[ الأقوال لا تنحصر وقائلوها غير معصومين ]
الوجه السابع والعشرون : أن
nindex.php?page=treesubj&link=22311أقوال العلماء وآراءهم لا تنضبط ولا تنحصر ، ولم تضمن لها العصمة إلا إذا اتفقوا ولم يختلفوا ; فلا يكون اتفاقهم إلا حقا ، ومن المحال أن يحيلنا الله ورسوله على ما لا ينضبط ولا ينحصر ، ولم يضمن لنا عصمته من الخطأ ، ولم يقم لنا دليلا على أن أحد القائلين أولى بأن نأخذ قوله كله من الآخر ، بل يترك قول هذا كله ويؤخذ قول هذا كله .
هذا محال أن يشرعه الله أو يرضى به إلا إذا كان أحد القائلين رسولا والآخر كاذبا على الله فالفرض حينئذ ما يعتمده هؤلاء المقلدون مع متبوعهم ومخالفيهم .
[ العلم يقال ]
الوجه الثامن والعشرون : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=16133بدأ الإسلام غريبا ، وسيعود غريبا كما بدأ } وأخبر أن العلم يقل ، فلا بد من وقوع ما أخبر به الصادق ، ومعلوم أن كتب المقلدين قد طبقت شرق الأرض وغربها ، ولم تكن في وقت قط أكثر منها في هذا الوقت .
ونحن نراها في كل عام في ازدياد وكثرة ، والمقلدون يحفظون منها ما يمكن حفظه بحروفه ، وشهرتها في الناس خلاف الغربة ، بل هي المعروف الذي لا يعرفون غيره ; فلو كانت هي العلم الذي بعث الله به رسوله لكان الدين كل وقت في ظهور وزيادة والعلم في شهرة وظهور ، وهو خلاف ما أخبر به الصادق .
[ ص: 163 ] الوجه التاسع والعشرون : أن
nindex.php?page=treesubj&link=22311الاختلاف كثير في كتب المقلدين وأقوالهم ، وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ، بل هو حق يصدق بعضه بعضا ، ويشهد بعضه لبعض ، وقد قال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=82ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } .
الوجه الثلاثون : أنه لا يجب على العبد أن يقلد زيدا دون عمرو ، بل يجوز له الانتقال من تقليد هذا إلى تقليد الآخر عند المقلدين ، فإن كان قول من قلده أولا هو الحق لا سواه فقد جوزتم له الانتقال عن الحق إلى خلافه ، وهذا محال .
وإن كان الثاني هو الحق وحده فقد جوزتم الإقامة على خلاف الحق .
وإن قلتم : " القولان المتضادان المتناقضان حق " فهو أشد إحالة ، ولا بد لكم من قسم من هذه الأقسام الثلاثة .
الوجه الحادي والثلاثون : أن يقال للمقلد : بأي شيء عرفت أن الصواب مع من قلدته دون من لا تقلده ؟ فإن قال " عرفته بالدليل " فليس بمقلد ، وإن قال : " عرفته تقليدا له ; فإنه أفتى بهذا القول ودان به وعلمه ودينه وحسن ثناء الأمة عليه يمنعه أن يقول غير الحق " قيل له : أفمعصوم هو عندك أم يجوز عليه الخطأ ؟ فإن قال بعصمته أبطل ، وإن جوز عليه الخطأ قيل له : فما يؤمنك أن يكون قد أخطأ فيما قلدته فيه وخالف فيه غيره ؟ فإن قال : وإن أخطأ فهو مأجور ، قيل : أجل هو مأجور لاجتهاده ، وأنت غير مأجور لأنك لم تأت بموجب الأجر ، بل قد فرطت في الاتباع الواجب فأنت إذا مأزور .
فإن قال : كيف يأجره الله على ما أفتى به ويمدحه عليه ويذم المستفتي على قبوله منه ؟ وهل يعقل هذا ؟ قيل له : المستفتي إن هو قصر وفرط في معرفته الحق مع قدرته عليه لحقه الذم والوعيد ، وإن بذل جهده ولم يقصر فيما أمر به واتقى الله ما استطاع فهو مأجور أيضا ، وإن بذل جهده ولم يقصر فيما أمر به واتقى الله ما استطاع فهو مأجور أيضا . وأما المتعصب الذي جعل قول متبوعه عيارا على الكتاب والسنة وأقوال الصحابة يزنها به فما وافق قول متبوعه منها قبله وما خالفه رده ، فهذا إلى الذم والعقاب أقرب منه إلى الأجر والصواب ; وإن قال وهو الواقع : اتبعته وقلدته ولا أدري أعلى صواب هو أم لا ، فالعهدة على القائل ، وأنا حاك لأقواله ، قيل له : فهل تتخلص بهذا من الله عند السؤال لك عما حكمت به بين عباد الله وأفتيتهم به ، فوالله إن للحكام والمفتين لموقفا للسؤال لا يتخلص فيه إلا من عرف الحق وحكم به وأفتى به ، وأما من عداهما فسيعلم عند انكشاف الحال أنه لم يكن على شيء .
[ الْأَقْوَالُ لَا تَنْحَصِرُ وَقَائِلُوهَا غَيْرُ مَعْصُومِينَ ]
الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=22311أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ وَآرَاءَهُمْ لَا تَنْضَبِطُ وَلَا تَنْحَصِرُ ، وَلَمْ تُضْمَنْ لَهَا الْعِصْمَةُ إلَّا إذَا اتَّفَقُوا وَلَمْ يَخْتَلِفُوا ; فَلَا يَكُونُ اتِّفَاقُهُمْ إلَّا حَقًّا ، وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُحِيلُنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَى مَا لَا يَنْضَبِطُ وَلَا يَنْحَصِرُ ، وَلَمْ يَضْمَنْ لَنَا عِصْمَتَهُ مِنْ الْخَطَأِ ، وَلَمْ يُقِمْ لَنَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ أَحَدَ الْقَائِلِينَ أَوْلَى بِأَنْ نَأْخُذَ قَوْلَهُ كُلَّهُ مِنْ الْآخَرِ ، بَلْ يُتْرَكُ قَوْلُ هَذَا كُلِّهِ وَيُؤْخَذُ قَوْلُ هَذَا كُلِّهِ .
هَذَا مُحَالٌ أَنْ يَشْرَعَهُ اللَّهُ أَوْ يَرْضَى بِهِ إلَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الْقَائِلِينَ رَسُولًا وَالْآخَرُ كَاذِبًا عَلَى اللَّهِ فَالْفَرْضُ حِينَئِذٍ مَا يَعْتَمِدُهُ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدُونَ مَعَ مَتْبُوعِهِمْ وَمُخَالِفَيْهِمْ .
[ الْعِلْمُ يُقَالُ ]
الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=16133بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا ، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ } وَأَخْبَرَ أَنَّ الْعِلْمَ يَقِلُّ ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُتُبَ الْمُقَلَّدِينَ قَدْ طَبَّقَتْ شَرْقَ الْأَرْضِ وَغَرْبَهَا ، وَلَمْ تَكُنْ فِي وَقْتٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ .
وَنَحْنُ نَرَاهَا فِي كُلِّ عَامٍ فِي ازْدِيَادٍ وَكَثْرَةٍ ، وَالْمُقَلِّدُونَ يَحْفَظُونَ مِنْهَا مَا يُمْكِنُ حِفْظُهُ بِحُرُوفِهِ ، وَشُهْرَتُهَا فِي النَّاسِ خِلَافُ الْغُرْبَةِ ، بَلْ هِيَ الْمَعْرُوفُ الَّذِي لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَهُ ; فَلَوْ كَانَتْ هِيَ الْعِلْمُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ لَكَانَ الدِّينُ كُلَّ وَقْتٍ فِي ظُهُورٍ وَزِيَادَةٍ وَالْعِلْمُ فِي شُهْرَةٍ وَظُهُورٍ ، وَهُوَ خِلَافُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ .
[ ص: 163 ] الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=22311الِاخْتِلَافَ كَثِيرٌ فِي كُتُبِ الْمُقَلِّدِينَ وَأَقْوَالِهِمْ ، وَمَا كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ ، بَلْ هُوَ حَقٌّ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا ، وَيَشْهَدُ بَعْضُهُ لِبَعْضٍ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=82وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } .
الْوَجْهُ الثَّلَاثُونَ : أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُقَلِّدَ زَيْدًا دُونَ عَمْرٍو ، بَلْ يَجُوزُ لَهُ الِانْتِقَالُ مِنْ تَقْلِيدِ هَذَا إلَى تَقْلِيدِ الْآخَرِ عِنْدَ الْمُقَلِّدِينَ ، فَإِنْ كَانَ قَوْلُ مَنْ قَلَّدَهُ أَوَّلًا هُوَ الْحَقَّ لَا سِوَاهُ فَقَدْ جَوَّزْتُمْ لَهُ الِانْتِقَالَ عَنْ الْحَقِّ إلَى خِلَافِهِ ، وَهَذَا مُحَالٌ .
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي هُوَ الْحَقَّ وَحْدَهُ فَقَدْ جَوَّزْتُمْ الْإِقَامَةَ عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ .
وَإِنْ قُلْتُمْ : " الْقَوْلَانِ الْمُتَضَادَّانِ الْمُتَنَاقِضَانِ حَقٌّ " فَهُوَ أَشَدُّ إحَالَةً ، وَلَا بُدَّ لَكُمْ مِنْ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ .
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ : أَنْ يُقَالَ لِلْمُقَلِّدِ : بِأَيِّ شَيْءٍ عَرَفْت أَنَّ الصَّوَابَ مَعَ مَنْ قَلَّدْته دُونَ مَنْ لَا تُقَلِّدُهُ ؟ فَإِنْ قَالَ " عَرَفْته بِالدَّلِيلِ " فَلَيْسَ بِمُقَلَّدٍ ، وَإِنْ قَالَ : " عَرَفْته تَقْلِيدًا لَهُ ; فَإِنَّهُ أَفْتَى بِهَذَا الْقَوْلِ وَدَانَ بِهِ وَعِلْمُهُ وَدِينُهُ وَحُسْنُ ثَنَاءِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِ يَمْنَعُهُ أَنْ يَقُولَ غَيْرَ الْحَقِّ " قِيلَ لَهُ : أَفَمَعْصُومٌ هُوَ عِنْدَك أَمْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ ؟ فَإِنْ قَالَ بِعِصْمَتِهِ أَبْطَلَ ، وَإِنْ جَوَّزَ عَلَيْهِ الْخَطَأَ قِيلَ لَهُ : فَمَا يُؤَمِّنُك أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ فِيمَا قَلَّدْته فِيهِ وَخَالَفَ فِيهِ غَيْرَهُ ؟ فَإِنْ قَالَ : وَإِنْ أَخْطَأَ فَهُوَ مَأْجُورٌ ، قِيلَ : أَجَلْ هُوَ مَأْجُورٌ لِاجْتِهَادِهِ ، وَأَنْتَ غَيْرُ مَأْجُورٍ لِأَنَّك لَمْ تَأْتِ بِمُوجِبِ الْأَجْرِ ، بَلْ قَدْ فَرَّطْت فِي الِاتِّبَاعِ الْوَاجِبِ فَأَنْتَ إذًا مَأْزُورٌ .
فَإِنْ قَالَ : كَيْفَ يَأْجُرُهُ اللَّهُ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ وَيَمْدَحُهُ عَلَيْهِ وَيَذُمُّ الْمُسْتَفْتِي عَلَى قَبُولِهِ مِنْهُ ؟ وَهَلْ يُعْقَلُ هَذَا ؟ قِيلَ لَهُ : الْمُسْتَفْتِي إنْ هُوَ قَصَّرَ وَفَرَّطَ فِي مَعْرِفَتِهِ الْحَقَّ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ لَحِقَهُ الذَّمُّ وَالْوَعِيدُ ، وَإِنْ بَذَلَ جَهْدَهُ وَلَمْ يُقَصِّرْ فِيمَا أُمِرَ بِهِ وَاتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ فَهُوَ مَأْجُورٌ أَيْضًا ، وَإِنْ بَذَلَ جَهْدَهُ وَلَمْ يُقَصِّرْ فِيمَا أُمِرَ بِهِ وَاتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ فَهُوَ مَأْجُورٌ أَيْضًا . وَأَمَّا الْمُتَعَصِّبُ الَّذِي جَعَلَ قَوْلَ مَتْبُوعِهِ عِيَارًا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ يَزِنُهَا بِهِ فَمَا وَافَقَ قَوْلَ مَتْبُوعِهِ مِنْهَا قَبِلَهُ وَمَا خَالَفَهُ رَدَّهُ ، فَهَذَا إلَى الذَّمِّ وَالْعِقَابِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْأَجْرِ وَالصَّوَابِ ; وَإِنْ قَالَ وَهُوَ الْوَاقِعُ : اتَّبَعَتْهُ وَقَلَّدَتْهُ وَلَا أَدْرِي أَعْلَى صَوَابٍ هُوَ أَمْ لَا ، فَالْعُهْدَةُ عَلَى الْقَائِلِ ، وَأَنَا حَاكٍ لِأَقْوَالِهِ ، قِيلَ لَهُ : فَهَلْ تَتَخَلَّصُ بِهَذَا مِنْ اللَّهِ عِنْدَ السُّؤَالِ لَك عَمَّا حَكَمْت بِهِ بَيْنَ عِبَادِ اللَّهِ وَأَفْتَيْتهمْ بِهِ ، فَوَاَللَّهِ إنَّ لِلْحُكَّامِ وَالْمُفْتِينَ لَمَوْقِفًا لِلسُّؤَالِ لَا يَتَخَلَّصُ فِيهِ إلَّا مَنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَحَكَمَ بِهِ وَأَفْتَى بِهِ ، وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُمَا فَسَيَعْلَمُ عِنْدَ انْكِشَافِ الْحَالِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَيْءٍ .