فصل .
[ منع أن بيع المعدوم لا يجوز من وجهين ] :
وأما المقدمة الثانية - وهي أن لا يجوز - فالكلام عليها . بيع المعدوم
أحدهما : منع صحة هذه المقدمة ; إذ ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كلام أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز ، لا بلفظ عام ولا بمعنى عام ، وإنما في السنة النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة كما فيها النهي عن بيع بعض الأشياء الموجودة ; فليست العلة في المنع لا العدم ولا الوجود ، بل الذي وردت به السنة النهي عن ، وهو ما لا يقدر على تسليمه ، سواء كان موجودا أو معدوما كبيع العبد الآبق والبعير الشارد إن كان موجودا ; إذ موجب البيع تسليم المبيع ، فإذا كان البائع عاجزا عن تسلميه فهو غرر ومخاطرة وقمار فإنه لا يباع إلا بوكس ، فإن أمكن المشتري تسلمه كان قد قمر البائع ، وإن لم يمكنه ذلك قمره البائع ، وهكذا المعدوم الذي هو غرر نهي عنه للغرر لا للعدم ، كما إذا باعه ما تحمل هذه الأمة أو هذه الشجرة ; فالبيع لا يعرف وجوده ولا قدره ولا صفته ; وهذا من الميسر الذي حرمه الله ورسوله ، ونظير هذا في الإجارة أن يكريه دابة لا [ ص: 8 ] يقدر على تسليمها ، سواء كانت موجودة أو معدومة ، وكذلك في النكاح إذا زوجه أمة لا يملكها أو ابنة لم تولد له ، وكذلك سائر عقود المعاوضات ، بخلاف الوصية فإنها تبرع محض فلا غرر في تعلقها بالموجود والمعدوم وما يقدر على تسليمه إليه وما لا يقدر ، وطرده الهبة ; إذ لا محذور في ذلك فيها ; وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم هبة المشاع المجهول في قوله لصاحب كبة الشعر حين أخذها من المغنم وسأله أن يهبها له فقال : { بيع الغرر ولبني عبد المطلب فهو لك } . أما ما كان لي
الوجه الثاني : أن نقول : بل الشرع صحح بيع المعدوم في بعض المواضع ; فإنه أجاز ، ومعلوم أن العقد إنما ورد على الموجود والمعدوم الذي لم يخلق بعد ، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعه قبل بدو صلاحه ، وأباحه بعد بدو الصلاح ، ومعلوم أنه إذا اشتراه قبل الصلاح بشرط القطع كالحصرم جاز ، فإنما نهى عن بيعه إذا كان قصده التبقية إلى الصلاح ، ومن جوز بيعه قبل الصلاح وبعده بشرط القطع أو مطلقا وجعل موجب العقد القطع ، وحرم بيعه بشرط التبقية أو مطلقا ; لم يكن عنده لظهور الصلاح فائدة ، ولم يكن فرق بين ما نهى عنه من ذلك وما أذن فيه ; فإنه يقول : موجب العقد التسليم في الحال ، فلا يجوز شرط تأخيره سواء بدا صلاحه أو لم يبد ، والصواب قول الجمهور الذي دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقياس الصحيح ، وقوله : " إن موجب العقد التسليم في الحال " جوابه أن موجب العقد إما أن يكون ما أوجبه الشارع بالعقد أو ما أوجبه المتعاقدان مما يسوغ لهما أن يوجباه ، وكلاهما منتف في هذه الدعوى ; فلا الشارع أوجب أن يكون كل مبيع مستحق التسليم عقيب العقد ، ولا العاقدان التزما ذلك ، بل تارة يعقدان العقد على هذا الوجه ، وتارة يشترطان التأخير إما في الثمن وإما في المثمن ، وقد يكون للبائع غرض صحيح ومصلحة في تأخير التسليم للمبيع ، كما كان بيع الثمر بعد بدو صلاحه والحب بعد اشتداده رضي الله عنه غرض صحيح في تأخير تسليم بعيره إلى لجابر المدينة ، فكيف يمنعه الشارع ما فيه مصلحة له ولا ضرر على الآخرة فيها ؟ إذ قد رضي بها كما { رضي النبي صلى الله عليه وسلم على بتأخير تسليم البعير جابر } ، ولو لم ترد السنة بهذا لكان محض القياس يقتضي جوازه ، ويجوز لكل بائع أن يستثني من منفعة المبيع ماله في غرض صحيح ، كما إذا باع عقارا واستثنى سكناه مدة أو دابة واستثنى ظهرها ، ولا يختص ذلك بالبيع ، بل لو وهبه واستثنى نفعه مدة ، أو ، أو أعتق عبده واستثنى خدمته مدة ، أو وقف عينا واستثنى غلتها لنفسه مدة حياته ، ونحوه ، وهذا كله منصوص كاتب أمة واستثنى وطئها مدة الكتابة ، وبعض أصحابه يقول : إذا استثنى منفعة المبيع فلا بد أن يسلم العين إلى المشتري ثم يأخذها ليستوفي المنفعة ، بناء على هذا [ ص: 9 ] الأصل الذي قد تبين فساده ، وهو أنه لا بد من استحقاق القبض عقيب العقد ، وعن هذا الأصل قالوا : لا تصح الإجارة إلا على مدة تلي العقد ، وعلى هذا بنوا ما إذا باع العين المؤجرة ; فمنهم من أبطل البيع لكون المنفعة لا تدخل في البيع فلا يحصل التسليم ، ومنهم من قال : هذا مستثنى بالشرع ، بخلاف المستثنى بالشرط ، وقد اتفق الأئمة على صحة أحمد وإن كانت منفعة البضع للزوج ولم تدخل في البيع ، واتفقوا على جواز تأخير التسليم إذا كان العرف يقتضيه كما بيع الأمة المزوجة فلا يجب عليه جمع دواب البلد ونقله في ساعة واحدة ، بل قالوا : هذا مستثنى بالعرف ، فيقال : وهذا من أقوى الحجج عليكم ، فإن المستثنى بالشرط أقوى من المستثنى بالعرف ، كما أنه أوسع من المستثنى بالشرع ; فإنه يثبت بالشرط ما لا يثبت بالشرع ، كما أن الواجب بالنذر أوسع من الواجب بالشرع . إذا باع مخزنا له فيه متاع كثير لا ينقل في يوم ولا أيام