ولماذا كان اليهود وبعض النصارى على هذه الشاكلة يتصرفون تصرف من لا عقل عنده؛ إذ يطمسون الحقائق، ويسخرون مما لا سخرية فيه؟ الجواب عن ذلك أنه قد طمس على قلوبهم، والحقد قد ران على مداركهم، فأصبحوا لا يدركون ما يوجبه العقل السليم، والفكر المستقيم، ولا شيء يذهب بلب اللبيب وإدراك العقل السليم أكثر من الحقد، ذلك بأن تمني الشر، وحسد غيره على ما في يده من نعمة، وما آتاه الله تعالى من خير يلقي حجابا على عقله فلا يدرك، وعلى قلبه فلا يؤمن؛ ولذا قال سبحانه من بعده:
قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله
نقم منه معناه عاب عليه أمرا، وأنكره، ومنه الانتقام بمعنى العقاب، وذلك لأن العقاب لا يقع إلا من أمر ينكره المعاقب ويعيبه، فيتبعه العقاب، فهو نتيجة الاستنكار لمن يقدر على العقاب، ويرى فيه حكمة توجبه.
والاستفهام هنا استفهام إنكاري لنفي الواقع، فهو توبيخ مؤكد بالاستفهام، والمعنى أن الله تعالى يأمر نبيه الأمين أن يسألهم موبخا منكرا عليهم أنهم لا [ ص: 2263 ] يعيبون عليه إلا أنه والمؤمنين معه آمنوا بالله ورسوله حق الإيمان، وأن أكثرهم فاسقون، وهنا بعض مباحث لفظية نذكرها لتقريب معنى النص السامي الكريم.
المبحث الأول: كيف يعيبون الإيمان مع أنهم كافرون، وإنما يحسد على الإيمان من يدركه، ويعرف مزاياه ويحقد على المؤمن; لأنه حرم منه، والجواب عن ذلك أن أهل الكتاب يعرفون الرسالة والرسل، ومنهم موحدون يدركون معاني التوحيد، وهم يحسدون المؤمنين على ذلك، وخصوصا اليهود والمنافقين، وقد قال تعالى فيهم: ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء وقال تعالى: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير
فهؤلاء الكافرون من أهل الكتاب يستنكرون على المؤمنين إيمانهم، والباعث على ذلك أمران: أحدهما: حسد مستكن في قلوبهم، وهم يرون أن النبوة نعمة كانوا يرجونها فيهم، فكانت في غيرهم، وأن الإيمان نعمة وخير، وهم يحسدون الناس دائما على ما آتاهم من فضله، وقد قتلهم الحسد، وأفسد مداركهم.
الأمر الثاني الذي بعثهم على النقمة على أهل الإيمان أنهم يرونهم في قوة نامية، وهم في خسة هاوية، وهم كفار منزعجون، وأولئك مؤمنون مطمئنون.
المبحث الثاني: إن في النص الكريم حصرا لسبب النقمة على المسلمين، ولذلك كان الاستثناء في قوله تعالت كلماته: هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنـزل إلينا وما أنـزل من قبل
المبحث الثالث: أن إيمان المؤمنين شامل للرسالات الإلهية كلها، فهم يؤمنون بما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- وما أنزل من قبله، واليهود كانوا يأخذون على المؤمنين أنهم يؤمنون بكل الأنبياء، ومنهم من قتلوهم، ومنهم من حاولوا قتله، ولم يستطيعوا أن ينالوا منه، وقد روي عن -رضي الله عنهما- ابن عباس أن [ ص: 2264 ] بعض زعماء اليهود ذهبوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألونه عما يؤمن به فقال -عليه الصلاة والسلام- أومن بالله وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" فلما ذكر عيسى -عليه السلام- جحدوا نبوته، وقالوا: لا نؤمن بمن آمن به".
المبحث الرابع: أن الله تعالى قال: وأن أكثركم فاسقون ولم يقل سبحانه وأنتم فاسقون، إنصافا للذين يقتصدون منهم، وقد قال تعالى:
منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون وقال تعالى:
ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين