[
nindex.php?page=treesubj&link=4260_4243_24816الإفتاء في شروط الواقفين ] الفائدة السابعة عشرة :
إذا
nindex.php?page=treesubj&link=4243_4260سئل عن مسألة فيها شرط واقف لم يحل له أن يلزم بالعمل به ، بل ولا يسوغه على الإطلاق ، حتى ينظر في ذلك الشرط ، فإن كان يخالف حكم الله ورسوله فلا حرمة له ، ولا يحل له تنفيذه ، ولا يسوغ تنفيذه ، وإن لم يخالف حكم الله ورسوله فلينظر : هل فيه قربة أو رجحان عند الشارع أم لا ؟ فإن لم يكن فيه قربة ، ولا رجحان لم يجب التزامه ، ولم يحرم ، فلا تضر مخالفته ، وإن كان فيه قربة وهو راجح على خلافه فلينظر : هل يفوت بالتزامه والتقييد به ما هو أحب إلى الله ورسوله وأرضى له وأنفع للمكلف وأعظم تحصيلا لمقصود الواقف من الأجر ؟ فإن فات ذلك بالتزامه لم يجب التزامه ولا التقييد به قطعا ، وجاز العدول بل يستحب إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله وأنفع للمكلف وأكثر تحصيلا لمقصود الواقف ، وفي جواز التزام شرط الواقف في هذه الصورة تفصيل سنذكره إن شاء الله .
وإن كان في قربة وطاعة ولم يفت بالتزامه ما هو أحب إلى الله ورسوله منه وتساوى هو وغيره في تلك القربة ، ويحصل غرض الواقف بحيث يكون هو وغيره طريقين موصلين إلى مقصوده ومقصود الشارع من كل وجه ولم يتعين عليه التزام الشرط ،
[ ص: 138 ] بل له العدول عنه إلى ما هو أسهل عليه ، وأرفق به ، وإن ترجح موجب الشرط وكان قصد القربة والطاعة فيه أظهر وجب التزامه .
فهذا هو القول الكلي في شروط الواقفين ، وما يجب التزامه منها ، وما يسوغ ، وما لا يجب ، ومن سلك غير هذا المسلك تناقض أظهر تناقض ، ولم يثبت له قدم يعتمد عليه .
فإذا
nindex.php?page=treesubj&link=4260شرط الواقف أن يصلي الموقوف عليه في هذا المكان المعين الصلوات الخمس ولو كان وحده ، وإلى جانبه المسجد الأعظم وجماعة المسلمين لم يجب عليه الوفاء بهذا الشرط ، بل ولا يحل له التزامه إذا فاتته الجماعة ; فإن الجماعة إما شرط لا تصح الصلاة بدونها ، وإما واجبة يستحق تاركها العقوبة ، وإن صحت صلاته ، وإما سنة مؤكدة يقاتل تاركها ، وعلى كل تقدير فلا يصح التزام شرط يخل بها .
وكذلك إذا
nindex.php?page=treesubj&link=4260شرط الواقف العزوبية ، وترك التأهل لم يجب الوفاء بهذا الشرط بل ولا التزامه ، بل من التزمه رغبة عن السنة فليس من الله ورسوله في شيء ; فإن النكاح عند الحاجة إليه إما فرض يعصي تاركه ، وإما سنة الاشتغال بها أفضل من صيام النهار وقيام الليل وسائر أوراد التطوعات ، وإما سنة يثاب فاعلها كما يثاب فاعل السنن والمندوبات ، وعلى كل تقدير فلا يجوز اشتراط تعطيله أو تركه ; إذ يصير مضمون هذا الشرط أنه لا يستحق تناول الوقف إلا من عطل ما فرض الله عليه وخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن فعل ما فرضه الله عليه وقام بالسنة لم يحل له أن يتناول من هذا الوقف شيئا ، ولا يخفى ما في التزام هذا الشرط والإلزام به من مضادة الله ورسوله ، وهو أقبح من اشتراطه ترك الوتر والسنن الراتبة ، وصيام الخميس والاثنين والتطوع بالليل ، بل أقبح من اشتراطه ترك ذكر الله بكرة وعشيا ونحو ذلك ، ومن هذا
nindex.php?page=treesubj&link=24594_1347_4260_4243اشتراطه أن يصلي الصلوات في التربة المدفون بها ويدع المسجد ، وهذا أيضا مضاد لدين الإسلام أعظم مضادة ; فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المتخذين قبور أنبيائهم مساجد ،
nindex.php?page=treesubj&link=1347_4260فالصلاة في المقبرة معصية لله ورسوله ، باطلة عند كثير من أهل العلم لا يقبلها الله ولا تبرأ الذمة بفعلها ، فكيف يجوز التزام شرط الواقف لها ، وتعطيل شرط الله ورسوله ؟ فهذا تغيير الدين لولا أن الله سبحانه يقيم له من يبين أعلامه ويدعو إليه .
ومن ذلك اشتراط إيقاد سراج أو قنديل على القبر ; فلا يحل للواقف اشتراط ذلك ، ولا للحاكم تنفيذه ، ولا للمفتي تسويغه ، ولا للموقوف عليه فعله والتزامه ، فقد لعن رسول
[ ص: 139 ] الله صلى الله عليه وسلم المتخذين السرج على القبور ، فكيف يحل للمسلم أن يلزم أو يسوغ فعل ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله ؟ وحضرت بعض قضاة الإسلام يوما وقد جاءه كتاب وقف على تربة ; ليثبته ، وفيه : " وأنه يوقد على القبر كل ليلة قنديل " فقلت له : كيف يحل لك أن تثبت هذا الكتاب وتحكم بصحته مع علمك بلعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتخذين السرج على القبور ؟ فأمسك عن إثباته وقال : الأمر كما قلت ، أو كما قال .
ومن ذلك أن
nindex.php?page=treesubj&link=4260يشترط القراءة عند قبره دون البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال ، والناس لهم قولان : أحدهما : أن القراءة لا تصل إلى الميت ، فلا فرق بين أن يقرأ عند القبر أو بعيدا منه عند هؤلاء ، والثاني : أنها تصل ووصولها فرع حصول الصواب للقارئ ، ثم ينتقل منه إلى الميت ، فإذا كانت قراءة القارئ ومجيئه إلى القبر إنما هو لأجل الجعل [ و ] لم يقصد به التقرب إلى الله لم يحصل له ثواب ، فكيف ينتقل عنه إلى الميت وهو فرعه ؟ فما زاد بمجيئه إلى التربة إلا العناء والتعب ، بخلاف ما إذا قرأ لله في المسجد أو غيره في مكان يكون أسهل عليه وأعظم لإخلاصه ثم جعل ثواب ذلك للميت وصل إليه .
وذاكرت مرة بهذا المعنى بعض الفضلاء ، فاعترف به ، وقال : لكن بقي شيء آخر ، وهو أن الواقف قد يكون قصد انتفاعه بسماع القرآن على قبره ، ووصول بركة ذلك إليه ، فقلت له : انتفاعه بسماع القرآن مشروط بحياته ، فلما مات انقطع عمله كله .
واستماع القرآن من أفضل الأعمال الصالحة ، وقد انقطع بموته ، ولو كان ذلك ممكنا لكان السلف الطيب من الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم أولى بهذا الحظ العظيم ; لمسارعتهم إلى الخير وحرصهم عليه ، ولو كان خيرا لسبقونا إليه فالذي لا شك فيه أنه لا يجب حضور التربة ، ولا تتعين
nindex.php?page=treesubj&link=18631_4260القراءة عند القبر .
ونظير هذا ما لو
nindex.php?page=treesubj&link=4260وقف وقفا يتصدق به عند القبر كما يفعل كثير من الجهال ; فإن في ذلك من تعنية الفقير وإتعابه وإزعاجه من موضعه إلى الجبانة في حال الحر والبرد والضعف حتى يأخذ تلك الصدقة عند القبر مما لعله أن يحبط أجرها ، ويمنع انعقاده بالكلية .
ومن هذا لو
nindex.php?page=treesubj&link=4260شرط واقف الخانقاه وغيرها على أهلها أن لا يشتغلوا بكتابة العلم وسماع الحديث والاشتغال بالفقه ; فإن هذا شرط باطل مضاد لدين الإسلام ، لا يحل تنفيذه ولا التزامه ، ولا يستحق من قام به شيئا من هذا الوقف ; فإن مضمون هذا الشرط أن الوقف
[ ص: 140 ] المعين إنما يستحقه من ترك ما يجب عليه من العلم النافع ، وجهل أمر الله ورسوله ودينه ، وجهل أسماءه وصفاته وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأحكام الثواب والعقاب ، ولا ريب أن هذا الصنف من شرار خلق الله ، وأمقتهم عند الله ورسوله ، وهم خاصة الشيطان وأولياؤه وحزبه {
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=19ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون }
ومن ذلك أن
nindex.php?page=treesubj&link=4260يشترط الواقف أن لا يقرأ في ذلك المكان شيء من آيات الصفات وأحاديث الصفات ، كما أمر به بعض أعداء الله من
الجهمية لبعض الملوك ، وقد وقف مسجدا لله تعالى ، ومضمون هذا الشرط المضاد لما بعث الله به رسوله أن يعطل أكثر آيات القرآن عن التلاوة والتدبر والتفهم ، وكثيرا من السنة أو أكثرها عن أن تذكر أو تروى أو تسمع أو يهتدى بها ، ويقام سوق التجهم والكلام المبتدع المذموم الذي هو كفيل بالبدع والضلالة والشك والحيرة .
ومن ذلك أيضا أن
nindex.php?page=treesubj&link=4260يقف مكانا أو مسجدا أو مدرسة أو رباطا على طائفة معينة من الناس دون غيرهم ،
كالعجم مثلا أو
الروم أو
الترك أو غيرهم ، وهذا من أبطل الشروط ; فإن مضمونه أن أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذرية
المهاجرين والأنصار لا يحل لهم أن يصلوا في هذا المسجد ، ولا ينزلوا في هذا الرباط أو المدرسة أو الخانقاه ، بل لو أمكن أن يكون
أبو بكر nindex.php?page=showalam&ids=2وعمر وأهل
بدر وأهل بيعة الرضوان رضي الله عنهم بين أظهرنا حرم عليهم النزول بهذا المكان الموقوف .
وهذه الشروط والاشتغال بها والاعتداد بها من أسمج الهذيان ، ولا تصدر من قلب طاهر ، ولا ينفذها من شم روائح العلم الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم .
وكذلك لو
nindex.php?page=treesubj&link=4260شرط أن يكون المقيمون بهذه الأمكنة طائفة من أهل البدع كالشيعة والخوارج والمعتزلة والجهمية والمبتدعين في أعمالهم كأصحاب الإشارات والإذن والشير والعنبر وأكل الحيات وأصحاب النار ، وأشباه الذئاب المشتغلين بالأكل والشرب والرقص ، ولم يصح هذا الشرط ، وكان غيرهم أحق بالمكان منهم ، وشروط الله أحق .
فهذه الشروط وأضعافها وأضعاف أضعافها من باب التعاون على الإثم والعدوان ، والله تعالى إنما أمر بالتعاون على البر والتقوى ، وهو ما شرعه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دون ما لم يشرعه ، فكيف بما شرع خلافه ، والوقف إنما يصح على القرب والطاعات ، ولا فرق في ذلك بين مصرفه وجهته وشرطه ; فإن الشرط صفة وحال في الجهة والمصرف ، فإذا اشترط أن يكون المصرف قربة وطاعة فالشرط كذلك ، ولا يقتضي الفقه إلا هذا ، ولا يمكن
[ ص: 141 ] أحد أن ينقل عن أئمة الإسلام الذين لهم في الأمة لسان صدق ما يخالف ذلك ألبتة ، بل نشهد بالله والله أن الأئمة لا تخالف ما ذكرناه ، وأن هذا نفس قولهم ، وقد أعاذهم الله من غيره ، وإنما يقع الغلط من كثير من المنتسبين إليهم في فهم أقوالهم ، كما وقع لبعض من نصب نفسه للفتوى من أهل عصرنا .
ما تقول السادة الفقهاء في رجل وقف وقفا على
أهل الذمة ، هل يصح ويتقيد الاستحقاق بكونه منهم ؟ فأجاب بصحة الوقف ، وتقييد الاستحقاق بذلك الوصف ، وقال : هكذا قال أصحابنا ، ويصح
nindex.php?page=treesubj&link=4262_4314_4260الوقف على أهل الذمة ، فأنكر ذلك
شيخنا عليه غاية الإنكار ، وقال : مقصود الفقهاء بذلك أن كونه من
أهل الذمة ليس مانعا من صحة الوقف عليه بالقرابة أو بالتعيين ، وليس مقصودهم أن الكفر بالله ورسوله أو عبادة الصليب ، وقولهم إن
المسيح ابن الله شرط لاستحقاق الوقف ، حتى إن من آمن بالله ورسوله واتبع دين الإسلام ولم يحل له أن يتناول بعد ذلك من الوقف ، فيكون حل تناوله مشروطا بتكذيب الله ورسوله ، والكفر بدين الإسلام ، ففرق بين كون وصف الذمة مانعا من صحة الوقف ، وبين كونه مقتضيا ; فغلظ طبع هذا الفتى ، وكثف فهمه ، وغلظ حجابه عن ذلك ولم يميز .
ونظير هذا أن يقف على الأغنياء ، فهذا يصح إذا
nindex.php?page=treesubj&link=4262_4314_4260كان الموقوف عليه غنيا أو ذا قرابة فلا يكون الغنى مانعا ، ولا يصح أن يكون جهة الاستحقاق هو الغنى ، فيستحق ما دام غنيا ، فإذا افتقر واضطر إلى ما يقيم أوده حرم عليه تناول الوقف ، فهذا لا يقوله إلا من حرم التوفيق وصحبه الخذلان ، ولو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من الأئمة يفعل ذلك لاشتد إنكاره وغضبه عليه ، ولما أقره ألبتة ، وكذلك لو رأى رجلا من أمته قد وقف على من يكون من الرجال عزبا غير متأهل ، فإذا تأهل حرم عليه تناول الوقف لاشتد غضبه ونكيره عليه ، بل دينه يخالف هذا ، فإنه كان إذا جاءه مال أعطى العزب حظا ، وأعطى الآهل حظين ، وأخبر أن ثلاثة على الله عونهم ، فذكر منهم الناكح يريد العفاف ، وملتزم هذا الشرط حق عليه عدم إعانة الناكح .
ومن هذا أن يشترط أنه لا يستحق الوقف إلا من ترك الواجب عليه من طلب النصوص ومعرفتها ، والتفقه في متونها ، والتمسك بها ، إلى الأخذ بقول فقيه معين يترك لقوله قول من سواه ، بل يترك النصوص لقوله ، فهذا شرط من أبطل الشروط ، وقد صرح أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد رحمهما الله تعالى بأن
nindex.php?page=treesubj&link=15130_4260الإمام إذا شرط على القاضي أن لا يقضي إلا بمذهب معين بطل الشرط ولم يجز له التزامه .
وفي بطلان التولية قولان مبنيان على بطلان العقود بالشروط الفاسدة ، وطرد هذا أن المفتي من شرط عليه ألا يفتي إلا بمذهب معين بطل الشرط ،
[ ص: 142 ] وطرده أيضا أن الواقف متى شرط على الفقيه أن لا ينظر ولا يشتغل إلا بمذهب معين بحيث يهجر له كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفتاوى الصحابة ومذاهب العلماء ; لم يصح هذا الشرط قطعا ، ولا يجب التزامه ، بل ولا يسوغ .
وعقد هذا الباب وضابطه أن المقصود إنما هو التعاون على البر والتقوى ، وأن يطاع الله ورسوله بحسب الإمكان ، وأن يقدم من قدمه الله ورسوله ، ويؤخر من أخره الله ورسوله ، [ ويعتبر ما اعتبره الله ورسوله ، ويلغى ما ألغاه الله ورسوله ] ، وشروط الواقفين لا تزيد على نذر الناذرين ، فكما أنه لا يوفي من النذور إلا بما كان طاعة لله ورسوله فلا يلزم من شروط الواقفين إلا ما كان طاعة الله ورسوله .
فإن قيل : الواقف إنما نقل ماله لمن قام بهذه الصفة ، فهو الذي رضي بنقل ماله إليه ، ولم يرض بنقله إلى غيره ، وإن كان أفضل منه ، فالوقف يجري مجرى الجعالة ، فإذا بذل الجاعل ماله لمن يعمل عملا لم يستحقه من عمل غيره ، وإن كان بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض .
قيل : هذا منشأ الوهم والإيهام في هذه المسألة ، وهو الذي قام بقلوب ضعفة المتفقهين ، فالتزموا ، وألزموا من الشروط بما غيره أحب إلى الله ، وأرضى له منه بإجماع الأمة بالضرورة المعلومة من الدين .
وجواب هذا الوهم أن الجاعل يبذل ماله في غرضه الذي يريده ، إما محرما أو مكروها أو مباحا أو مستحبا أو واجبا ; لينال غرضه الذي بذل فيه ماله ، وأما الواقف فإنما يبذل ماله فيما يقربه إلى الله وثوابه ، فهو لما علم أنه لم يبق له تمكن من بذل ماله في أغراضه أحب أن يبذله فيما يقربه إلى الله وما هو أنفع له في الدار الآخرة ، ولا يشك عاقل أن هذا غرض الواقفين ، بل ولا يشك واقف أن هذا غرضه ، والله سبحانه وتعالى ملكه المال ; لينتفع به في حياته ، وأذن له أن يحبسه ; لينتفع به بعد وفاته ، فلم يملكه أن يفعل به بعد موته ما كان يفعل به في حياته ، بل حجر عليه فيه ، وملكه ثلثه يوصي به بما يجوز ويسوغ أن يوصي به ، حتى إن حاف أو جار أو أثم في وصيته جاز بل وجب على الوصي والورثة رد ذلك الجور والحيف والإثم ، ورفع سبحانه الإثم عمن يرد ذلك الحيف والإثم ، من الورثة والأوصياء ، فهو سبحانه لم يملكه أن يتصرف في تحبيس ماله بعده إلا على وجه يقربه إليه ، ويدنيه من رضاه ، لا على أي وجه أراد ، ولم يأذن الله ولا رسوله للمكلف أن يتصرف في تحبيس ماله بعده على أي وجه أراده أبدا .
فأين في كلام الله ورسوله أو أحد من الصحابة ما يدل على أن
[ ص: 143 ] لصاحب المال أن يقف ما أراد على من أراد ، ويشرط ما أراد ، ويجب على الحكام والمفتين أن ينفذوا وقفه ، ويلزموا بشروطه ، وأما ما قد لهج به بعضهم من قوله " شروط الواقف كنصوص الشارع " فهذا يراد به معنى صحيح ومعنى باطل ، فإن أريد أنها كنصوص الشارع في الفهم والدلالة وتقييد مطلقها بمقيدها وتقديم خاصها على عامها ، والأخذ فيها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ; فهذا حق من حيث الجملة ، وإن أريد أنها كنصوص الشارع في وجوب مراعاتها والتزامها وتنفيذها فهذا من أبطل الباطل ، بل يبطل منها ما لم يكن طاعة لله ورسوله ، وما غيره أحب إلى الله وأرضى له ولرسوله منه ، وينفذ منها ما كان قربة وطاعة كما تقدم .
ولما نذر
أبو إسرائيل أن يصوم ويقوم في الشمس ، ولا يجلس ، ولا يتكلم ، أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس في الظل ويتكلم ويتم صومه ، فألزمه بالوفاء بالطاعة ، ونهاه عن الوفاء بما ليس بطاعة .
وهكذا أخت
nindex.php?page=showalam&ids=27عقبة بن عامر لما
nindex.php?page=treesubj&link=4181_4172_4260نذرت الحج ماشية مكشوفة الرأس أمرها أن تختمر وتركب وتحج وتهدي بدنة ، فهكذا الواجب على أتباع الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أن يعتمدوا في شروط الواقفين ، وبالله التوفيق .
[
nindex.php?page=treesubj&link=4260_4243_24816الْإِفْتَاءُ فِي شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ ] الْفَائِدَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ :
إذَا
nindex.php?page=treesubj&link=4243_4260سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِيهَا شَرْطٌ وَاقِفٌ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ بِالْعَمَلِ بِهِ ، بَلْ وَلَا يُسَوِّغُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، حَتَّى يَنْظُرَ فِي ذَلِكَ الشَّرْطِ ، فَإِنْ كَانَ يُخَالِفُ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا حُرْمَةَ لَهُ ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ تَنْفِيذُهُ ، وَلَا يَسُوغُ تَنْفِيذُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُخَالِفْ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلْيَنْظُرْ : هَلْ فِيهِ قُرْبَةٌ أَوْ رُجْحَانٌ عِنْدَ الشَّارِعِ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قُرْبَةٌ ، وَلَا رُجْحَانٌ لَمْ يَجِبْ الْتِزَامُهُ ، وَلَمْ يُحَرَّمْ ، فَلَا تَضُرُّ مُخَالَفَتُهُ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ قُرْبَةٌ وَهُوَ رَاجِحٌ عَلَى خِلَافِهِ فَلْيَنْظُرْ : هَلْ يَفُوتُ بِالْتِزَامِهِ وَالتَّقْيِيدِ بِهِ مَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَرْضَى لَهُ وَأَنْفَعُ لِلْمُكَلَّفِ وَأَعْظَمُ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الْوَاقِفِ مِنْ الْأَجْرِ ؟ فَإِنْ فَاتَ ذَلِكَ بِالْتِزَامِهِ لَمْ يَجِبْ الْتِزَامُهُ وَلَا التَّقْيِيدُ بِهِ قَطْعًا ، وَجَازَ الْعُدُولُ بَلْ يُسْتَحَبُّ إلَى مَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفَعُ لِلْمُكَلَّفِ وَأَكْثَرُ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الْوَاقِفِ ، وَفِي جَوَازِ الْتِزَامِ شَرْطِ الْوَاقِفِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ تَفْصِيلٌ سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَإِنْ كَانَ فِي قُرْبَةٍ وَطَاعَةٍ وَلَمْ يَفُتْ بِالْتِزَامِهِ مَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُ وَتَسَاوَى هُوَ وَغَيْرُهُ فِي تِلْكَ الْقُرْبَةِ ، وَيَحْصُلُ غَرَضُ الْوَاقِفِ بِحَيْثُ يَكُونُ هُوَ وَغَيْرُهُ طَرِيقِينَ مُوَصِّلَيْنِ إلَى مَقْصُودِهِ وَمَقْصُودِ الشَّارِعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْتِزَامُ الشَّرْطِ ،
[ ص: 138 ] بَلْ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى مَا هُوَ أَسْهَلُ عَلَيْهِ ، وَأَرْفَقُ بِهِ ، وَإِنْ تَرَجَّحَ مُوجِبُ الشَّرْطِ وَكَانَ قَصْدُ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ فِيهِ أَظْهَرَ وَجَبَ الْتِزَامُهُ .
فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْكُلِّيُّ فِي شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ ، وَمَا يَجِبُ الْتِزَامُهُ مِنْهَا ، وَمَا يَسُوغُ ، وَمَا لَا يَجِبُ ، وَمَنْ سَلَكَ غَيْرَ هَذَا الْمَسْلَكِ تَنَاقَضَ أَظْهَرَ تَنَاقُضٍ ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ قَدَمٌ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ .
فَإِذَا
nindex.php?page=treesubj&link=4260شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَلَوْ كَانَ وَحْدَهُ ، وَإِلَى جَانِبِهِ الْمَسْجِدُ الْأَعْظَمُ وَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهَذَا الشَّرْطِ ، بَلْ وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْتِزَامُهُ إذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ ; فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ إمَّا شَرْطٌ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِهَا ، وَإِمَّا وَاجِبَةٌ يَسْتَحِقُّ تَارِكُهَا الْعُقُوبَةُ ، وَإِنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ ، وَإِمَّا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ يُقَاتَلُ تَارِكُهَا ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُ شَرْطٍ يُخِلُّ بِهَا .
وَكَذَلِكَ إذَا
nindex.php?page=treesubj&link=4260شَرَطَ الْوَاقِفُ الْعُزُوبِيَّةَ ، وَتَرْكَ التَّأَهُّلِ لَمْ يَجِبْ الْوَفَاءُ بِهَذَا الشَّرْطِ بَلْ وَلَا الْتِزَامُهُ ، بَلْ مَنْ الْتَزَمَهُ رَغْبَةً عَنْ السُّنَّةِ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي شَيْءٍ ; فَإِنَّ النِّكَاحَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ إمَّا فَرْضٌ يَعْصِي تَارِكُهُ ، وَإِمَّا سُنَّةٌ الِاشْتِغَالُ بِهَا أَفْضَلُ مِنْ صِيَامِ النَّهَارِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ وَسَائِرِ أَوْرَادِ التَّطَوُّعَاتِ ، وَإِمَّا سُنَّةٌ يُثَابُ فَاعِلُهَا كَمَا يُثَابُ فَاعِلُ السُّنَنِ وَالْمَنْدُوبَاتِ ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ تَعْطِيلِهِ أَوْ تَرْكِهِ ; إذْ يَصِيرُ مَضْمُونُ هَذَا الشَّرْطِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ تَنَاوُلَ الْوَقْفِ إلَّا مَنْ عَطَّلَ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَخَالَفَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمَنْ فَعَلَ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَقَامَ بِالسُّنَّةِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ هَذَا الْوَقْفِ شَيْئًا ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي الْتِزَامِ هَذَا الشَّرْطِ وَالْإِلْزَامِ بِهِ مِنْ مُضَادَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَهُوَ أَقْبَحُ مِنْ اشْتِرَاطِهِ تَرْكَ الْوِتْرِ وَالسُّنَنِ الرَّاتِبَةِ ، وَصِيَامِ الْخَمِيسِ وَالِاثْنَيْنِ وَالتَّطَوُّعِ بِاللَّيْلِ ، بَلْ أَقْبَحُ مِنْ اشْتِرَاطِهِ تَرْكِ ذِكْرِ اللَّهِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا وَنَحْوُ ذَلِكَ ، وَمِنْ هَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=24594_1347_4260_4243اشْتِرَاطُهُ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ فِي التُّرْبَةِ الْمَدْفُونِ بِهَا وَيَدَعَ الْمَسْجِدَ ، وَهَذَا أَيْضًا مُضَادٌّ لِدِينِ الْإِسْلَامِ أَعْظَمَ مُضَادَّةٍ ; فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنْ الْمُتَّخِذِينَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ ،
nindex.php?page=treesubj&link=1347_4260فَالصَّلَاةُ فِي الْمَقْبَرَةِ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ، بَاطِلَةٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَقْبَلُهَا اللَّهُ وَلَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ بِفِعْلِهَا ، فَكَيْفَ يَجُوزُ الْتِزَامُ شَرْطِ الْوَاقِفِ لَهَا ، وَتَعْطِيلُ شَرْطِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؟ فَهَذَا تَغْيِيرُ الدِّينِ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُقِيمُ لَهُ مِنْ يُبَيِّنُ أَعْلَامَهُ وَيَدْعُو إلَيْهِ .
وَمِنْ ذَلِكَ اشْتِرَاطُ إيقَادِ سِرَاجٍ أَوْ قِنْدِيلٍ عَلَى الْقَبْرِ ; فَلَا يَحِلُّ لِلْوَاقِفِ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ ، وَلَا لِلْحَاكِمِ تَنْفِيذُهُ ، وَلَا لِلْمُفْتِي تَسْوِيغُهُ ، وَلَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فِعْلُهُ وَالْتِزَامُهُ ، فَقَدْ لَعَنْ رَسُولُ
[ ص: 139 ] اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَّخِذِينَ السُّرُجَ عَلَى الْقُبُورِ ، فَكَيْفَ يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُلْزِمَ أَوْ يُسَوِّغَ فِعْلَ مَا لَعَنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعِلَهُ ؟ وَحَضَرْتُ بَعْضَ قُضَاةِ الْإِسْلَامِ يَوْمًا وَقَدْ جَاءَهُ كِتَابٌ وُقِفَ عَلَى تُرْبَةٍ ; لِيُثْبِتَهُ ، وَفِيهِ : " وَأَنَّهُ يُوقَدُ عَلَى الْقَبْرِ كُلَّ لَيْلَةٍ قِنْدِيلٌ " فَقُلْت لَهُ : كَيْفَ يَحِلُّ لَك أَنْ تُثْبِتَ هَذَا الْكِتَابَ وَتَحْكُمَ بِصِحَّتِهِ مَعَ عِلْمِك بِلَعْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُتَّخِذِينَ السُّرُجَ عَلَى الْقُبُورِ ؟ فَأَمْسَكَ عَنْ إثْبَاتِهِ وَقَالَ : الْأَمْرُ كَمَا قُلْت ، أَوْ كَمَا قَالَ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=4260يَشْتَرِطَ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ قَبْرِهِ دُونَ الْبُيُوتِ الَّتِي أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ، وَالنَّاسُ لَهُمْ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقِرَاءَةَ لَا تَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْرَأَ عِنْدَ الْقَبْرِ أَوْ بَعِيدًا مِنْهُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ ، وَالثَّانِي : أَنَّهَا تَصِلُ وَوُصُولُهَا فَرْعُ حُصُولِ الصَّوَابِ لِلْقَارِئِ ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْهُ إلَى الْمَيِّتِ ، فَإِذَا كَانَتْ قِرَاءَةُ الْقَارِئِ وَمَجِيئُهُ إلَى الْقَبْرِ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الْجُعْلِ [ وَ ] لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ثَوَابٌ ، فَكَيْفَ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إلَى الْمَيِّتِ وَهُوَ فَرْعُهُ ؟ فَمَا زَادَ بِمَجِيئِهِ إلَى التُّرْبَةِ إلَّا الْعَنَاءُ وَالتَّعَبُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَرَأَ لِلَّهِ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ فِي مَكَان يَكُونُ أَسْهَلَ عَلَيْهِ وَأَعْظَمَ لِإِخْلَاصِهِ ثُمَّ جَعَلَ ثَوَابَ ذَلِكَ لِلْمَيِّتِ وَصَلَ إلَيْهِ .
وَذَاكَرْت مَرَّةً بِهَذَا الْمَعْنَى بَعْضَ الْفُضَلَاءِ ، فَاعْتَرَفَ بِهِ ، وَقَالَ : لَكِنْ بَقِيَ شَيْءٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاقِفَ قَدْ يَكُونُ قَصَدَ انْتِفَاعَهُ بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ عَلَى قَبْرِهِ ، وَوُصُولِ بَرَكَةِ ذَلِكَ إلَيْهِ ، فَقُلْت لَهُ : انْتِفَاعُهُ بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ مَشْرُوطٌ بِحَيَاتِهِ ، فَلَمَّا مَاتَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ كُلُّهُ .
وَاسْتِمَاعُ الْقُرْآنِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، وَقَدْ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا لَكَانَ السَّلَفُ الطَّيِّبُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَوْلَى بِهَذَا الْحَظِّ الْعَظِيمِ ; لِمُسَارَعَتِهِمْ إلَى الْخَيْرِ وَحِرْصِهِمْ عَلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ خَيْرًا لَسَبَقُونَا إلَيْهِ فَاَلَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ حُضُورُ التُّرْبَةِ ، وَلَا تَتَعَيَّنُ
nindex.php?page=treesubj&link=18631_4260الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ .
وَنَظِيرُ هَذَا مَا لَوْ
nindex.php?page=treesubj&link=4260وَقَفَ وَقْفًا يَتَصَدَّقُ بِهِ عِنْدَ الْقَبْرِ كَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِنْ الْجُهَّالِ ; فَإِنْ فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْنِيَةِ الْفَقِيرِ وَإِتْعَابِهِ وَإِزْعَاجِهِ مِنْ مَوْضِعِهِ إلَى الْجَبَّانَةِ فِي حَالِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالضَّعْفِ حَتَّى يَأْخُذَ تِلْكَ الصَّدَقَةَ عِنْدَ الْقَبْرِ مِمَّا لَعَلَّهُ أَنْ يُحْبِطَ أَجْرَهَا ، وَيَمْنَعَ انْعِقَادَهُ بِالْكُلِّيَّةِ .
وَمِنْ هَذَا لَوْ
nindex.php?page=treesubj&link=4260شَرَطَ وَاقِفُ الْخَانْقَاهْ وَغَيْرِهَا عَلَى أَهْلِهَا أَنْ لَا يَشْتَغِلُوا بِكِتَابَةِ الْعِلْمِ وَسَمَاعِ الْحَدِيثِ وَالِاشْتِغَالِ بِالْفِقْهِ ; فَإِنَّ هَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ مُضَادٌّ لِدِينِ الْإِسْلَامِ ، لَا يَحِلُّ تَنْفِيذُهُ وَلَا الْتِزَامُهُ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ مَنْ قَامَ بِهِ شَيْئًا مِنْ هَذَا الْوَقْفِ ; فَإِنَّ مَضْمُونَ هَذَا الشَّرْطِ أَنَّ الْوَقْفَ
[ ص: 140 ] الْمُعَيَّنَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ تَرَكَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْعِلْمِ النَّافِعِ ، وَجَهِلَ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَدِينِهِ ، وَجَهِلَ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْكَامَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الصِّنْفَ مِنْ شِرَارِ خَلْقِ اللَّهِ ، وَأَمْقَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَهُمْ خَاصَّةُ الشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَاؤُهُ وَحِزْبُهُ {
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=19أَلَا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ }
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=4260يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ أَنْ لَا يُقْرَأَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ شَيْءٌ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ ، كَمَا أَمَرَ بِهِ بَعْضُ أَعْدَاءِ اللَّهِ مِنْ
الْجَهْمِيَّةِ لِبَعْضِ الْمُلُوكِ ، وَقَدْ وَقَفَ مَسْجِدًا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَمَضْمُونُ هَذَا الشَّرْطِ الْمُضَادِّ لِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ أَنْ يُعَطِّلَ أَكْثَرَ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَنْ التِّلَاوَةِ وَالتَّدَبُّرِ وَالْتَفَّهُمْ ، وَكَثِيرًا مِنْ السُّنَّةِ أَوْ أَكْثَرَهَا عَنْ أَنْ تُذْكَرَ أَوْ تُرْوَى أَوْ تُسْمَعَ أَوْ يُهْتَدَى بِهَا ، وَيُقَامُ سُوقُ التَّجَهُّمِ وَالْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ الْمَذْمُومِ الَّذِي هُوَ كَفِيلٌ بِالْبِدَعِ وَالضَّلَالَةِ وَالشَّكِّ وَالْحَيْرَةِ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=4260يَقِفَ مَكَانًا أَوْ مَسْجِدًا أَوْ مَدْرَسَةً أَوْ رِبَاطًا عَلَى طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ النَّاسِ دُونَ غَيْرِهِمْ ،
كَالْعَجَمِ مَثَلًا أَوْ
الرُّومِ أَوْ
التُّرْكِ أَوْ غَيْرِهِمْ ، وَهَذَا مِنْ أَبْطَلْ الشُّرُوطِ ; فَإِنَّ مَضْمُونَهُ أَنَّ أَقَارِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذُرِّيَّةَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فِي هَذَا الْمَسْجِدِ ، وَلَا يَنْزِلُوا فِي هَذَا الرِّبَاطِ أَوْ الْمَدْرَسَةِ أَوْ الْخَانْقَاهْ ، بَلْ لَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ
أَبُو بَكْرٍ nindex.php?page=showalam&ids=2وَعُمَرُ وَأَهْلُ
بَدْرٍ وَأَهْلُ بَيْعَةِ الرَّضْوَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بَيْنَ أَظْهُرِنَا حَرُمَ عَلَيْهِمْ النُّزُولُ بِهَذَا الْمَكَانِ الْمَوْقُوفِ .
وَهَذِهِ الشُّرُوطُ وَالِاشْتِغَالُ بِهَا وَالِاعْتِدَادُ بِهَا مِنْ أَسْمَجِ الْهَذَيَانِ ، وَلَا تَصْدُرُ مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ ، وَلَا يُنَفِّذُهَا مَنْ شَمَّ رَوَائِحَ الْعِلْمِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ
nindex.php?page=treesubj&link=4260شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْمُقِيمُونَ بِهَذِهِ الْأَمْكِنَةِ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ كَالشِّيعَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْمُبْتَدَعِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ كَأَصْحَابِ الْإِشَارَاتِ وَالْإِذْنِ وَالشَّيِّرِ وَالْعَنْبَرِ وَأَكْلِ الْحَيَّاتِ وَأَصْحَابِ النَّارِ ، وَأَشْبَاهِ الذِّئَابِ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالرَّقْصِ ، وَلَمْ يَصِحَّ هَذَا الشَّرْطُ ، وَكَانَ غَيْرُهُمْ أَحَقَّ بِالْمَكَانِ مِنْهُمْ ، وَشُرُوطُ اللَّهِ أَحَقُّ .
فَهَذِهِ الشُّرُوطُ وَأَضْعَافُهَا وَأَضْعَافُ أَضْعَافِهَا مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، وَهُوَ مَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، دُونَ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ ، فَكَيْفَ بِمَا شَرَعَ خِلَافَهُ ، وَالْوَقْفُ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى الْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَصْرِفِهِ وَجِهَتِهِ وَشَرْطِهِ ; فَإِنَّ الشَّرْطَ صِفَةٌ وَحَالٌ فِي الْجِهَةِ وَالْمَصْرِفِ ، فَإِذَا اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْمَصْرِفُ قُرْبَةً وَطَاعَةً فَالشَّرْطُ كَذَلِكَ ، وَلَا يَقْتَضِي الْفِقْهُ إلَّا هَذَا ، وَلَا يُمْكِنُ
[ ص: 141 ] أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ لَهُمْ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ ، بَلْ نَشْهَدُ بِاَللَّهِ وَاَللَّهِ أَنَّ الْأَئِمَّةَ لَا تُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَأَنَّ هَذَا نَفْسُ قَوْلِهِمْ ، وَقَدْ أَعَاذَهُمْ اللَّهُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الْغَلَطُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِمْ فِي فَهْمِ أَقْوَالِهِمْ ، كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ مَنْ نَصَّبَ نَفْسَهُ لِلْفَتْوَى مِنْ أَهْلِ عَصْرِنَا .
