[ ] : يوضحه الوجه الثامن والسبعون : أن من قلدتموه إذا روي عنه قولان وروايتان سوغتم العمل بهما ، وقلتم : مجتهد له قولان ; فيسوغ لنا الأخذ بهذا وهذا ، وكان القولان جميعا مذهبا لكم ، فهلا جعلتم قول نظيره من المجتهدين بمنزلة قوله الآخر وجعلتم القولين جميعا مذهبا لكم ، وربما كان قول نظيره ومن هو أعلم منه أرجح من قوله الآخر وأقرب إلى الكتاب والسنة ؟ يوضحه الوجه التاسع والسبعون : أنكم معاشر المقلدين إذا قال بعض أصحابكم ممن قلدتموه قولا خلاف قول المتبوع أو خرجه على قوله جعلتموه وجها وقضيتم وأفتيتم به وألزمتم بمقتضاه ، فإذا قال الإمام الذي هو نظير متبوعكم أو فوقه قولا يخالفه لم تلتفتوا إليه ولم تعدوه شيئا ، ومعلوم أن واحدا من الأئمة الذين هم نظير متبوعكم أجل من جميع أصحابه من أولهم إلى آخرهم ، فقدروا أسوأ المقادير أن يكون قوله بمنزلة وجه في [ ص: 196 ] مذهبكم . مجيء روايتين عن أحد الأئمة كمجيء قولين لإمامين
فيا لله العجب ، صار من أفتى أو حكم بقول واحد من مشايخ المذهب أحق بالقبول ممن أفتى بقول الخلفاء الراشدين وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وأبي الدرداء ، وهذا من بركة التقليد عليكم . ومعاذ بن جبل
وتمام ذلك الوجه الثمانون : أنكم إن رمتم التخلص من هذه الخطة ، وقلتم : بل يسوغ تقليد بعضهم دون بعض ، وقال كل فرقة منكم : يسوغ أو يجب تقليد من قلدناه دون غيره من الأئمة الذين هم مثله أو أعلم منه ، كان أقل ما في ذلك معارضة قولكم بقول الفرقة الأخرى في ضرب هذه الأقوال بعضها ببعض .
ثم يقال : ما الذي جعل متبوعكم أولى بالتقليد من متبوع الفرقة الأخرى ؟ بأي كتاب أم بأية سنة ؟ وهل تقطعت الأمة أمرها بينها زبرا وصار كل حزب بما لديهم فرحون إلا بهذا السبب ؟ ، فكل طائفة تدعوا إلى متبوعها وتنأى عن غيره وتنهى عنه ، وذلك مفض إلى التفريق بين الأمة ، وجعل دين الله تابعا للتشهي والأغراض وعرضة للاضطراب والاختلاف ، وهذا كله يدل على أن التقليد ليس من عند الله للاختلاف الكثير الذي فيه ، ويكفي في فساد هذا المذهب تناقض أصحابه ومعارضة أقوالهم بعضها ببعض ، ولو لم يكن فيه من الشناعة إلا إيجابهم تقليد صاحبهم وتحريمهم تقليد الواحد من أكابر الصحابة كما صرحوا به في كتبهم .
الوجه الحادي والثمانون : أن المقلدين حكموا على الله قدرا وشرعا بالحكم الباطل جهارا المخالف لما أخبر به رسوله فأخلوا الأرض من القائمين لله بحججه ، وقالوا : لم يبق في الأرض عالم منذ الأعصار المتقدمة ; فقالت طائفة : ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر بن الهذيل ومحمد بن الحسن وهذا قول كثير من الحنفية . والحسن بن زياد اللؤلؤي
وقال بكر بن العلاء القشيري المالكي : ليس لأحد أن يختار بعد المائتين من الهجرة ، وقال آخرون : ليس لأحد أن يختار بعد الأوزاعي وسفيان الثوري ووكيع بن الجراح ، وقالت طائفة : ليس لأحد أن يختار بعد وعبد الله بن المبارك ، واختلف المقلدون من أتباعه فيمن يؤخذ بقوله من المنتسبين إليه ويكون له وجه يفتي ويحكم به من ليس كذلك . الشافعي
وجعلوهم ثلاث مراتب : طائفة أصحاب وجوه كابن سريج والقفال ، وطائفة أصحاب احتمالات لا أصحاب وجوه وأبي حامد ، وطائفة ليسوا أصحاب وجوه ولا احتمالات كأبي المعالي كأبي حامد وغيره ، واختلفوا متى انسد باب الاجتهاد على أقوال كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان ، وعند هؤلاء أن الأرض قد خلت من قائم لله بحجة ، ولم يبق فيها من يتكلم بالعلم ، ولم يحل لأحد بعد أن ينظر في كتاب الله ولا سنة رسوله لأخذ الأحكام منهما ، ولا يقضي ويفتي بما فيهما حتى يعرضه على قول مقلده ومتبوعه ، فإن وافقه حكم به [ ص: 197 ] وأفتى به ، وإلا رده ولم يقبله .
وهذه أقوال - كما ترى - قد بلغت من الفساد والبطلان والتناقض ، والقول على الله بلا علم ، وإبطال حججه ، والزهد في كتابه وسنة رسوله ، وتلقي الأحكام منهما مبلغها ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ويصدق قول رسوله .
إنه لا تخلو الأرض من قائم لله بحججه ، ولن تزال طائفة من أمته على محض الحق الذي بعثه به ، وأنه لا يزال يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها ، ويكفي في فساد هذه الأقوال أن يقال لأربابها : فإذا لم يكن لأحد أن يختار بعد من ذكرتم فمن أين وقع لكم اختيار تقليدهم دون غيرهم ؟ وكيف حرمتم على الرجل أن يختار ما يؤديه إليه اجتهاده من القول الموافق لكتاب الله وسنة رسوله ، وأبحتم لأنفسكم اختيار قول من قلدتموه ، وأوجبتم على الأمة تقليده ، وحرمتم تقليد من سواه ، ورجحتموه على تقليد من سواه ؟ فما الذي سوغ لكم هذا الاختيار الذي لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا قول صاحب ، وحرم اختيار ما دل عليه الدليل من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة ؟ ويقال لكم : فإذا كان لا يجوز الاختيار بعد المائتين عندك ولا عند غيرك فمن أين ساغ لك وأنت لم تولد إلا بعد المائتين بنحو ستين سنة أن تختار قول دون من هو أفضل منه من الصحابة والتابعين أو من هو مثله من فقهاء الأمصار أو ممن جاء بعده ؟ وموجب هذا القول أن مالك أشهب وابن الماجشون ومطرف بن عبد الله وأصبغ بن الفرج وسحنون بن سعيد وأحمد بن المعدل ومن في طبقتهم من الفقهاء كان لهم أن يختاروا إلى انسلاخ ذي الحجة من سنة مائتين ، فلما استهل هلال المحرم من سنة إحدى ومائتين وغابت الشمس من تلك الليلة حرم عليهم في الوقت بلا مهلة ما كان مطلقا لهم من الاختيار .
ويقال للآخرين : أليس من المصائب وعجائب الدنيا تجويزكم الاختيار والاجتهاد والقول في دين الله بالرأي والقياس لمن ذكرتم من أئمتكم ، ثم لا تجيزون الاختيار والاجتهاد لحفاظ الإسلام وأعلم الأمة بكتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة وفتاواهم كأحمد بن حنبل والشافعي وإسحاق بن راهويه ومحمد بن إسماعيل البخاري ونظرائهم على سعة علمهم بالسنن ووقوفهم على الصحيح منها والسقيم وتحريهم في معرفة أقوال الصحابة والتابعين ودقة نظرهم ولطف استخراجهم للدلائل ، ومن قال منهم بالقياس فقياسه من أقرب القياس إلى الصواب ، وأبعده عن الفساد ، وأقربه إلى النصوص ، مع شدة ورعهم وما منحهم الله من محبة المؤمنين لهم وتعظيم المسلمين علمائهم وعامتهم لهم ، فإن احتج كل فريق منهم بترجيح متبوعه بوجه من وجوه التراجيح من تقدم زمان أو زهد أو ورع أو لقاء شيوخ وأئمة لم يلقهم من بعده أو كثرة أتباع لم يكونوا لغيره أمكن الفريق الآخر أن يبدوا لمتبوعهم من الترجيح [ ص: 198 ] بذلك أو غيره ما هو مثل هذا أو فوقه ، وأمكن غير هؤلاء كلهم أن يقولوا لهم جميعا : نفوذ قولكم هذا إن لم تأنفوا من التناقض يوجب عليكم أن تتركوا قول متبوعكم لقول من هو أقدم منه من الصحابة والتابعين وأعلم وأورع وأزهد وأكثر اتباعا وأجل ، فأين أتباع وداود بن علي ابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت بل أتباع ومعاذ بن جبل عمر من أتباع الأئمة المتأخرين في الكثرة والجلالة ؟ وعلي
وهذا قال أبو هريرة : حمل العلم عنه ثمانمائة رجل ما بين صاحب وتابع ، وهذا البخاري من جملة أصحاب زيد بن ثابت ، وأين في أتباع الأئمة مثل عبد الله بن عباس عطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ؟ وأين في أتباعهم مثل السعيدين وجابر بن زيد والشعبي ومسروق وعلقمة والأسود ؟ وأين في أتباعهم مثل وشريح نافع وسالم والقاسم وعروة وخارجة بن زيد وسليمان بن يسار وأبي بكر بن عبد الرحمن ؟ فما الذي جعل الأئمة بأتباعهم أسعد من هؤلاء بأتباعهم ؟ ولكن أولئك وأتباعهم على قدر عصرهم فعظمهم وجلالتهم وكبرهم منع المتأخرين من الاقتداء بهم ، وقالوا بلسان قالهم وحالهم : هؤلاء كبار علينا لسنا من زبونهم ، كما صرحوا وشهدوا على أنفسهم ; فإن أقدارهم تتقاصر عن تلقي العلم من القرآن والسنة ، وقالوا : لسنا أهلا لذلك ، لا لقصور الكتاب والسنة ، ولكن لعجزنا نحن وقصورنا ، فاكتفينا بمن هو أعلم بهما منا ، فيقال لهم : فلم تنكرون على من اقتدى بهما وحكمهما وتحاكم إليهما وعرض أقوال العلماء عليهما فما وافقهما قبله وما خالفهما رده ؟ فهب أنكم لم تصلوا إلى هذا العنقود فلم تنكرون على من وصل إليه وذاق حلاوته ؟ وكيف تحجرتم الواسع من فضل الله الذي ليس على قياس عقول العالمين ولا اقتراحاتهم ، وهم وإن كانوا في عصركم ونشئوا معكم وبينكم وبينهم نسب قريب فالله يمن على من يشاء من عباده .
وقد أنكر الله سبحانه على من رد النبوة بأن الله صرفها عن عظماء القرى ومن رؤسائها وأعطاها لمن ليس كذلك بقوله : { أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون } وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { } وقد أخبر الله سبحانه عن السابقين بأنهم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ، وأخبر سبحانه أنه بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ، ثم قال : { : مثل أمتي كالمطر ، لا يدرى أوله خير أم آخره وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم } ثم أخبر أن { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } .
[ ص: 199 ] وقد أطلنا الكلام في القياس والتقليد ، وذكرنا من مآخذهما وحجج أصحابهما وما لهم وعليهم من المنقول والمعقول ما لا يجده الناظر في كتاب من كتب القوم من أولها إلى آخرها ، ولا يظفر به في غير هذا الكتاب أبدا ، وذلك بحول الله وقوته ومعونته وفتحه ; فله الحمد والمنة ، وما كان فيه من صواب فمن الله ، هو المان به ، وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان ، وليس الله ورسوله ودينه في شيء منه ، وبالله التوفيق .