[ ص: 2003 ] nindex.php?page=treesubj&link=32268 (سورة المائدة) تمهيد
هذه سورة المائدة جاءت بعد سورة النساء، وسميت سورة المائدة لأنها اشتملت في آخرها على طلب الحواريين من
عيسى ابن مريم -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم- أن ينزل عليهم ربهم مائدة من السماء، واستجاب
عيسى عليه السلام لما طلبوا فطلب من الله تعالى قائلا كما أخبر القرآن الكريم عنه:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114اللهم ربنا أنـزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين
وقد نزلت بعد فتح مكة، وهي سورة مدنية، وإن قال الأكثرون: إن آية:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا إنها نزلت والنبي -صلى الله عليه وسلم- واقف
بعرفات، في حجة الوداع; لأنها نزلت على أي حال بعد الهجرة.
وهي من آخر القرآن نزولا، وقد اشتملت على أحكام شرعية كثيرة، وابتداؤها يدل على ما فيها، فقد ابتدأت بوجوب الالتزام بالتكليفات التي كلف الله عبيده إياها، وما يعقده العبد مع الناس، ثم أردفت ذلك ببيان الحلال من الذبائح، والحرام منها، مع الإشارة إلى تحريم الصيد في الحرم من المحرمين، واحترام الشعائر في الحج.
ثم أشارت من بعد ذلك إلى تمام الشرع الإسلامي، وكماله، وتكلمت السورة الكريمة من بعد ذلك في العلاقات بين المسلمين وأهل الكتاب من الناحية الشخصية، وإباحة ذبائحهم، وحل نسائهم.
[ ص: 2004 ] وبعد أن بينت هذه المباحات من الطيبات، أخذت تتجه إلى غذاء الروح بعد غذاء الجسم، وهو الصلاة، وما يجب أن يتقدمها، وأن العبادات لا يريد الله تعالى منها بعباده الضيق والحرج، ولكن الطهارة النفسية.
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=6ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم
وإن الطهارة في الصلاة لها غاية اجتماعية عالية، وهي حسن التعامل، وإقامة العدالة، ولذلك أمر من بعد هذا بإقامة العدالة مع العدو، ومع الولي على سواء، ثم ذكر المؤمنين بأن العدالة هي التي تحمي المجتمعات، وأن الله تعالى حماهم عندما هم قوم أن يبسطوا أيديهم بإيذائهم، ثم ذكرهم ببني إسرائيل أنهم عندما نقضوا الميثاق الذي أخذه الله تعالى عليهم بإقامة العدل لعنهم الله تعالى، وجعل قلوبهم قاسية قد غلقت عن الحق، وأغلفت على تحكم الهوى، فأخذوا يحرفون الكتب ويحذفون منها ما لا تهوى الأنفس، وكذلك فعل النصارى حتى ادعوا الألوهية للمسيح
عيسى ابن مريم، فكفروا، واسترسلوا حتى ادعى اليهود والنصارى أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه، ثم وجه الله تعالى الخطاب من بعد للذين عاصروا النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعوهم إلى الحق، ويقيم الحجة عليهم بهذه الدعوة القائمة.
وإن الذل يفسد القلوب، ويذهب النخوة، وكذلك كان الأمر بالنسبة لليهود، فقد ذكرت السورة الكريمة أنهم بعد أن ضربت عليهم الذلة في
مصر أراد
موسى -عليه السلام- بأمر ربه أن يجعل منهم قوما ذوي بأس، فأراد أن يقودهم ليدخلوا الأرض المقدسة، ولكنهم آثروا الاستنامة، فأخذوا يتيهون في الأرض أربعين سنة.
وإن النفس البشرية إذا دخلها الحسد فسدت، وصارت العداوة بدل المودة في موضع كان يجب أن تسوده المحبة، وقد ذكر الله تعالى في هذه السورة خبر ابني آدم إذ قتل أحدهما الآخر; لأنه قبل قربانه، ولما أخذه الندم بعد فوات وقت العمل
[ ص: 2005 ] حار في مواراة جثة أخيه، حتى تعلمها من غراب أخذ يبحث في الأرض ليواري جثة غراب مثله.
