فصل [ ( 12 ) ] . الحكمة في التفريق بين عدة الموت والطلاق
وأما تفريقه في العدة بين الموت والطلاق ، وعدة الحرة وعدة الأمة ، وبين الاستبراء والعدة ، مع أن المقصود العلم ببراءة الرحم في ذلك كله ، فهذا إنما يتبين وجهه إذا عرفت الحكمة التي لأجلها شرعت العدة وعرف أجناس العدد وأنواعها .
[ الحكم في العدة ]
فأما المقام الأول ففي شرع العدة عدة حكم : منها العلم ببراءة الرحم ، وأن لا يجتمع ماء الواطئين فأكثر في رحم واحد ، فتختلط الأنساب وتفسد وفي ذلك من الفساد ما تمنعه [ ص: 51 ] الشريعة والحكمة .
ومنها تعظيم خطر هذا العقد ، ورفع قدره ، وإظهار شرفه .
ومنها تطويل زمان الرجعة للمطلق ; إذ لعله أن يندم ويفيء فيصادف زمنا يتمكن فيه من الرجعة .
ومنها قضاء حق الزوج ، وإظهار تأثير فقده في المنع من التزين والتجمل ، ولذلك شرع الإحداد عليه أكثر من الإحداد على الوالد والولد .
ومنها الاحتياط لحق الزوج ، ومصلحة الزوجة ، وحق الولد ، والقيام بحق الله الذي أوجبه ; ففي العدة أربعة حقوق ، وقد أقام الشارع الموت مقام الدخول في استيفاء المعقود عليه ; فإن النكاح مدته العمر ، ولهذا أقيم مقام الدخول في تكميل الصداق ، وفي تحريم الربيبة عند جماعة من الصحابة ومن بعدهم كما هو مذهب زيد بن ثابت في إحدى الروايتين عنه ; فليس المقصود من العدة مجرد براءة الرحم ، بل ذلك من بعض مقاصدها وحكمها . وأحمد
[ ] أجناس العدد
المقام الثاني في أجناسها ، وهي أربعة في كتاب الله ، وخامس بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم : الجنس الأول : أم باب العدة ، { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } الثاني : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } الثالث : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } الرابع : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر } الخامس : قول النبي صلى الله عليه وسلم : { } ومقدم هذه الأجناس كلها الحاكم عليها كلها وضع الحمل ، فإذا وجد فالحكم له ، ولا التفات إلى غيره ، وقد كان بين السلف نزاع في المتوفى عنها أنها تتربص أبعد الأجلين ، ثم حصل الاتفاق على انقضائها بوضع الحمل ; وأما لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حائل حتى تستبرئ بحيضة فتجب بالموت ، سواء دخل بها أو لم يدخل ، كما دل عليه عموم القرآن والسنة الصحيحة واتفاق الناس ; فإن الموت لما كان انتهاء العقد وانقضاءه استقرت به الأحكام : من التوارث ، واستحقاق المهر ، وليس المقصود بالعدة ها هنا مجرد استبراء الرحم كما ظنه بعض الفقهاء ; لوجوبها قبل الدخول ، ولحصول الاستبراء بحيضة واحدة ، ولاستواء الصغيرة والآيسة وذوات القروء في مدتها ، فلما كان الأمر كذلك قالت طائفة : هي تعبد محض لا يعقل معناه ، وهذا باطل لوجوه : منها أنه ليس في الشريعة حكم واحد إلا وله معنى وحكمة يعقله من عقله ويخفى على من خفي عليه . عدة الوفاة
ومنها أن العدد ليست من باب العبادات المحضة ; فإنها تجب في حق الصغيرة والكبيرة والعاقلة والمجنونة والمسلمة والذمية ، ولا تفتقر إلى نية .
ومنها أن رعاية حق الزوجين والولد والزوج الثاني ظاهر فيها ; فالصواب أن يقال : هي [ ص: 52 ] حريم لانقضاء النكاح لما كمل ، ولهذا تجد فيها رعاية لحق الزوج وحرمة له ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من احترامه ورعاية حقوقه تحريم نسائه بعده ، ولما كانت نساؤه في الدنيا هن نساؤه في الآخرة قطعا ، لم يحل لأحد أن يتزوج بهن بعده ، بخلاف غيره ; فإن هذا ليس معلوما في حقه ، فلو حرمت المرأة على غيره لتضررت ضررا محققا بغير نفع معلوم ، ولكن لو تأيمت على أولادها كانت محمودة على ذلك .
وقد كانوا في الجاهلية يبالغون في احترام حق الزوج وتعظيم حريم هذا العقد غاية المبالغة من تربص سنة في شر ثيابها وحفش بيتها ، فخفف الله عنهم ذلك بشريعته التي جعلها رحمة وحكمة ومصلحة ونعمة ، بل هي من أجل نعمه عليهم على الإطلاق ، فله الحمد كما هو أهله .
وكانت أربعة أشهر وعشرا على وفق الحكمة والمصلحة ; إذ لا بد من مدة مضروبة لها ، وأولى المدد بذلك ; فإنه يكون أربعين يوما نطفة ، ثم أربعين علقة ، ثم أربعين مضغة فهذه أربعة أشهر ، ثم ينفخ فيه الروح في الطور الرابع ، فقدر بعشرة أيام لتظهر حياته بالحركة إن كان ثم حمل . . المدة التي يعلم فيها بوجود الولد وعدمه