قال المبطلون لشفعة الجوار : لا تضر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضها ببعض ; فقد ثبت في صحيح من حديث البخاري الزهري عن عن أبي سلمة قال : { جابر } وفي صحيح إن الشفعة في كل ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة من حديث مسلم عن أبي الزبير قال : { جابر } قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط ، ولا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه ، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك ، فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق : ثنا الشافعي سعيد بن سالم ثنا عن ابن جريج عن أبي الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { جابر } وفي سنن الشفعة فيما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة أبي داود بإسناد صحيح من حديث قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أبي هريرة } وفي الموطإ من حديث إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة فيها ابن شهاب عن عن سعيد بن المسيب قال : { أبي هريرة } . قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم ، فإذا صرفت الطرق ووقعت الحدود فلا شفعة
وقال : ثنا سعيد بن منصور إسماعيل بن زكريا عن عن يحيى بن سعيد الأنصاري عوف بن عبد الله عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال : " إذا صرفت الحدود وعرف الناس حدودهم فلا شفعة بينهم " .
وقال أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن : إذا وقعت الحدود في الأرض فلا شفعة فيها ، وهذا قول عثمان بن عفان . ابن العباس
قالوا : ولا ريب أن الضرر اللاحق بالشركة هو ما توجبه من التزاحم في المرافق والحقوق والإحداث والتغيير والإفضاء إلى التقاسم الموجب لنقص قيمة ملكه عليه .
قالوا : وقد فرق الله بين شرعا وقدرا ; ففي الشركة حقوق لا توجد في الجوار ; فإن الملك في الشركة مختلط وفي الجوار متميز ، ولكل من الشريكين على صاحبه [ ص: 99 ] مطالبة شرعية ومنع شرعي ; أما المطالبة ففي القسمة ، وأما المنع فمن التصرف ; فلما كانت الشركة محلا للطلب ومحلا للمنع كانت محلا للاستحقاق ، بخلاف الجواب ، فلم يجز إلحاق الجار بالشريك وبينهما هذا الاختلاف ، الشريك والجار
رفع مؤنة المقاسمة ، وهي مؤنة كثيرة ، والشريك لما باع حصته من غير شريكه فهذا الدخيل قد عرضه لمؤنة عظيمة ، فمكنه الشارع من التخلص منها بانتزاع الشقص على وجه لا يضر بالبائع ولا بالمشتري ، ولم يمكنه الشارع من الانتزاع قبل البيع ; لأن شريكه مثله ومساو له في الدرجة ، فلا يستحق عليه شيئا إلا ولصاحبه مثل ذلك الحق عليه ، فإذا باع صار المشتري دخيلا ، والشريك أصيل ، فرجح جانبه وثبت له الاستحقاق . والمعنى الذي وجبت به الشفعة
قالوا : وكما أن الشارع يقصد رفع الضرر عن الجار فهو أيضا يقصد رفع الضرر عن المشتري ، ولا يزيل ضرر الجار بإدخال الضرر على المشتري ; فإنه محتاج إلى دار يسكنها هو وعياله ، فإذا سلط الجار على إخراجه وانتزاع داره منه أضر به إضرارا بينا ، وأي دار اشتراها وله جار فحاله معه هكذا ، وتطلبه دارا لا جار لها كالمتعذر عليه أو كالمتعسر ; فكان من تمام حكمة الشارع أن أسقط الشفعة بوقوع الحدود وتصريف الطرق ; لئلا يضر الناس بعضهم بعضا ، ويتعذر على من أراد شراء دار لها جار أن يتم له مقصوده ، وهذا بخلاف الشريك ، وإن المشتري لا يمكنه الانتفاع بالحصة التي اشتراها ، والشريك يمكنه ذلك بانضمامها إلى ملكه ، فليس على المشتري ضرر في انتزاعها منه وإعطائه ما اشتراها به .
قالوا : وحينئذ فتعين حمل أحاديث شفعة الجوار على مثل ما دلت عليه أحاديث شفعة الشركة ; فيكون لفظ الجار فيها مرادا به الشريك ، ووجه هذا الإطلاق المعنى والاستعمال ، أما المعنى فإن كل جزء من ملك الشريك مجاور لملك صاحبه ، فهما جاران حقيقة ، وأما الاستعمال فإنهما خليطان متجاوران ، ولذا سميت الزوجة جارة كما قال الأعشى :
أجارتنا بيني فإنك طالقه
فتسمية الشريك جارا أولى وأحرى .وقال حمل بن مالك : كنت بين جارتين لي ، هذا إن لم يحتمل إلا إثبات الشفعة ، فأما إن كان المراد بالحق فيها حق الجار على جاره فلا حجة فيها على إثبات الشفعة ، وأيضا فإنه إنما أثبت له على البائع حق العرض عليه إذا أراد [ ص: 100 ] البيع ، فأين ثبوت حق الانتزاع من المشتري ؟ ولا يلزم من ثبوت هذا الحق ثبوت حق الانتزاع ، فهذا منتهى إقدام الطائفتين في هذه المسألة .