وإذا كان الحسد حتى في العبادات يؤدي إلى القتل; فلذلك شرعت عقوبة القصاص، كما ذكر النص القرآني في هذه السورة الجامعة.
وإذا كان الحقد البشري في الجماعات هو الذي يؤدي إلى أشد الجرائم فتكا بها، فقد ذكر سبحانه عقوبات شديدة تناسب الجرائم العنيفة الشديدة، فذكر سبحانه عقوبة الذين يحاربون النظام، وينقضون على الشرع ويزعجون الآمنين، ويقطعون الطريق على السابلة، وقد ذكر سبحانه وتعالى -بعد ذكر عقوبة قطع الطريق المغلظة بطبيعتها- ذكر سبحانه أن طلب الحق والجهاد في سبيله، وتثبيت النظام الإسلامي ووضعه في نصابه، هو الوسيلة الكبرى للتقرب إلى الله تعالى.
وذكر من بعد عقوبة الذين يهددون الأمن بقوة قاهرة ظاهرة، وحكم الذين يهددون الأمن في خفية، ويزعجون الناس في مآمنهم، فذكر عقوبة السرقة، وهي قطع اليد.
وبعد بيان هذه العقوبات الزاجرة للجرائم المنبعثة، والتي يسوق إليها الحقد والحسد أخذ يبين سبحانه حال أهل الكتاب من اليهود، وما فسدت به قلوبهم من حقد أثر في قولهم واعتقادهم، وأوجد النفاق في قلوبهم، وجعل أعمالهم إثما مستمرا، وأنهم لم ينفذوا أحكام التوراة في جرائمهم، وأرادوا أن يفروا منها إلى أحكام الإسلام زاعمين أنها تخفف عنهم، وقد بين سبحانه أحكام التوراة. التي نزلت على
موسى، ووجوب أن يخضعوا لها، كما يجب أن يخضع أهل الإنجيل لما جاء في الإنجيل، ومنها التبشير
بمحمد -صلى الله عليه وسلم، وأشار سبحانه وتعالى إلى أن لكل أمة جعل -سبحانه- شرعة ومنهاجا مؤقتا، حتى جاءت شريعة
محمد -صلى الله عليه وسلم- وإنه بعد نزول القرآن لا حكم إلا له; ولذا قال سبحانه:
[ ص: 2006 ] nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=49وأن احكم بينهم بما أنـزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنـزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=50أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون
وإن الحقد الذي سكن قلوب الذين يخالفونكم من أهل الكتاب لا يسوغ لكم أن تتخذوا منهم نصراء، فإن بعضهم نصراء لبعضهم، وإن الذي يرضى أن يكونوا أولياء عليه يكون منهم، وإن من يفعل ذلك يكون مرتدا عن دينه خاذلا له، ومن يرتد عن دينه لا يخسر الله تعالى به شيئا، بل سيخلفه في الإسلام قوم يحبهم الله ويحبونه، بعد أن زال فساد المنافقين المرتدين.
وبين سبحانه وتعالى أن الولاية لله وحده وأن اليهود يتخذون الإسلام هزوا ولعبا، وأنهم يسارعون في الإثم والعدوان متنقلين في دركاتهما، وأن الذي أفسدهم أنهم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، وأنهم لم يقيموا التوراة والإنجيل، وقد أمر الله نبيه في وسط ذلك الغبار الذي يثيرونه أن يبلغ ما أنزل إليه، وقد بين سبحانه بعد ذلك أنه من يخلص لله يدخل الجنة; لأنه لا محالة سيدرك ما جاء به محمد ويؤمن به، ولقد بين سبحانه كفر الذين ألهوا المسيح، وقالوا: إن الله -تعالى- ثالث ثلاثة، وبين أنه يجب أن يرجعوا إلى الله تعالى، ولكنهم غلوا في دينهم، فغلا النصارى في شأن المسيح فقدسوه وألهوه، وغلا اليهود في الطعن فيه، وهموا بقتله، وادعوا أنهم قتلوه.
وقد بين سبحانه وتعالى بعد ذلك مراتب أعداء المؤمنين، فذكر أنه في المرتبة الأولى في العداوة اليهود والمشركون، والنصارى أقرب مودة من غيرهم، وذكر سبحانه حال النصارى في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد كانوا يسارعون إلى الإيمان إذا سمعوا الحق كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=83وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين
بعد هذا البيان المعجز، الذي ابتدأ بذكر آثار الحسد والحقد في ابني آدم إذ قربا قربانا، ثم ما أدى إليه الحقد من كفر وطغيان، وطمس للحقائق، ومعاندة
[ ص: 2007 ] لأوامر الله تعالى، وفساد للنفوس، بعد هذا أخذ يبين سبحانه إباحة الطيبات، وأنه لا يصح تحريمها على النفس، وأن من يحرمها على نفسه بيمين فليحنث وليكفر، وتكفير اليمين عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فمن لم يجد شيئا من هذا فليصم ثلاثة أيام.
وإذا كان الله تعالى أباح الطيبات، فقد حرم الخبائث، وأول الخبائث الخمر والميسر، وإن الخمر أم الخبائث، وأم الجرائم، وإنه ليس على المؤمنين إثم فيما يتناولون من طيبات إنما الإثم فيما يتناولون من خبائث.
وقد بين سبحانه أن من الطيبات ما يحرم في بعض الأوقات، لا لذاته، بل للمكان الذي يكون فيه، والحال التي يكون فيها، فحرم الصيد في البيت الحرام للمحرمين، وأن المنع مقصور على صيد البر، ولا يشمل صيد البحر; وإن ذلك لمكانة البيت، ولمكانة الإحرام، وقد ذكر سبحانه وتعالى مقام البيت ومكانته.
وأن الخبيث من الأشياء ومن الأشخاص لا يستوي مع الطيب، وندد سبحانه بالذين يحرمون بعض الطيبات على أنفسهم لأوهام توهموها، وأفكار جاهلية اعتنقوها.
وأن الذي يقوم بالواجب ويبين الخير ويدعو إليه لا يكون مسؤولا عمن يضل من بعد.
وفي وسط أحكام الحلال والحرام أخذت السورة تبين سببا من أسباب الملكية، وهو الوصية في السفر، وطريق إثباتها.
بعد ذلك أخذ يبين الضلال الذي وقع فيه الذين ادعوا المسيحية وهو ألوهية
المسيح، مع ذكر معجزاته عليه السلام، ومنها أنه يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وأنه أخرج الموتى بإذن الله تعالى، وأنه نزلت عليه المائدة من السماء.
ومع هذه المعجزات الباهرة كفر به من كفر، وشهد الحواريون بأنه رسول من عند الله، وغالى غيرهم فزعموا أنه وأمه إلهان، ومنهم من زاد غيرهما.
[ ص: 2008 ] وقد ذكر سبحانه وتعالى أنه سيخاطب
عيسى يوم القيامة عن هذا الذي افتروه على
المسيح، ونذكر هذه المجاوبة بالنص.
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=116وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=117ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=118إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=119قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=120لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير
* * *
هذه نظرات كليلة في سورة المائدة، ولننظر في ذكر معانيها.
* * *
[ ص: 2003 ] nindex.php?page=treesubj&link=32268 (سُورَةُ الْمَائِدَةِ) تَمْهِيدٌ
هَذِهِ سُورَةُ الْمَائِدَةِ جَاءَتْ بَعْدَ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَسُمِّيَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ لِأَنَّهَا اشْتَمَلَتْ فِي آخِرِهَا عَلَى طَلَبِ الْحَوَارِيِّينَ مِنْ
عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ -عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةُ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ- أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ، وَاسْتَجَابَ
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَا طَلَبُوا فَطَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَائِلًا كَمَا أَخْبَرَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَنْهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْـزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
وَقَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَهِيَ سُورَةٌ مَدَنِيَّةٌ، وَإِنْ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّ آيَةَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا إِنَّهَا نَزَلَتْ وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاقِفٌ
بِعَرَفَاتِ، فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ; لِأَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى أَيِّ حَالٍ بَعْدَ الْهِجْرَةِ.
وَهِيَ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا، وَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ كَثِيرَةٍ، وَابْتِدَاؤُهَا يَدُلُّ عَلَى مَا فِيهَا، فَقَدِ ابْتَدَأَتْ بِوُجُوبِ الِالْتِزَامِ بِالتَّكْلِيفَاتِ الَّتِي كَلَّفَ اللَّهُ عَبِيدَهُ إِيَّاهَا، وَمَا يَعْقِدُهُ الْعَبْدُ مَعَ النَّاسِ، ثُمَّ أَرْدَفَتْ ذَلِكَ بِبَيَانِ الْحَلَالِ مِنَ الذَّبَائِحِ، وَالْحَرَامِ مِنْهَا، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى تَحْرِيمِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ مِنَ الْمُحْرِمِينَ، وَاحْتِرَامِ الشَّعَائِرِ فِي الْحَجِّ.
ثُمَّ أَشَارَتْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ إِلَى تَمَامِ الشَّرْعِ الْإِسْلَامِيِّ، وَكَمَالِهِ، وَتَكَلَّمَتِ السُّورَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فِي الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ النَّاحِيَةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَإِبَاحَةِ ذَبَائِحِهِمْ، وَحِلِّ نِسَائِهِمْ.
[ ص: 2004 ] وَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَتْ هَذِهِ الْمُبَاحَاتِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، أَخَذَتْ تَتَّجِهُ إِلَى غِذَاءِ الرُّوحِ بَعْدَ غِذَاءِ الْجِسْمِ، وَهُوَ الصَّلَاةُ، وَمَا يَجِبُ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا، وَأَنَّ الْعِبَادَاتِ لَا يُرِيدُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا بِعِبَادِهِ الضِّيقَ وَالْحَرَجَ، وَلَكِنِ الطَّهَارَةَ النَّفْسِيَّةَ.
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=6مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ
وَإِنَّ الطَّهَارَةَ فِي الصَّلَاةِ لَهَا غَايَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ عَالِيَةٌ، وَهِيَ حُسْنُ التَّعَامُلِ، وَإِقَامَةُ الْعَدَالَةِ، وَلِذَلِكَ أَمَرَ مِنْ بَعْدِ هَذَا بِإِقَامَةِ الْعَدَالَةِ مَعَ الْعَدُوِّ، وَمَعَ الْوَلِيِّ عَلَى سَوَاءٍ، ثُمَّ ذَكَّرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ الْعَدَالَةَ هِيَ الَّتِي تَحْمِي الْمُجْتَمَعَاتِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَمَاهُمْ عِنْدَمَا هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا أَيْدِيَهُمْ بِإِيذَائِهِمْ، ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ عِنْدَمَا نَقَضُوا الْمِيثَاقَ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَجَعَلَ قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً قَدْ غُلِّقَتْ عَنِ الْحَقِّ، وَأُغْلِفَتْ عَلَى تَحَكُّمِ الْهَوَى، فَأَخَذُوا يُحَرِّفُونَ الْكُتُبَ وَيَحْذِفُونَ مِنْهَا مَا لَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ النَّصَارَى حَتَّى ادَّعَوُا الْأُلُوهِيَّةَ لِلْمَسِيحِ
عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَكَفَرُوا، وَاسْتَرْسَلُوا حَتَّى ادَّعَى الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحِبَّاؤُهُ، ثُمَّ وَجَّهَ اللَّهُ تَعَالَى الْخِطَابَ مِنْ بَعْدُ لِلَّذِينِ عَاصَرُوا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْعُوهُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَيُقِيمُ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ الْقَائِمَةِ.
وَإِنَّ الذُّلَّ يُفْسِدُ الْقُلُوبَ، وَيُذْهِبُ النَّخْوَةَ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلْيَهُودِ، فَقَدْ ذَكَرَتِ السُّورَةُ الْكَرِيمَةُ أَنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ فِي
مِصْرَ أَرَادَ
مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَمْرِ رَبِّهِ أَنْ يَجْعَلَ مِنْهُمْ قَوْمًا ذَوِي بَأْسٍ، فَأَرَادَ أَنْ يَقُودَهُمْ لِيَدْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، وَلَكِنَّهُمْ آثَرُوا الِاسْتِنَامَةَ، فَأَخَذُوا يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
وَإِنَّ النَّفْسَ الْبَشَرِيَّةَ إِذَا دَخَلَهَا الْحَسَدُ فَسَدَتْ، وَصَارَتِ الْعَدَاوَةُ بَدَلَ الْمَوَدَّةِ فِي مَوْضِعٍ كَانَ يَجِبُ أَنْ تَسُودَهُ الْمَحَبَّةُ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ خَبَرَ ابْنَيْ آدَمَ إِذْ قَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ; لِأَنَّهُ قُبِلَ قُرْبَانُهُ، وَلَمَّا أَخَذَهُ النَّدَمُ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِ الْعَمَلِ
[ ص: 2005 ] حَارَ فِي مُوَارَاةِ جُثَّةِ أَخِيهِ، حَتَّى تَعَلَّمَهَا مِنْ غُرَابٍ أَخَذَ يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُوَارِيَ جُثَّةَ غُرَابٍ مِثْلِهِ.
وَإِذَا كَانَ الْحَسَدُ حَتَّى فِي الْعِبَادَاتِ يُؤَدِّي إِلَى الْقَتْلِ; فَلِذَلِكَ شُرِعَتْ عُقُوبَةُ الْقِصَاصِ، كَمَا ذَكَرَ النَّصُّ الْقُرْآنِيُّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْجَامِعَةِ.
وَإِذَا كَانَ الْحِقْدُ الْبَشَرِيُّ فِي الْجَمَاعَاتِ هُوَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى أَشَدِّ الْجَرَائِمِ فَتْكًا بِهَا، فَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ عُقُوبَاتٍ شَدِيدَةً تُنَاسِبُ الْجَرَائِمَ الْعَنِيفَةَ الشَّدِيدَةَ، فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ عُقُوبَةَ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ النِّظَامَ، وَيَنْقَضُونَ عَلَى الشَّرْعِ وَيُزْعِجُونَ الْآمِنِينَ، وَيَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى السَّابِلَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -بَعْدَ ذِكْرِ عُقُوبَةِ قَطْعِ الطَّرِيقِ الْمُغَلَّظَةِ بِطَبِيعَتِهَا- ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ طَلَبَ الْحَقِّ وَالْجِهَادَ فِي سَبِيلِهِ، وَتَثْبِيتَ النِّظَامِ الْإِسْلَامِيِّ وَوَضْعَهُ فِي نِصَابِهِ، هُوَ الْوَسِيلَةُ الْكُبْرَى لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَذَكَرَ مِنْ بَعْدِ عُقُوبَةِ الَّذِينَ يُهَدِّدُونَ الْأَمْنَ بِقُوَّةٍ قَاهِرَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَحُكْمِ الَّذِينَ يُهَدِّدُونَ الْأَمْنَ فِي خُفْيَةٍ، وَيُزْعِجُونَ النَّاسَ فِي مَآمِنِهِمْ، فَذَكَرَ عُقُوبَةَ السَّرِقَةِ، وَهِيَ قَطْعُ الْيَدِ.
وَبَعْدَ بَيَانِ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ الزَّاجِرَةِ لِلْجَرَائِمِ الْمُنْبَعِثَةِ، وَالَّتِي يَسُوقُ إِلَيْهَا الْحِقْدُ وَالْحَسَدُ أَخَذَ يُبَيِّنُ سُبْحَانَهُ حَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ، وَمَا فَسَدَتْ بِهِ قُلُوبُهُمْ مِنْ حِقْدٍ أَثَّرَ فِي قَوْلِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ، وَأَوْجَدَ النِّفَاقَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَجَعَلَ أَعْمَالَهُمْ إِثْمًا مُسْتَمِرًّا، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُنَفِّذُوا أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ فِي جَرَائِمِهِمْ، وَأَرَادُوا أَنْ يَفِرُّوا مِنْهَا إِلَى أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ زَاعِمِينَ أَنَّهَا تُخَفِّفُ عَنْهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ. الَّتِي نَزَلَتْ عَلَى
مُوسَى، وَوُجُوبِ أَنْ يَخْضَعُوا لَهَا، كَمَا يَجِبُ أَنْ يَخْضَعَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ لِمَا جَاءَ فِي الْإِنْجِيلِ، وَمِنْهَا التَّبْشِيرُ
بِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَشَارَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى أَنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلَ -سُبْحَانَهُ- شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا مُؤَقَّتًا، حَتَّى جَاءَتْ شَرِيعَةُ
مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِنَّهُ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ لَا حُكْمَ إِلَّا لَهُ; وَلِذَا قَالَ سُبْحَانَهُ:
[ ص: 2006 ] nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=49وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=50أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
وَإِنَّ الْحِقْدَ الَّذِي سَكَنَ قُلُوبَ الَّذِينَ يُخَالِفُونَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَسُوغُ لَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ نُصَرَاءَ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ نُصَرَاءُ لِبَعْضِهِمْ، وَإِنَّ الَّذِي يَرْضَى أَنْ يَكُونُوا أَوْلِيَاءَ عَلَيْهِ يَكُونُ مِنْهُمْ، وَإِنَّ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ يَكُونُ مُرْتَدًّا عَنْ دِينِهِ خَاذِلًا لَهُ، وَمَنْ يَرْتَدُّ عَنْ دِينِهِ لَا يَخْسَرُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ شَيْئًا، بَلْ سَيَخْلُفُهُ فِي الْإِسْلَامِ قَوْمٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ وَيُحِبُّونَهُ، بَعْدَ أَنْ زَالَ فَسَادُ الْمُنَافِقِينَ الْمُرْتَدِّينَ.
وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْوِلَايَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَأَنَّ الْيَهُودَ يَتَّخِذُونَ الْإِسْلَامَ هُزُوًا وَلَعِبًا، وَأَنَّهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ مُتَنَقِّلِينَ فِي دَرَكَاتِهِمَا، وَأَنَّ الَّذِي أَفْسَدَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ فِي وَسَطِ ذَلِكَ الْغُبَارِ الَّذِي يُثِيرُونَهُ أَنْ يُبَلِّغَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ مَنْ يُخْلِصْ لِلَّهِ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ; لِأَنَّهُ لَا مَحَالَةَ سَيُدْرِكُ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ وَيُؤْمِنُ بِهِ، وَلَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ كُفْرَ الَّذِينَ أَلَّهُوا الْمَسِيحَ، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُمْ غَلَوْا فِي دِينِهِمْ، فَغَلَا النَّصَارَى فِي شَأْنِ الْمَسِيحِ فَقَدَّسُوهُ وَأَلَّهُوهُ، وَغَلَا الْيَهُودُ فِي الطَّعْنِ فِيهِ، وَهَمُّوا بِقَتْلِهِ، وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ.
وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ مَرَاتِبَ أَعْدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، فَذَكَرَ أَنَّهُ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى فِي الْعَدَاوَةِ الْيَهُودُ وَالْمُشْرِكُونَ، وَالنَّصَارَى أَقْرَبُ مَوَدَّةً مِنْ غَيْرِهِمْ، وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَ النَّصَارَى فِي عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَدْ كَانُوا يُسَارِعُونَ إِلَى الْإِيمَانِ إِذَا سَمِعُوا الْحَقَّ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=83وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْـزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ
بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ الْمُعْجِزِ، الَّذِي ابْتَدَأَ بِذِكْرِ آثَارِ الْحَسَدِ وَالْحِقْدِ فِي ابْنَيْ آدَمَ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا، ثُمَّ مَا أَدَّى إِلَيْهِ الْحِقْدُ مِنْ كُفْرٍ وَطُغْيَانٍ، وَطَمْسٍ لِلْحَقَائِقِ، وَمُعَانِدَةٍ
[ ص: 2007 ] لِأَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفَسَادٍ لِلنُّفُوسِ، بَعْدَ هَذَا أَخَذَ يُبَيِّنُ سُبْحَانَهُ إِبَاحَةَ الطَّيِّبَاتِ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَحْرِيمُهَا عَلَى النَّفْسِ، وَأَنَّ مَنْ يُحَرِّمُهَا عَلَى نَفْسِهِ بِيَمِينٍ فَلْيَحْنَثْ وَلْيُكَفِّرْ، وَتَكْفِيرُ الْيَمِينِ عِتْقُ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كُسْوَتُهُمْ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا مِنْ هَذَا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ الطَّيِّبَاتِ، فَقَدْ حَرَّمَ الْخَبَائِثَ، وَأَوَّلُ الْخَبَائِثِ الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ، وَإِنَّ الْخَمْرَ أُمُّ الْخَبَائِثِ، وَأُمُّ الْجَرَائِمِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِثْمٌ فِيمَا يَتَنَاوَلُونَ مِنْ طَيِّبَاتٍ إِنَّمَا الْإِثْمُ فِيمَا يَتَنَاوَلُونَ مِنْ خَبَائِثَ.
وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مِنَ الطَّيِّبَاتِ مَا يَحْرُمُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، لَا لِذَاتِهِ، بَلْ لِلْمَكَانِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ، وَالْحَالِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا، فَحَرَّمَ الصَّيْدَ فِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ لِلْمُحْرِمِينَ، وَأَنَّ الْمَنْعَ مَقْصُورٌ عَلَى صَيْدِ الْبَرِّ، وَلَا يَشْمَلُ صَيْدَ الْبَحْرِ; وَإِنَّ ذَلِكَ لِمَكَانَةِ الْبَيْتِ، وَلِمَكَانَةِ الْإِحْرَامِ، وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَقَامَ الْبَيْتِ وَمَكَانَتَهُ.
وَأَنَّ الْخَبِيثَ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَمِنَ الْأَشْخَاصِ لَا يَسْتَوِي مَعَ الطِّيبِ، وَنَدَّدَ سُبْحَانَهُ بِالَّذِينِ يُحَرِّمُونَ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِأَوْهَامٍ تَوَهَّمُوهَا، وَأَفْكَارٍ جَاهِلِيَّةٍ اعْتَنَقُوهَا.
وَأَنَّ الَّذِي يَقُومُ بِالْوَاجِبِ وَيُبَيِّنُ الْخَيْرَ وَيَدْعُو إِلَيْهِ لَا يَكُونُ مَسْؤُولًا عَمَّنْ يَضِلُّ مِنْ بَعْدُ.
وَفِي وَسَطِ أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ أَخَذَتِ السُّورَةُ تُبَيِّنُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِيَّةِ، وَهُوَ الْوَصِيَّةُ فِي السَّفَرِ، وَطَرِيقَ إِثْبَاتِهَا.
بَعْدَ ذَلِكَ أَخَذَ يُبَيِّنُ الضَّلَالَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الَّذِينَ ادَّعَوُا الْمَسِيحِيَّةَ وَهُوَ أُلُوهِيَّةُ
الْمَسِيحِ، مَعَ ذِكْرِ مُعْجِزَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، فَيَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ أَخْرَجَ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْمَائِدَةُ مِنَ السَّمَاءِ.
وَمَعَ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ كَفَرَ بِهِ مَنْ كَفَرَ، وَشَهِدَ الْحَوَارِيُّونَ بِأَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَغَالَى غَيْرُهُمْ فَزَعَمُوا أَنَّهُ وَأَمَّهُ إِلَهَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ غَيْرَهُمَا.
[ ص: 2008 ] وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ سَيُخَاطِبُ
عِيسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ هَذَا الَّذِي افْتَرَوْهُ عَلَى
الْمَسِيحِ، وَنَذْكُرُ هَذِهِ الْمُجَاوَبَةَ بِالنَّصِّ.
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=116وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=117مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=118إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=119قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=120لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
* * *
هَذِهِ نَظَرَاتٌ كَلَيْلَةٌ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَلْنَنْظُرْ فِي ذِكْرِ مَعَانِيهَا.
* * *