فصل اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل ; ولهذا كان رضي الله عنه يقول : اللهم أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة . فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها . فإذا عمر بن الخطاب ; قدم أنفعهما لتلك الولاية : وأقلهما [ ص: 255 ] ضررا فيها ; فيقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع - وإن كان فيه فجور - على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أمينا ; كما سئل تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة : عن الإمام أحمد ؟ فقال : إما الفاجر القوي فقوله للمسلمين وفجوره على نفسه ; وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين فيغزى مع القوي الفاجر . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { الرجلين يكونان أميرين في الغزو وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف مع أيهما يغزى } . وإن لم يكن فاجرا كان أولى بإمارة الحرب ممن هو أصلح منه في الدين إذا لم يسد مسده . إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر . وروي بأقوام لا خلاق لهم
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل خالد بن الوليد على الحرب منذ أسلم وقال : { خالد سيف سله الله على المشركين } . مع أنه أحيانا قد كان يعمل ما ينكره النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه - مرة - قام ثم رفع يديه إلى السماء وقال : { إن خالد } لما أرسله إلى اللهم إني أبرأ إليك مما فعل بني جذيمة فقتلهم وأخذ أموالهم بنوع شبهة ولم يكن يجوز ذلك وأنكره عليه بعض من معه من الصحابة حتى وداهم النبي صلى الله عليه وسلم وضمن أموالهم ; ومع هذا فما زال يقدمه في إمارة الحرب ; لأنه كان أصلح في هذا الباب من غيره وفعل ما فعل بنوع تأويل .
[ ص: 256 ] كان رضي الله عنه أصلح منه في الأمانة والصدق ; ومع هذا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم { أبو ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي : لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم أبا ذر } رواه يا مسلم . نهى عن الإمارة والولاية لأنه رآه ضعيفا مع أنه قد روى : { أبا ذر أبي ذر } . ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مرة عمرو بن العاص في غزوة " ذات السلاسل - استعطافا لأقاربه الذين بعثه إليهم - على من هم أفضل منه . وأمر ; لأجل طلب ثأر أبيه . كذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة راجحة مع أنه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه في العلم والإيمان . أسامة بن زيد
وهكذا أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه ما زال يستعمل خالدا في حرب أهل الردة وفي فتوح العراق والشام وبدت منه هفوات كان له فيها تأويل وقد ذكر له عنه أنه كان له فيها هوى فلم يعزله من أجلها ; بل عاتبه عليها ; لرجحان المصلحة على المفسدة في بقائه وأن غيره لم يكن يقوم مقامه ; لأن المتولي الكبير إذا كان خلقه يميل إلى اللين فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى الشدة ; وإذا كان خلقه يميل إلى الشدة فينبغي أن [ ص: 257 ] يكون خلق نائبه يميل إلى اللين ; ليعتدل الأمر .
ولهذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يؤثر استنابة خالد ; وكان رضي الله عنه يؤثر عزل عمر بن الخطاب خالد واستنابة رضي الله عنه لأن أبي عبيدة بن الجراح خالدا كان شديدا كعمر بن الخطاب وأبا عبيدة كان لينا كأبي بكر ; وكان الأصلح لكل منهما أن يولي من ولاه ; ليكون أمره معتدلا ويكون بذلك من خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو معتدل ; حقا قال النبي صلى الله عليه وسلم { } وقال : { أنا نبي الرحمة أنا نبي الملحمة أنا الضحوك القتال } . وأمته وسط قال الله تعالى فيهم : { أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا } وقال تعالى : { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } .
ولهذا لما تولى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما صارا كاملين في الولاية واعتدل منهما ما كان ينسبان فيه إلى أحد الطرفين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم من لين أحدها وشدة الآخر حتى قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم { أبي بكر وعمر } . وظهر من اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر من شجاعة القلب في قتال أهل الردة وغيرهم : ما برز به على عمر وسائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين .
وإذا قدم الأمين : مثل [ ص: 258 ] حفظ الأموال ونحوها ; فأما استخراجها وحفظها فلا بد فيه من قوة وأمانة فيولى عليها شاد قوي يستخرجها بقوته وكاتب أمين يحفظها بخبرته وأمانته . وكذلك في إمارة الحرب إذا أمر الأمير بمشاورة أهل العلم والدين جمع بين المصلحتين ; وهكذا في سائر الولايات إذا لم تتم المصلحة برجل واحد جمع بين عدد ; فلا بد من ترجيح الأصلح أو تعدد المولى إذا لم تقع الكفاية بواحد تام . كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد
; فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع ; قدم - فيما قد يظهر حكمه ويخاف فيه الهوى - الأورع ; وفيما يدق حكمه ويخاف فيه الاشتباه : الأعلم . ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ويقدم في ولاية القضاء : الأعلم الأورع الأكفأ إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات } .
ويقدمان على الأكفأ إن كان القاضي مؤيدا تأييدا تاما من جهة والي الحرب أو العامة .
ويقدم الأكفأ . إن كان القضاء يحتاج إلى قوة وإعانة للقاضي أكثر من حاجته إلى مزيد العلم والورع ; فإن القاضي المطلق يحتاج أن يكون عالما عادلا قادرا . بل كذلك كل وال للمسلمين فأي صفة من هذه الصفات نقصت ظهر الخلل بسببه والكفاءة : إما بقهر ورهبة ; [ ص: 259 ] وإما بإحسان ورغبة وفي الحقيقة فلا بد منهما .
وسئل بعض العلماء : إذا ؟ فقال : إن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لغلبة الفساد قدم الدين . وإن كانت الحاجة إلى العلم أكثر لخفاء الحكومات قدم العالم . وأكثر العلماء يقدمون ذا الدين ; فإن الأئمة متفقون على أنه لا بد في المتولي من أن يكون عدلا أهلا للشهادة ; واختلفوا في اشتراط العلم : هل يجب أن يكون مجتهدا أو يجوز أن يكون مقلدا أو الواجب تولية الأمثل فالأمثل كيفما تيسر ؟ على ثلاثة أقوال . وبسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع . لم يوجد من يولى القضاء ; إلا عالم فاسق أو جاهل دين ; فأيهما يقدم
ومع أنه يجوز فيجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال حقا يكمل في الناس ما لا بد لهم منه من أمور الولايات والإمارات ونحوها ; كما يجب على المعسر السعي في وفاء دينه وإن كان في الحال لا يطلب منه إلا ما يقدر عليه وكما يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب بخلاف الاستطاعة في الحج ونحوها فإنه لا يجب تحصيلها لأن الوجوب هنا لا يتم إلا بها . تولية غير الأهل للضرورة إذا كان أصلح الموجود