[ خالف المقلدون أمر الله ورسوله وأئمتهم ]
الوجه العشرون : أن
nindex.php?page=treesubj&link=22311فرقة التقليد قد ارتكبت مخالفة أمر الله وأمر رسوله وهدي أصحابه وأحوال أئمتهم ، وسلكوا ضد طريق أهل العلم ، أما أمر الله فإنه أمر برد ما تنازع فيه المسلمون إليه وإلى رسوله ، والمقلدون قالوا : إنما نرده إلى من قلدناه ; وأما أمر رسوله فإنه صلى الله عليه وسلم أمر عند الاختلاف بالأخذ بسنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين ، وأمر أن يتمسك بها ، ويعض عليها بالنواجذ ، وقال المقلدون : بل عند الاختلاف نتمسك بقول من قلدناه ، ونقدمه على كل ما عداه ، وأما هدي الصحابة فمن المعلوم بالضرورة أنه لم يكن فيهم شخص واحد يقلد رجلا واحدا في جميع أقواله ، ويخالف من عداه من الصحابة بحيث لا يرد من أقواله شيئا ، ولا يقبل من أقوالهم شيئا ، وهذا من أعظم البدع وأقبح الحوادث ; وأما مخالفتهم لأئمتهم فإن الأئمة نهوا عن تقليدهم وحذروا منه كما تقدم ذكر بعض ذلك عنهم .
[ ص: 160 ] وأما سلوكهم ضد طريق أهل العلم فإن طريقهم طلب أقوال العلماء وضبطها والنظر فيها وعرضها على القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال خلفائه الراشدين ، فما وافق ذلك منهم قبلوه ، ودانوا الله به ، وقضوا به ، وأفتوا به ، وما خالف ذلك منها لم يلتفتوا إليه ، وردوه ، وما لم يتبين لهم كان عندهم من مسائل الاجتهاد التي غايتها أن تكون سائغة الاتباع لا واجبة الاتباع ، من غير أن يلزموا بها أحدا ، ولا يقولوا : إنها الحق دون ما خالفها ، هذه طريقة أهل العلم سلفا وخلفا ، وأما هؤلاء الخلف فعكسوا الطريق ، وقلبوا أوضاع الدين ، فزيفوا كتاب الله وسنة رسوله وأقوال خلفائه وأصحابه ، فعرضوها على أقوال من قلدوه ، فما وافقها منها قالوا لنا وانقادوا له مذعنين ، وما خالف أقوال متبوعهم منها قالوا : احتج الخصم بكذا وكذا ، ولم يقبلوه ، ولم يدينوا به .
واحتال فضلاؤهم في ردها بكل ممكن ، وتطلبوا لها وجوه الحيل التي تردها ، حتى إذا كانت موافقة لمذاهبهم وكانت تلك الوجوه بعينها قائمة فيها شنعوا على منازعهم ، وأنكروا عليه ردها بتلك الوجوه بعينها ، وقالوا : لا ترد النصوص بمثل هذا ، ومن له همة تسمو إلى الله ومرضاته ونصر الحق الذي بعث الله به رسوله أين كان ومع من كان لا يرضى لنفسه بمثل هذا المسلك الوخيم والخلق الذميم .
[ ذم الله الذين فرقوا دينهم ]
الوجه الحادي والعشرون : إن الله سبحانه ذم الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا {
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=53كل حزب بما لديهم فرحون } وهؤلاء هم أهل التقليد بأعيانهم ، بخلاف أهل العلم ; فإنهم وإن اختلفوا لم يفرقوا دينهم ولم يكونوا شيعا ، بل شيعة واحدة متفقة على طلب الحق ، وإيثاره عند ظهوره ، وتقديمه على كل ما سواه ، فهم طائفة واحدة قد اتفقت مقاصدهم وطريقهم ; فالطريق واحد ، والقصد واحد ، والمقلدون بالعكس : مقاصدهم شتى ، وطرقهم مختلفة ، فليسوا مع الأئمة في القصد ولا في الطريق .