والصواب القول الوسط الجامع بين الأدلة الذي لا يحتمل سواه ، وهو قول البصريين وغيرهم من فقهاء الحديث ، أنه إن كان بين الجارين حق مشترك من حقوق الأملاك من طريق أو ماء أو نحو ذلك ثبتت الشفعة ، وإن لم يكن بينهما حق مشترك ألبتة - بل كان كل واحد منهم متميزا ملكه وحقوق ملكه - فلا شفعة ، وهذا الذي نص عليه في رواية أحمد أبي طالب ، فإنه سأله عن الشفعة : لمن هي ؟ فقال : إذا كان طريقهما واحدا ، فإذا صرفت الطرق وعرفت الحدود فلا شفعة ، وهو قول ، وقول القاضيين عمر بن عبد العزيز ، سوار بن عبيد الله وعبيد الله بن الحسن العنبري ، وقال في رواية أحمد ابن مشيش : أهل البصرة يقولون : إذا كان الطريق واحدا كان بينهم الشفعة مثل دارنا هذه ، على معنى حديث الذي يحدثه جابر عبد الملك ، انتهى .
فأهل الكوفة يثبتون شفعة الجوار مع تميز الطرق والحقوق ، وأهل المدينة يسقطونها مع الاشتراك في الطريق والحقوق ، وأهل البصرة يوافقون أهل المدينة إذا صرفت الطرق ولم يكن هناك اشتراك في حق من حقوق الأملاك ، ويوافقون أهل الكوفة إذا اشترك الجاران في حق من حقوق الأملاك كالطريق وغيرها ، وهذا هو الصواب ، وهو أعدل الأقوال ، وهو اختيار شيخ الإسلام بن تيمية .
وحديث الذي أنكره من أنكره على جابر عبد الملك صريح فيه ، فإنه قال : { } فأثبت الشفعة بالجوار مع اتحاد الطريق ، ونفاها به مع اختلاف الطريق بقوله : { الجار أحق بسقبه ينتظر به وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا } فمفهوم حديث فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة عبد الملك هو بعينه منطوق حديث ، فأحدهما يصدق الآخر ويوافقه ، لا يعارضه ويناقضه ، أبي سلمة روى اللفظين ; فالذي دل عليه حديث وجابر عنه من إسقاط الشفعة عند تصريف الطرق وتمييز الحدود هو بعينه الذي دل عليه حديث أبي سلمة عبد الملك عن عنه بمفهومه ، والذي دل عليه حديث عطاء عبد الملك بمنطوقه هو الذي دلت عليه سائر أحاديث بمفهومها ، فتوافقت السنن بحمد الله وائتلفت ، وزال عنها ما يظن بها من التعارض ، وحديث جابر أبي رافع الذي رواه يدل على مثل ما دل عليه حديث البخاري عبد الملك ; فإنه دل على الأخذ بالجوار حالة الشركة في الطريق ، فإن البيتين كانا في نفس دار والطريق واحد بلا ريب . [ ص: 101 ] والقياس الصحيح يقتضي هذا القول ; فإن الاشتراك في حقوق الملك شقيق الاشتراك في الملك ، والضرر الحاصل بالشركة فيها كالضرر الحاصل بالشركة في الملك أو أقرب إليه ، ورفعه مصلحة للشريك من غير مضرة على البائع ولا على المشتري ; فالمعنى الذي وجبت لأجله شفعة الخلطة في الملك موجود في الخلطة في حقوقه ; فهذا المذهب أوسط المذاهب ، وأجمعها للأدلة ، وأقربها إلى العدل ، وعليه يحمل الاختلاف عن سعد رضي الله عنه ; فحيث قال : لا شفعة ففيما إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق ، وحيث أثبتها ففيما إذا لم تصرف الطرق ، فإنه قد روي عنه هذا وهذا ، وكذلك ما روي عن عمر كرم الله وجهه ، فإنه قال : " إذا حدث الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة " ومن تأمل أحاديث شفعة الجوار رآها صريحة في ذلك ، وتبين له بطلان حملها على الشريك وعلى حق الجوار غير الشفعة ، وبالله التوفيق . علي
فإن قيل : بقي عليكم أن في حديث جابر : { وأبي هريرة } فأسقط الشفعة بمجرد وقوع الحدود ، وعند أرباب هذا القول إذا حصل الاشتراك في الطريق فالشفعة ثابتة ، وإن وقعت الحدود ، وهذا خلاف الحديث . فإذا وقعت الحدود فلا شفعة
فالجواب من وجهين :
أحدهما أن من الرواة من اختصر أحد اللفظين ، ومنهم من جود الحديث فذكرهما ، ولا يكون إسقاط من أسقط أحد اللفظين مبطلا لحكم اللفظ الآخر .
الثاني - أن تصريف الطرق داخل في وقوع الحدود ; فإن الطريق إذا كانت مشتركة لم تكن الحدود كلها واقعة ، بل بعضها حاصل ، وبعضها منتف ; فوقوع الحدود من كل وجه يستلزم أو يتضمن تصريف الطرق ، والله أعلم .