ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما
* * *
تعرضت سورة النساء لأحكام الأسرة في أولها، وبينت أحكام المواريث، والعلاقات المحرمة للزواج، ثم أشار سبحانه إلى حق الرجل وحق المرأة في الأسرة، وتعرضت من بعد ذلك للعلاقات الاجتماعية بين الناس، وبينت أن أساسها إقامة العدالة، وتنفيذ أحكام الله تعالى ثم ذكرت أدواء الجماعات، وأساسها الاعتداء من الخارج بالحروب ومن الداخل بالنفاق، وما يتبعه من فساد خلقي، وانحلال نفسي، وتعرضت من بعد ذلك لسبب الاعتداء والشرك والنفاق وهو تحكم الشيطان في النفوس.
ومن بعد ذلك عاد إلى بيان العلاقة بين الزوجين وفقه علاجها، وعلاقة آحاد الأسرة، والطب لأدواء الضعف بينهم. وفي خلط أحكام الأسرة والعلاقات فيها، والعلاقات الاجتماعية والإنسانية العامة إشارة إلى قيام المجتمع على الأسرة وأن صلاحها صلاح له، وأنه من الأخلاق الاجتماعية الفاسدة تجيء آفات الأسرة، [ ص: 1877 ] ومن قوة العلاقات الأسرية تجيء قوة المجتمع المتماسكة، فرعاية ضعفاء الأسرة توجد قوة للأمة تشترك في حماية زمارها، ومن إهمالها تكون عناصر مقوضة لبنائها، والآيات التي نتكلم في معانيها مبينة علاج الضعفاء والعناية بهم، فقد قال تعالى:
ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء الاستفتاء معناه طلب الفتيا أو الفتوى، ومعنى الفتوى حل ما يشكل من الأمور، وإن العرب قد وقعوا في إشكال بالنسبة للمرأة، فقد كانوا في الجاهلية لا يفرضون لها حقوقا، لا تأخذ من ميراث، ولا يكون لها أي حق قبل زوجها، بل كان عليها تبعات، من غير أن تلاحظ من جانبها واجبات، فجاء الإسلام وأعطاها في مقابل واجباتها حقوقا، فقال تعالى: ولهن مثل الذي عليهن [البقرة].
فكانوا في كل تصرفهم بالنسبة للمرأة تعتريهم حيرة، أينفذون دينهم وحكمهم الجاهلي أم أن للإسلام في كل أمر من هذه الأمور حكما تجب رعايته ويجب اتباعه فكثرت الأسئلة، وتعددت موضوعاتها، فمنهم من يسأل عن الميراث، ومنهم من يسأل عن الصداق. ومنهم من يسأل عن المعاملة، وجاءت الروايات فرادى ببعض الأسئلة، وكلها ينتهي إلى مجموعها، وهو حيرتهم في أمر المرأة وقد أجاب سبحانه هذا الاستفتاء بقوله تعالى:
قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن أي يفتيكم الله تعالى مبينا أمرهن وما يجب لهن، وقوله تعالى: وما يتلى عليكم قال كثير من المفسرين إن "ما" هنا في موضع الرفع بالعطف على لفظ الجلالة، والمعنى يفتيكم الله ويعلمكم أحكام النساء وحقوقهن، كما يعلمكم ما يتلى عليكم في كتاب الله من أحكام اليتامى من النساء اللاتي كتب لهن في كتاب الله من ميراث وحقت رعايتهن والقسط معهن عند الزواج، وإلا فليتزوج من غيرهن. [ ص: 1878 ] وقد قرر سبحانه وتعالى هنا وجوب وصرح بما أشار إليه قوله: العدل مع اليتيمة عند الرغبة في الزواج، وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى على ما فهمه بعض المفسرين من أن المراد إن خفتم ألا تقسطوا في النساء اليتامى فتزوجوهن من غير أن تعطوهن حقهن من ميراث أو صداق، وقد قال سبحانه في ذلك: وترغبون أن تنكحوهن والمعنى لا تؤتونهن ما كتب الله لهن من حقوق، وترغبون أن تنكحوهن.
وهناك نجد قوله تعالى: أن تنكحوهن مصدرا قد دخل عليه حرف جر محذوف، وهو إما "في"، وإما "عن" وعلى أن المحذوف: لا تعطونهن ما كتب الله لهن من حقوق وترغبون في نكاحهن لأنفسكم، فلا تعطوهن ميراثا ولا صداقا، وعلى أن المحذوف "عن" يكون المعنى لا تعطونهن ميراثهم، وتمنعونهن من النكاح، وترغبون عنه لكي يبقى المال تحت أيديكم.
ويظهر أن الذين كانوا يقدمون على شأن يتامى النساء فريقان: فريق يأكل مالها ولا يعطيها صداقها، ويرغب في نكاحها لجمالها، وفريق يستبد بمالها، ويرغب عن زواجها من نفسه أو من غيره حرصا على مالها، والآية تشمل الفريقين وتندد بالطائفتين، ولقد روي أن كان إذا جاءه ولي اليتيمة، فإن كانت حسنة غنية قال عمر بن الخطاب : زوجها غيرك والتمس لها من هو خير منك، وإذا كانت بها دمامة، ولا مال لها، قال له: تزوجها، فأنت أحق بها، وقد قال عمر لولي يتيمة: تزوجها إن كنت خيرا لها، فإن كان غيرك خيرا لها فألحقها بالخير. علي بن أبي طالب
ولم تكن رعاية الله تعالى في أحكامه خاصة بيتامى النساء، بل إنها تعم المستضعفين وسائر اليتامى، ولذا قال سبحانه: والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وصيتان بنوع واحد من الضعفاء في الأسر وهم اليتامى، بيد أن إحداهما مؤداها إعطاؤهم حقهم من المال. والثانية القيام على رعايتهم، وحفظهم من الضياع، وواضح أن الثانية عامة تشمل اليتيم الذي ترك له أبوه مالا، أو نال مالا من أية ناحية من النواحي، والأولى تكون لذوي المال. [ ص: 1879 ] وبالنسبة لهذه الوصية القرآنية الإلهية نقول: إن العرب كان من عاداتهم ألا يرث إلا من يستطيع حمل السلاح ويغزو ويغنم ويستنصر به، ولذلك ما كانوا يورثون النساء، ولا الصغار الضعاف; لأنهم لا يقومون بذلك: والله سبحانه وتعالى وزع الميراث توزيعا عادلا لم يفرق بين قوي وضعيف بل كانت رعايته للضعيف أشد، ولذلك أعطى الذرية أكثر مما أعطى الأبوين; لأن الذرية الضعاف أحوج إلى المال، وهو لهم ألزم، ولذلك قال تعالى في وصيته: والمستضعفين من الولدان أي الذين هم في حال يستضعفهم غيرهم ولا يعطيهم حقوقهم، وهم ضعفاء في ذات أنفسهم، أي أنه لا بد أن يعطوا ميراثهم كاملا غير منقوص، وعبر عن هؤلاء بقوله سبحانه: من الولدان ولم يعبر عنهم بيتامى، مع أنهم يتامى، للإشارة إلى ما يربطهم بالمتوفى، وهو كونهم أولاده، وهذا قدر يشتركون فيه مع الكبار، فالسبب في الميراث هو الولاء، وهم جميعا يشتركون فيه، وإذا اشتركوا في السبب وجب أن يشتركوا في المسبب وهو الميراث، ولا فرق في ذلك بين كبير وصغير.
والوصية الأخرى، وهي القيام على شؤون اليتيم برعايته وكفالته، وإصلاح حاله، وتعهده بالعطف والمحبة والإكرام، وقد وتكرر في قول النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمر برعايته والتوصية به، ففي القرآن الكريم نجد كثيرا من ذلك مثل قوله تعالى: تكرر في القرآن الكريم الأمر برعاية اليتيم، فأما اليتيم فلا تقهر [الضحى].
وفي السنة مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ... وضم أصبعيه الكريمتين -عليه الصلاة والسلام-"، "خير بيت من بيوت المسلمين بيت يكرم فيه يتيم، وشر بيت من بيوت المسلمين بيت يقهر فيه يتيم". [ ص: 1880 ] ونجد النص الكريم يقول: وأن تقوموا لليتامى بالقسط
وهذا التعبير فيه ثلاث إشارات بيانية:
أولاهما: التعبير بالقيام، فإن مؤداه أن ينهض الولي على القاصر بعناية واهتمام لرعاية حاله، وكون الخطاب للجميع لا لخصوص الأوصياء يدل على الوجوب على الأمة بشأن يتاماها، أو رعايتهم فرض كفاية فهو على الأمة مجتمعة.
ثانيها: التعبير باللام في قوله تعالى: "لليتامى" أي أن يكون القيام والنهوض لمصلحة اليتامى الحقيقية، من حيث التربية والتهذيب، والمحبة من غير تدليل مضعف لقوة النفس والعزيمة والإرادة القوية.
ثالثها: أن يكون ملاحظا في ذلك القسط والعدل، بألا ينقص من ماله شيء ولا يترك هملا إذا لم يكن له مال، فإذا كانت العدالة المالية توجب ألا ينقص من ماله، فالعدالة الاجتماعية توجب أن تسد خلته وضعفه.
وكانت عناية الإسلام باليتامى; لأنهم قوة للأمة إن صلحوا، وقوة مدمرة في الأمة إن لم يصلحوا، إذ إنهم لو قهروا ينشأون وبينهم وبين الناس عداوات مستمرة، ونفور يدفعهم إلى أن يكونوا مدمرين في الجماعة وعنصر تخريب، فإن أكثر الخارجين على الجماعة تبتدئ عقدهم النفسية في طفولتهم بالجفوة معهم، وحرمانهم من المودة والرحمة. وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما
أي خير تفعلونه، ويكون نافعا لجماعتكم، مصلحا بينكم، فإن الله سبحانه وتعالى يكون عليما به علما دقيقا، لا تخفى عنه فيه خافية، وفي ذكر هذا النص الكريم بعد الوصايا السابقة إشارة إلى أن هذه الوصايا تنفيذها خير محض، ونفعها لا شك فيه ولا ريب، نفعه لمن يفعله لأن عاقبته حسنى له، وخير للجماعة لأنه يقدم للمجتمع عناصر قوية بانية، وخير للضعفاء في أنفسهم، وهو خير عند الله يحتسب به الجزاء الأوفى عنده. [ ص: 1881 ] وإن فعل الخير يعلمه من يستطيع الجزاء علما محيطا دقيقا، فإذا علمه جازى به خير الجزاء، وقد أكد سبحانه علمه الذي يرتب عليه خير الجزاء بثلاثة مؤكدات: أولها: التعبير بـ"إن"، وثانيها: نسبة العلم إلى الله جل جلاله، فهو علم يليق بذاته، وبقدرته وإرادته. وثالثها: صيغة المبالغة بوصفه بـ"عليم" ثم بلفظ الكينونة وهو كان، فإنه يقتضي استمرار العلم ودوامه، فعلى الذين يقومون على شؤون اليتامى أن يعلموا أنهم في رقابة مستمرة من الله تعالى ذي الجلال والإكرام ويعلمون أنه مجاز على مقدار ما يعلم.
* * *