[ ذم الله الذين تقطعوا أمرهم زبرا ]
الوجه الثاني والعشرون : أن الله سبحانه ذم الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون ، والزبر : الكتب المصنفة التي رغبوا بها عن كتاب الله وما بعث الله به رسوله ، فقال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=51يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون } فأمر تعالى الرسل بما أمر به أممهم : أن يأكلوا من
[ ص: 161 ] الطيبات ، وأن يعملوا صالحا ، وأن يعبدوه وحده ، وأن يطيعوا أمره وحده ، وأن لا يتفرقوا في الدين ; فمضت الرسل وأتباعهم على ذلك ، ممتثلين لأمر الله ، قابلين لرحمته ، حتى نشأت خلوف قطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب مما لديهم فرحون ، فمن تدبر هذه الآيات ونزلها على الواقع تبين له حقيقة الحال ، وعلم من أي الحزبين هو ، والله المستعان .
الوجه الثالث والعشرون : أن الله سبحانه قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=104ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } فخص هؤلاء بالفلاح دون من عداهم ، والداعون إلى الخير هم الداعون إلى كتاب الله وسنة رسوله ، لا الداعون إلى رأي فلان وفلان .
[ ذم الله من أعرض عن التحاكم إليه ]
الوجه الرابع والعشرون : أن الله سبحانه ذم من إذا دعي إلى الله ورسوله أعرض ورضي بالتحاكم إلى غيره ، وهذا شأن أهل التقليد ، قال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=61وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } فكل من أعرض عن الداعي له إلى ما أنزل الله ورسوله إلى غيره فله نصيب من هذا الذم ; فمستكثر ومستقل .
[ الحق في واحد من الأقوال ]
الوجه الخامس والعشرون : أن يقال لفرقة التقليد : " دين الله عندكم واحد وهو في القول وضده ، فدينه هو
nindex.php?page=treesubj&link=22311الأقوال المختلفة المتضادة التي يناقض بعضها بعضا ، ويبطل بعضها بعضا ، كلها دين الله " ؟ فإن قالوا : " بلى ، هذه الأقوال المتضادة المتعارضة التي يناقض بعضها بعضا كلها دين الله " خرجوا عن نصوص أئمتهم ; فإن جميعهم على أن الحق في واحد من الأقوال ، كما أن القبلة في جهة من الجهات ، وخرجوا عن نصوص القرآن والسنة والمعقول الصريح ، وجعلوا دين الله تابعا لآراء الرجال .
وإن قالوا : " الصواب الذي لا صواب غيره أن دين الله واحد ، وهو ما أنزل الله به كتابه وأرسل به رسوله وارتضاه لعباده ، كما أن نبيه واحد وقبلته واحدة ، فمن وافقه فهو المصيب وله أجران ، ومن أخطأه فله أجر واحد على اجتهاده لا على خطئه " .
قيل لهم : فالواجب إذا طلب الحق ، وبذل الاجتهاد في الوصول إليه بحسب الإمكان ; لأن الله سبحانه أوجب على الخلق تقواه بحسب الاستطاعة .
وتقواه : فعل ما أمر
[ ص: 162 ] به وترك ما نهى عنه ; فلا بد أن يعرف العبد ما أمر به ليفعله وما نهي عنه ليجتنبه وما أبيح له ليأتيه . ومعرفة هذا لا تكون إلا بنوع اجتهاد وطلب وتحر للحق ، فإذا لم يأت بذلك فهو في عهدة الأمر ، ويلقى الله ولما يقض ما أمره .
[ دعوة رسول الله عامة ]
الوجه السادس والعشرون : أن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة لمن كان في عصره ولمن يأتي بعده إلى يوم القيامة ، والواجب على من بعد الصحابة هو الواجب عليهم بعينه ، وإن تنوعت صفاته وكيفياته باختلاف الأحوال .
ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة لم يكونوا يعرضون ما يسمعون منه صلى الله عليه وسلم على أقوال علمائهم ، بل لم يكن لعلمائهم قول غير قوله ، ولم يكن أحد منهم يتوقف في قبول ما سمعه منه على موافقة موافق أو رأي ذي رأي أصلا ، وكان هذا هو الواجب الذي لا يتم الإيمان إلا به ، وهو بعينه الواجب علينا وعلى سائر المكلفين إلى يوم القيامة .
ومعلوم أن هذا الواجب لم ينسخ بعد موته ، ولا هو مختص بالصحابة ; فمن خرج عن ذلك فقد خرج عن نفس ما أوجبه الله ورسوله .
