فصل :
[ ] حكمة تحريم ربا النساء في المطعوم
وأما الأصناف الأربعة المطعومة فحاجة الناس إليها أعظم من حاجتهم إلى غيرها ; لأنها أقوات العالم ، وما يصلحها ; فمن رعاية مصالح العباد أن منعوا من بيع بعضها ببعض إلى أجل ، سواء اتحد الجنس أو اختلف ، ومنعوا من بيع بعضها ببعض حالا متفاضلا وإن اختلفت صفاتها ; وجوز لهم التفاضل فيها مع اختلاف أجناسها . [ ص: 106 ]
وسر ذلك - والله أعلم - أنه لو جوز بيع بعضها ببعض نساء لم يفعل ذلك أحد إلا إذا ربح ، وحينئذ تسمح نفسه ببيعها حالة لطمعه في الربح ، فيعز الطعام على المحتاج ، ويشتد ضرره ، وعامة أهل الأرض ليس عندهم دراهم ولا دنانير ، لا سيما أهل العمود والبوادي ، وإنما يتناقلون الطعام بالطعام ; فكان من رحمة الشارع بهم وحكمته أن منعهم من ربا النساء فيها كما منعهم من ربا النساء في الأثمان ; إذ لو جوز لهم النساء فيها لدخلها : " إما أن تقضي وإما أن تربي " فيصير الصاع الواحد لو أخذ قفزانا كثيرة ، ففطموا عن النساء ، ثم فطموا عن بيعها متفاضلا يدا بيد ، إذ تجرهم حلاوة الربح وظفر الكسب إلى التجارة فيها نساء وهو عين المفسدة ، وهذا بخلاف الجنسين المتباينين ; فإن حقائقهما وصفاتهما ومقاصدهما مختلفة ; ففي إلزامهم المساواة في بيعها إضرار بهم ، ولا يفعلونه ، وفي تجويز النساء بينها ذريعة إلى : " إما أن تقضي وإما أن تربي " فكان من تمام رعاية مصالحهم أن قصرهم على بيعها يدا بيد كيف شاءوا ، فحصلت لهم مصلحة المبادلة ، واندفعت عنهم مفسدة : " إما أن تقضي وإما أن تربي " . وهذا بخلاف ما إذا بيعت بالدراهم أو غيرها من الموزونات نساء فإن الحاجة داعية إلى ذلك ، فلو منعوا منه لأضر بهم ، ولامتنع السلم الذي هو من مصالحهم فيما هم محتاجون إليه أكثر من غيرهم ، والشريعة لا تأتي بهذا ، وليس بهم حاجة في بيع هذه الأصناف بعضها ببعض نساء وهو ذريعة قريبة إلى مفسدة الربا ، فأبيح لهم في جميع ذلك ما تدعو إليه حاجتهم وليس بذريعة إلى مفسدة راجحة ، ومنعوا مما لا تدعو الحاجة إليه ويتذرع به غالبا إلى مفسدة راجحة .
يوضح ذلك أن من عنده صنف من هذه الأصناف وهو محتاج إلى الصنف الآخر فإنه يحتاج إلى بيعه بالدراهم ليشتري الصنف الآخر ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : { } أو تبيعه بذلك الصنف نفسه بما يساوي ، وعلى كلا التقديرين يحتاج إلى بيعه حالا ، بخلاف ما إذا مكن من النساء ، فإنه حينئذ يبيعه بفضل ، ويحتاج أن يشتري الصنف الآخر بفضل ; لأن صاحب ذلك الصنف يربي عليه كما أربى هو على غيره ، فينشأ من النساء تضرر بكل واحد منهما ، والنساء ههنا في صنفين ، وفي النوع الأول في صنف واحد ، وكلاهما منشأ الضرر والفساد . بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبا
وإذا تأملت رأيته إما صنفا واحدا أو صنفين مقصودهما واحد أو متقارب ، كالدراهم والدنانير ، والبر والشعير ، والتمر والزبيب ، فإذا تباعدت المقاصد لم يحرم النساء كالبر والثياب والحديد والزيت . [ ص: 107 ] يوضح ذلك أنه لو مكن من بيع مد حنطة بمدين كان ذلك تجارة حاضرة ، فتطلب النفوس التجارة المؤخرة للذة الكسب وحلاوته ; فمنعوا من ذلك حتى منعوا من التفرق قبل القبض إتماما لهذه الحكمة ، ورعاية لهذه المصلحة ; فإن المتعاقدين قد يتعاقدان على الحلول ، والعادة جارية بصبر أحدهما على الآخر ، وكما يفعل أرباب الحيل : يطلقون العقد وقد تواطئوا على أمر آخر ، كما يطلقون عقد النكاح وقد اتفقوا على التحليل ، ويطلقون بيع السلعة إلى أجل وقد اتفقوا على أنه يعيدها إليه بدون ذلك الثمن ; فلو جوز لهم التفرق قبل القبض لأطلقوا البيع حالا وأخروا الطلب لأجل الربح ، فيقعوا في نفس المحذور . ما حرم فيه النساء
وسر المسألة أنهم منعوا من التجارة في الأثمان بجنسها ; لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأثمان ، ومنعوا من التجارة في الأقوات بجنسها ; لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأقوات ، وهذا المعنى بعينه موجود في بيع التبر والعين ; لأن التبر ليس فيه صنعة يقصد لأجلها ; فهو بمنزلة الدراهم التي قصد الشارع ألا يفاضل بينها ، ولهذا قال : " تبرها وعينها سواء " فظهرت حكمة تحريم ربا النساء في الجنس والجنسين ، وربا الفضل في الجنس الواحد ، وأن تحريم هذا تحريم المقاصد وتحريم الآخر تحريم الوسائل وسد الذرائع ، ولهذا لم يبح شيء من ربا النسيئة .