكذلك : فرض على الكفاية . غسل الموتى وتكفينهم والصلاة عليهم ودفنهم
وكذلك فرض على الكفاية . [ ص: 81 ] والولايات كلها : الدينية - مثل إمرة المؤمنين وما دونها : من ملك ووزارة وديوانية سواء كانت كتابة خطاب أو كتابة حساب لمستخرج أو مصروف في أرزاق المقاتلة أو غيرهم ومثل إمارة حرب وقضاء وحسبة وفروع هذه الولايات - إنما شرعت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدينته النبوية يتولى جميع ما يتعلق بولاة الأمور ويولي في الأماكن البعيدة عنه كما ولى على مكة عتاب بن أسيد وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص وعلى قرى عرينة خالد بن سعيد بن العاص وبعث عليا ومعاذا وأبا موسى إلى اليمن . وكذلك كان يؤمر على السرايا ويبعث على الأموال الزكوية السعاة فيأخذونها ممن هي عليه ويدفعونها إلى مستحقيها الذين سماهم الله في القرآن فيرجع الساعي إلى المدينة وليس معه إلا السوط لا يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشيء إذا وجد لها موضعا يضعها فيه .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستوفي الحساب على العمال ; يحاسبهم على المستخرج والمصروف ; كما في الصحيحين عن { أبي حميد الساعدي الأزد يقال له : ابن اللتبية على الصدقات ; فلما رجع حاسبه فقال : هذا لكم [ ص: 82 ] وهذا أهدي إلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما بال الرجل نستعمله على العمل بما ولانا الله فيقول : هذا لكم وهذا أهدي إلي ؟ أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا ؟ والذي نفسي بيده لا نستعمل رجلا على العمل مما ولانا الله فيغل منه شيئا إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته : إن كان بعيرا له رغاء ; وإن كانت بقرة لها خوار ; وإن كانت شاة تيعر ثم رفع يديه إلى السماء وقال : - اللهم هل بلغت ؟ اللهم هل بلغت ؟ - قالها مرتين أو ثلاثا } . أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من
والمقصود هنا : أن هذه الأعمال التي هي فرض على الكفاية متى لم يقم بها غير الإنسان صارت فرض عين عليه لا سيما إن كان غيره عاجزا عنها فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صار هذا العمل واجبا يجبرهم ولي الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم ألزم من صناعته الفلاحة بأن يصنعها لهم : فإن الجند يلزمون بأن لا يظلموا الفلاح كما ألزم الفلاح أن يفلح للجند .