[ خَالَفَ الْمُقَلِّدُونَ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَئِمَّتِهِمْ ]
الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=22311فِرْقَةَ التَّقْلِيدِ قَدْ ارْتَكَبَتْ مُخَالِفَةَ أَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ وَهَدْيِ أَصْحَابِهِ وَأَحْوَالِ أَئِمَّتِهِمْ ، وَسَلَكُوا ضِدَّ طَرِيقِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، أَمَّا أَمْرُ اللَّهِ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِرَدِّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِ وَإِلَى رَسُولِهِ ، وَالْمُقَلِّدُونَ قَالُوا : إنَّمَا نَرُدُّهُ إلَى مَنْ قَلَّدْنَاهُ ; وَأَمَّا أَمْرُ رَسُولِهِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ بِالْأَخْذِ بِسُنَّتِهِ وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ ، وَأَمَرَ أَنْ يُتَمَسَّكَ بِهَا ، وَيُعَضَّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ، وَقَالَ الْمُقَلِّدُونَ : بَلْ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ نَتَمَسَّكُ بِقَوْلِ مَنْ قَلَّدْنَاهُ ، وَنُقَدِّمُهُ عَلَى كُلِّ مَا عَدَاهُ ، وَأَمَّا هَدْيُ الصَّحَابَةِ فَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ شَخْصٌ وَاحِدٌ يُقَلِّدُ رَجُلًا وَاحِدًا فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ ، وَيُخَالِفُ مَنْ عَدَاهُ مِنْ الصَّحَابَةِ بِحَيْثُ لَا يَرُدُّ مِنْ أَقْوَالِهِ شَيْئًا ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ شَيْئًا ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْبِدَعِ وَأَقْبَحِ الْحَوَادِثِ ; وَأَمَّا مُخَالِفَتُهُمْ لِأَئِمَّتِهِمْ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ نَهَوْا عَنْ تَقْلِيدِهِمْ وَحَذَّرُوا مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِ ذَلِكَ عَنْهُمْ .
[ ص: 160 ] وَأَمَّا سُلُوكُهُمْ ضِدَّ طَرِيقِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَإِنَّ طَرِيقَهُمْ طَلَبُ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَضَبْطُهَا وَالنَّظَرُ فِيهَا وَعَرْضُهَا عَلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْوَالِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ ، فَمَا وَافَقَ ذَلِكَ مِنْهُمْ قَبِلُوهُ ، وَدَانُوا اللَّهَ بِهِ ، وَقَضَوْا بِهِ ، وَأَفْتَوْا بِهِ ، وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ مِنْهَا لَمْ يَلْتَفِتُوا إلَيْهِ ، وَرَدُّوهُ ، وَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي غَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ سَائِغَةَ الِاتِّبَاعِ لَا وَاجِبَةَ الِاتِّبَاعِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْزِمُوا بِهَا أَحَدًا ، وَلَا يَقُولُوا : إنَّهَا الْحَقُّ دُونَ مَا خَالَفَهَا ، هَذِهِ طَرِيقَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ سَلَفًا وَخَلَفًا ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْخَلَفُ فَعَكَسُوا الطَّرِيقَ ، وَقَلَبُوا أَوْضَاعَ الدِّينِ ، فَزَيَّفُوا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَأَقْوَالَ خُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ ، فَعَرَضُوهَا عَلَى أَقْوَالِ مَنْ قَلَّدُوهُ ، فَمَا وَافَقَهَا مِنْهَا قَالُوا لَنَا وَانْقَادُوا لَهُ مُذْعِنِينَ ، وَمَا خَالَفَ أَقْوَالَ مَتْبُوعِهِمْ مِنْهَا قَالُوا : احْتَجَّ الْخَصْمُ بِكَذَا وَكَذَا ، وَلَمْ يَقْبَلُوهُ ، وَلَمْ يَدِينُوا بِهِ .
وَاحْتَالَ فُضَلَاؤُهُمْ فِي رَدِّهَا بِكُلِّ مُمْكِنٍ ، وَتَطَلَّبُوا لَهَا وُجُوهَ الْحِيَلِ الَّتِي تَرُدُّهَا ، حَتَّى إذَا كَانَتْ مُوَافِقَةً لِمَذَاهِبِهِمْ وَكَانَتْ تِلْكَ الْوُجُوهُ بِعَيْنِهَا قَائِمَةً فِيهَا شَنَّعُوا عَلَى مُنَازِعِهِمْ ، وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ رَدَّهَا بِتِلْكَ الْوُجُوهِ بِعَيْنِهَا ، وَقَالُوا : لَا تُرَدُّ النُّصُوصُ بِمِثْلِ هَذَا ، وَمَنْ لَهُ هِمَّةٌ تَسْمُو إلَى اللَّهِ وَمَرْضَاتِهِ وَنَصْرِ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ أَيْنَ كَانَ وَمَعَ مَنْ كَانَ لَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ بِمِثْلِ هَذَا الْمَسْلَكِ الْوَخِيمِ وَالْخُلُقِ الذَّمِيمِ .
[ ذَمَّ اللَّهُ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ]
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَمَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا {
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=53كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ التَّقْلِيدِ بِأَعْيَانِهِمْ ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ ; فَإِنَّهُمْ وَإِنْ اخْتَلَفُوا لَمْ يُفَرِّقُوا دِينَهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا شِيَعًا ، بَلْ شِيعَةً وَاحِدَةً مُتَّفِقَةً عَلَى طَلَبِ الْحَقِّ ، وَإِيثَارِهِ عِنْدَ ظُهُورِهِ ، وَتَقْدِيمِهِ عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ ، فَهُمْ طَائِفَةٌ وَاحِدَةٌ قَدْ اتَّفَقَتْ مَقَاصِدُهُمْ وَطَرِيقُهُمْ ; فَالطَّرِيقُ وَاحِدٌ ، وَالْقَصْدُ وَاحِدٌ ، وَالْمُقَلَّدُونَ بِالْعَكْسِ : مَقَاصِدُهُمْ شَتَّى ، وَطُرُقُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ ، فَلَيْسُوا مَعَ الْأَئِمَّةِ فِي الْقَصْدِ وَلَا فِي الطَّرِيقِ .
[ ذَمَّ اللَّهُ الَّذِينَ تُقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ زُبُرًا ]
الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَمَّ الَّذِينَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ، وَالزُّبُرُ : الْكُتُبُ الْمُصَنَّفَةُ الَّتِي رَغِبُوا بِهَا عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ ، فَقَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=51يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَأَنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقْطَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } فَأَمَرَ تَعَالَى الرُّسُلَ بِمَا أَمَرَ بِهِ أُمَمَهُمْ : أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ
[ ص: 161 ] الطَّيِّبَاتِ ، وَأَنْ يَعْمَلُوا صَالِحًا ، وَأَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ ، وَأَنْ يُطِيعُوا أَمْرَهُ وَحْدَهُ ، وَأَنْ لَا يَتَفَرَّقُوا فِي الدِّينِ ; فَمَضَتْ الرُّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، مُمْتَثِلِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ ، قَابِلِينَ لِرَحْمَتِهِ ، حَتَّى نَشَأَتْ خُلُوفٌ قَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ مِمَّا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ، فَمَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَزَّلَهَا عَلَى الْوَاقِعِ تَبَيَّنَ لَهُ حَقِيقَةَ الْحَالِ ، وَعَلِمَ مِنْ أَيِّ الْحِزْبَيْنِ هُوَ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=104وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } فَخَصَّ هَؤُلَاءِ بِالْفَلَاحِ دُونَ مَنْ عَدَاهُمْ ، وَالدَّاعُونَ إلَى الْخَيْرِ هُمْ الدَّاعُونَ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، لَا الدَّاعُونَ إلَى رَأْيِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ .
[ ذَمَّ اللَّهُ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ التَّحَاكُمِ إلَيْهِ ]
الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَمَّ مَنْ إذَا دُعِيَ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَعْرَضَ وَرَضِيَ بِالتَّحَاكُمِ إلَى غَيْرِهِ ، وَهَذَا شَأْنُ أَهْلِ التَّقْلِيدِ ، قَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=61وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْت الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْك صُدُودًا } فَكُلُّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ الدَّاعِي لَهُ إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَى غَيْرِهِ فَلَهُ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا الذَّمِّ ; فَمُسْتَكْثِرٌ وَمُسْتَقِلٌّ .
[ الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْأَقْوَالِ ]
الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ : أَنْ يُقَالَ لِفِرْقَةِ التَّقْلِيدِ : " دِينُ اللَّهِ عِنْدَكُمْ وَاحِدٌ وَهُوَ فِي الْقَوْلِ وَضِدِّهِ ، فَدِينُهُ هُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=22311الْأَقْوَالُ الْمُخْتَلِفَةُ الْمُتَضَادَّةُ الَّتِي يُنَاقِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَيُبْطِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، كُلُّهَا دِينُ اللَّهِ " ؟ فَإِنْ قَالُوا : " بَلَى ، هَذِهِ الْأَقْوَالُ الْمُتَضَادَّةُ الْمُتَعَارِضَةُ الَّتِي يُنَاقِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا كُلُّهَا دِينُ اللَّهِ " خَرَجُوا عَنْ نُصُوصِ أَئِمَّتِهِمْ ; فَإِنَّ جَمِيعَهُمْ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْأَقْوَالِ ، كَمَا أَنَّ الْقِبْلَةَ فِي جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ ، وَخَرَجُوا عَنْ نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ ، وَجَعَلُوا دِينَ اللَّهِ تَابِعًا لِآرَاءِ الرِّجَالِ .
وَإِنْ قَالُوا : " الصَّوَابُ الَّذِي لَا صَوَابَ غَيْرُهُ أَنَّ دِينَ اللَّهِ وَاحِدٌ ، وَهُوَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ كِتَابَهُ وَأَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ وَارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ ، كَمَا أَنَّ نَبِيَّهُ وَاحِدٌ وَقِبْلَتَهُ وَاحِدَةٌ ، فَمَنْ وَافَقَهُ فَهُوَ الْمُصِيبُ وَلَهُ أَجْرَانِ ، وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ لَا عَلَى خَطَئِهِ " .
قِيلَ لَهُمْ : فَالْوَاجِبُ إذَا طَلَبَ الْحَقَّ ، وَبَذَلَ الِاجْتِهَادَ فِي الْوُصُولِ إلَيْهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ; لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ عَلَى الْخَلْقِ تَقْوَاهُ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ .
وَتَقْوَاهُ : فِعْلُ مَا أَمَرَ
[ ص: 162 ] بِهِ وَتَرْكُ مَا نَهَى عَنْهُ ; فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ الْعَبْدُ مَا أُمِرَ بِهِ لِيَفْعَلَهُ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ لِيَجْتَنِبَهُ وَمَا أُبِيحَ لَهُ لِيَأْتِيَهُ . وَمَعْرِفَةُ هَذَا لَا تَكُونُ إلَّا بِنَوْعِ اجْتِهَادٍ وَطَلَبٍ وَتَحَرٍّ لِلْحَقِّ ، فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ فَهُوَ فِي عُهْدَةِ الْأَمْرِ ، وَيَلْقَى اللَّهَ وَلَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ .
[ دَعْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ عَامَّةٌ ]
الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ دَعْوَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَّةٌ لِمَنْ كَانَ فِي عَصْرِهِ وَلِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ بِعَيْنِهِ ، وَإِنْ تَنَوَّعَتْ صِفَاتُهُ وَكَيْفِيَّاتُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ .
وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِضُونَ مَا يَسْمَعُونَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَقْوَالِ عُلَمَائِهِمْ ، بَلْ لَمْ يَكُنْ لِعُلَمَائِهِمْ قَوْلٌ غَيْرُ قَوْلِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَتَوَقَّفُ فِي قَبُولِ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ عَلَى مُوَافَقَةِ مُوَافِقٍ أَوْ رَأْيِ ذِي رَأْيٍ أَصْلًا ، وَكَانَ هَذَا هُوَ الْوَاجِبَ الَّذِي لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِهِ ، وَهُوَ بِعَيْنِهِ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا وَعَلَى سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْوَاجِبَ لَمْ يُنْسَخْ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَلَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالصَّحَابَةِ ; فَمَنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ نَفْسِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ .