الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ المراد من إيجاب الله قبول إنذار من نفر للتفقه في الدين ]

الوجه السابع والخمسون : قولكم : " وقد قال تعالى : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم } فأوجب قبول نذارتهم ، وذلك تقليد لهم " جوابه من وجوه : أحدها : أن الله سبحانه إنما أوجب عليهم قبول ما أنذروهم به من الوحي الذي ينزل في غيبتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد ، فأين في هذا حجة لفرقة التقليد على تقديم آراء الرجال على الوحي ؟ الثاني : أن الآية حجة عليهم ظاهرة ; فإنه سبحانه نوع عبوديتهم وقيامهم بأمره إلى نوعين : أحدهما : نفير الجهاد ، والثاني : التفقه في الدين ، وجعل قيام الدين بهذين الفريقين ، وهم الأمراء والعلماء أهل الجهاد وأهل العلم ; فالنافرون يجاهدون عن القاعدين ، والقاعدون يحفظون العلم للنافرين ، فإذا رجعوا من نفيرهم استدركوا ما فاتهم من العلم بإخبار من سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهنا للناس في الآية قولان ; أحدهما : أن المعنى " فهلا نفر من كل فرقة طائفة تتفقه وتنذر القاعدة " فيكون المعنى في طلب العلم ، وهذا قول الشافعي وجماعة من المفسرين ، واحتجوا به على قول خبر الواحد ; لأن الطائفة لا يجب أن تكون عدد التواتر .

والثاني أن المعنى " فلولا نفر من كل فرقة طائفة تجاهد لتتفقه القاعدة وتنذر النافرة للجهاد إذا رجعوا إليهم ويخبرونهم بما نزل بعدهم من الوحي " وهذا قول الأكثرين ، وهو الصحيح ; [ ص: 179 ] لأن النفير إنما هو الخروج للجهاد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : { وإذا استنفرتم فانفروا } وأيضا فإن المؤمنين عام في المقيمين مع النبي صلى الله عليه وسلم والغائبين عنه ، والمقيمون مرادون ولا بد فإنهم سادات المؤمنين ، فكيف لا يتناولهم اللفظ ؟ وعلى قول أولئك يكون المؤمنون خاصا بالغائبين عنه فقط ، والمعنى " وما كان المؤمنون لينفروا إليه كلهم ، فلولا نفر إليه من كل فرقة منهم طائفة " وهذا خلاف ظاهر لفظ المؤمنين ، وإخراج للفظ النفير عن مفهومه في القرآن والسنة ، وعلى كلا القولين فليس في الآية ما يقتضي صحة القول بالتقليد المذموم ، بل هي حجة على فساده وبطلانه ; فإن الإنذار إنما يقوم بالحجة ، فمن لم تقم عليه الحجة لم يكن قد أنذر ، كما أن النذير من أقام الحجة ، فمن لم يأت بحجة فليس بنذير ، فإن سميتم ذلك تقليدا فليس الشأن في الأسماء ، ونحن لا ننكر التقليد بهذا المعنى ، فسموه ما شئتم ، وإنما ننكر نصب رجل معين يجعل قوله عيارا على القرآن والسنن ; فما وافق قوله منها قبل وما خالفه لم يقبل ، ويقبل قوله بغير حجة ، ويرد قول نظيره أو أعلم منه والحجة معه ، فهذا الذي أنكرناه ، وكل عالم على وجه الأرض يعلن إنكاره وذمه وذم أهله .

الوجه الثامن والخمسون : قولكم : " إن ابن الزبير سئل عن الجد والإخوة فقال : أما الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذته خليلا - يريد أبا بكر رضي الله عنه - فإنه أنزله أبا " فأي شيء في هذا مما يدل على التقليد بوجه من الوجوه ؟ وقد تقدم من الأدلة الشافية التي لا مطمع في دفعها ما يدل على أن قول الصديق في الجد أصح الأقوال على الإطلاق ، وابن الزبير لم يخبر بذلك تقليدا ، بل أضاف المذهب إلى الصديق لينبه على جلالة قائله ، وأنه ممن لا يقاس غيره به ، لا ليقبل قوله بغير حجة وتترك الحجة من القرآن والسنة لقوله ; فابن الزبير وغيره من الصحابة كانوا أتقى لله ، وحجج الله وبيناته أحب إليهم من أن يتركوها لآراء الرجال ولقول أحد كائنا من كان ، وقول ابن الزبير : " إن الصديق أنزله أبا " متضمن للحكم والدليل معا .

التالي السابق


الخدمات العلمية