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْفُقَهَاءُ فِي رَجُلٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى
أَهْلِ الذِّمَّةِ ، هَلْ يَصِحُّ وَيَتَقَيَّدُ الِاسْتِحْقَاقُ بِكَوْنِهِ مِنْهُمْ ؟ فَأَجَابَ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ ، وَتَقْيِيدِ الِاسْتِحْقَاقِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ ، وَقَالَ : هَكَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا ، وَيَصِحُّ
nindex.php?page=treesubj&link=4262_4314_4260الْوَقْفُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ
شَيْخُنَا عَلَيْهِ غَايَةَ الْإِنْكَارِ ، وَقَالَ : مَقْصُودُ الْفُقَهَاءِ بِذَلِكَ أَنَّ كَوْنَهُ مِنْ
أَهْلِ الذِّمَّةِ لَيْسَ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الْوَقْفِ عَلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ أَوْ بِالتَّعْيِينِ ، وَلَيْسَ مَقْصُودُهُمْ أَنَّ الْكُفْرَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْ عِبَادَةَ الصَّلِيبِ ، وَقَوْلَهُمْ إنَّ
الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ شَرْطٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْوَقْفِ ، حَتَّى إنَّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّبَعَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْوَقْفِ ، فَيَكُونُ حِلُّ تَنَاوُلِهِ مَشْرُوطًا بِتَكْذِيبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَالْكُفْرِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ ، فَفَرَّقَ بَيْنَ كَوْنِ وَصْفِ الذِّمَّةِ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الْوَقْفِ ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُقْتَضِيًا ; فَغَلُظَ طَبْعُ هَذَا الْفَتَى ، وَكَثُفَ فَهْمُهُ ، وَغَلُظَ حِجَابُهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُمَيِّزْ .
وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يَقِفَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ ، فَهَذَا يَصِحُّ إذَا
nindex.php?page=treesubj&link=4262_4314_4260كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ غَنِيًّا أَوْ ذَا قَرَابَةٍ فَلَا يَكُونُ الْغِنَى مَانِعًا ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جِهَةُ الِاسْتِحْقَاقِ هُوَ الْغِنَى ، فَيَسْتَحِقُّ مَا دَامَ غَنِيًّا ، فَإِذَا افْتَقَرَ وَاضْطَرَّ إلَى مَا يُقِيمُ أَوَدَهُ حَرُمَ عَلَيْهِ تَنَاوُلُ الْوَقْفِ ، فَهَذَا لَا يَقُولُهُ إلَّا مَنْ حُرِمَ التَّوْفِيقَ وَصَحِبَهُ الْخِذْلَانُ ، وَلَوْ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَاشْتَدَّ إنْكَارُهُ وَغَضَبُهُ عَلَيْهِ ، وَلَمَا أَقَرَّهُ أَلْبَتَّةَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَى رَجُلًا مِنْ أُمَّتِهِ قَدْ وَقَفَ عَلَى مَنْ يَكُونُ مِنْ الرِّجَالِ عَزَبًا غَيْرَ مُتَأَهِّلٍ ، فَإِذَا تَأَهَّلَ حَرَّمَ عَلَيْهِ تَنَاوُلَ الْوَقْفِ لَاشْتَدَّ غَضَبُهُ وَنَكِيرُهُ عَلَيْهِ ، بَلْ دِينُهُ يُخَالِفُ هَذَا ، فَإِنَّهُ كَانَ إذَا جَاءَهُ مَالٌ أَعْطَى الْعَزَبَ حَظًّا ، وَأَعْطَى الْآهِلَ حَظَّيْنِ ، وَأَخْبَرَ أَنَّ ثَلَاثَةً عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ ، فَذَكَرَ مِنْهُمْ النَّاكِحُ يُرِيدُ الْعَفَافَ ، وَمُلْتَزِمُ هَذَا الشَّرْطِ حَقٌّ عَلَيْهِ عَدَمُ إعَانَةِ النَّاكِحِ .
وَمِنْ هَذَا أَنْ يَشْتَرِطَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْوَقْفَ إلَّا مَنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ مِنْ طَلَبِ النُّصُوصِ وَمَعْرِفَتِهَا ، وَالتَّفَقُّهِ فِي مُتُونِهَا ، وَالتَّمَسُّكِ بِهَا ، إلَى الْأَخْذِ بِقَوْلِ فَقِيهٍ مُعَيَّنٍ يَتْرُكُ لِقَوْلِهِ قَوْلَ مَنْ سِوَاهُ ، بَلْ يَتْرُكُ النُّصُوصَ لِقَوْلِهِ ، فَهَذَا شَرْطٌ مِنْ أَبْطَلْ الشُّرُوطِ ، وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ nindex.php?page=showalam&ids=12251وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=15130_4260الْإِمَامَ إذَا شَرَطَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ لَا يَقْضِيَ إلَّا بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ بَطَلَ الشَّرْطُ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْتِزَامُهُ .
وَفِي بُطْلَانِ التَّوْلِيَةِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى بُطْلَانِ الْعُقُودِ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ، وَطَرْدُ هَذَا أَنَّ الْمُفْتِيَ مَنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَلَا يُفْتِيَ إلَّا بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ بَطَلَ الشَّرْطُ ،
[ ص: 142 ] وَطَرْدُهُ أَيْضًا أَنَّ الْوَاقِفَ مَتَى شَرَطَ عَلَى الْفَقِيهِ أَنْ لَا يَنْظُرَ وَلَا يَشْتَغِلَ إلَّا بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ بِحَيْثُ يَهْجُرُ لَهُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفَتَاوَى الصَّحَابَةِ وَمَذَاهِبَ الْعُلَمَاءِ ; لَمْ يَصِحَّ هَذَا الشَّرْطُ قَطْعًا ، وَلَا يَجِبُ الْتِزَامُهُ ، بَلْ وَلَا يَسُوغُ .
وَعَقْدُ هَذَا الْبَابِ وَضَابِطُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ إنَّمَا هُوَ التَّعَاوُنُ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، وَأَنْ يُطَاعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ، وَأَنْ يُقَدَّمَ مَنْ قَدَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَيُؤَخَّرَ مَنْ أَخَّرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، [ وَيُعْتَبَرَ مَا اعْتَبَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَيُلْغَى مَا أَلْغَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ] ، وَشُرُوطُ الْوَاقِفِينَ لَا تَزِيدُ عَلَى نَذْرِ النَّاذِرِينَ ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا يُوَفِّي مِنْ النُّذُورِ إلَّا بِمَا كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ إلَّا مَا كَانَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْوَاقِفُ إنَّمَا نَقَلَ مَالَهُ لِمَنْ قَامَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، فَهُوَ الَّذِي رَضِيَ بِنَقْلِ مَالِهِ إلَيْهِ ، وَلَمْ يَرْضَ بِنَقْلِهِ إلَى غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ ، فَالْوَقْفُ يَجْرِي مَجْرَى الْجَعَالَةِ ، فَإِذَا بَذَلَ الْجَاعِلُ مَالَهُ لِمَنْ يَعْمَلُ عَمَلًا لَمْ يَسْتَحِقَّهُ مِنْ عَمَلِ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فِي الْفَضْلِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ .
قِيلَ : هَذَا مَنْشَأُ الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَهُوَ الَّذِي قَامَ بِقُلُوبِ ضَعَفَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ ، فَالْتَزَمُوا ، وَأَلْزَمُوا مِنْ الشُّرُوطِ بِمَا غَيْرُهُ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ ، وَأَرْضَى لَهُ مِنْهُ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ بِالضَّرُورَةِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ الدِّينِ .
وَجَوَابُ هَذَا الْوَهْمِ أَنَّ الْجَاعِلَ يَبْذُلُ مَالَهُ فِي غَرَضِهِ الَّذِي يُرِيدُهُ ، إمَّا مُحَرَّمًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا أَوْ مُسْتَحَبًّا أَوْ وَاجِبًا ; لِيَنَالَ غَرَضَهُ الَّذِي بَذَلَ فِيهِ مَالَهُ ، وَأَمَّا الْوَاقِفُ فَإِنَّمَا يَبْذُلُ مَالَهُ فِيمَا يُقَرِّبُهُ إلَى اللَّهِ وَثَوَابِهِ ، فَهُوَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ تَمَكُّنٌ مِنْ بَذْلِ مَالِهِ فِي أَغْرَاضِهِ أَحَبَّ أَنْ يَبْذُلَهُ فِيمَا يُقَرِّبُهُ إلَى اللَّهِ وَمَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ ، وَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ أَنَّ هَذَا غَرَضُ الْوَاقِفِينَ ، بَلْ وَلَا يَشُكُّ وَاقِفٌ أَنَّ هَذَا غَرَضُهُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَلَّكَهُ الْمَالَ ; لِيَنْتَفِعَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ ، وَأَذِنَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ ; لِيَنْتَفِعَ بِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ ، فَلَمْ يُمَلِّكْهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مَا كَانَ يَفْعَلُ بِهِ فِي حَيَاتِهِ ، بَلْ حَجَرَ عَلَيْهِ فِيهِ ، وَمَلَّكَهُ ثُلُثَهُ يُوصِي بِهِ بِمَا يَجُوزُ وَيَسُوغُ أَنْ يُوصِيَ بِهِ ، حَتَّى إنْ حَافَ أَوْ جَارَ أَوْ أَثِمَ فِي وَصِيَّتِهِ جَازَ بَلْ وَجَبَ عَلَى الْوَصِيِّ وَالْوَرَثَةِ رَدُّ ذَلِكَ الْجَوْرِ وَالْحَيْفِ وَالْإِثْمِ ، وَرَفَعَ سُبْحَانَهُ الْإِثْمَ عَمَّنْ يَرُدُّ ذَلِكَ الْحَيْفَ وَالْإِثْمَ ، مِنْ الْوَرَثَةِ وَالْأَوْصِيَاءِ ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُمَلِّكْهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي تَحْبِيسِ مَالِهِ بَعْدَهُ إلَّا عَلَى وَجْهٍ يُقَرِّبُهُ إلَيْهِ ، وَيُدْنِيهِ مِنْ رِضَاهُ ، لَا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَرَادَ ، وَلَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي تَحْبِيسِ مَالِهِ بَعْدَهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَرَادَهُ أَبَدًا .
فَأَيْنَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
[ ص: 143 ] لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَقِفَ مَا أَرَادَ عَلَى مَنْ أَرَادَ ، وَيَشْرُطَ مَا أَرَادَ ، وَيَجِبُ عَلَى الْحُكَّامِ وَالْمُفْتِينَ أَنْ يُنَفِّذُوا وَقْفَهُ ، وَيُلْزِمُوا بِشُرُوطِهِ ، وَأَمَّا مَا قَدْ لَهِجَ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ " شُرُوطُ الْوَاقِفِ كَنُصُوصِ الشَّارِعِ " فَهَذَا يُرَادُ بِهِ مَعْنًى صَحِيحٌ وَمَعْنًى بَاطِلٌ ، فَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهَا كَنُصُوصِ الشَّارِعِ فِي الْفَهْمِ وَالدَّلَالَةِ وَتَقْيِيدِ مُطْلَقِهَا بِمُقَيَّدِهَا وَتَقْدِيمِ خَاصِّهَا عَلَى عَامِّهَا ، وَالْأَخْذُ فِيهَا بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ ; فَهَذَا حَقٌّ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهَا كَنُصُوصِ الشَّارِعِ فِي وُجُوبِ مُرَاعَاتِهَا وَالْتِزَامِهَا وَتَنْفِيذِهَا فَهَذَا مِنْ أَبْطَلْ الْبَاطِلِ ، بَلْ يَبْطُلُ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَمَا غَيْرُهُ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَأَرْضَى لَهُ وَلِرَسُولِهِ مِنْهُ ، وَيَنْفُذُ مِنْهَا مَا كَانَ قُرْبَةً وَطَاعَةً كَمَا تَقَدَّمَ .
وَلَمَّا نَذَرَ
أَبُو إسْرَائِيلَ أَنْ يَصُومَ وَيَقُومَ فِي الشَّمْسِ ، وَلَا يَجْلِسُ ، وَلَا يَتَكَلَّمُ ، أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْلِسَ فِي الظِّلِّ وَيَتَكَلَّمَ وَيُتِمَّ صَوْمَهُ ، فَأَلْزَمَهُ بِالْوَفَاءِ بِالطَّاعَةِ ، وَنَهَاهُ عَنْ الْوَفَاءِ بِمَا لَيْسَ بِطَاعَةٍ .
وَهَكَذَا أُخْتُ
nindex.php?page=showalam&ids=27عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ لَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=4181_4172_4260نَذَرَتْ الْحَجَّ مَاشِيَةً مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ أَمَرَهَا أَنْ تَخْتَمِرَ وَتَرْكَبَ وَتَحُجَّ وَتُهْدِيَ بَدَنَةً ، فَهَكَذَا الْوَاجِبُ عَلَى أَتْبَاعِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ أَنْ يَعْتَمِدُوا فِي شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .