[ ] الحالة الثانية : أن يرويه بغير لفظه ، وهي مسألة نقل الحديث بالمعنى ، واعلم أن نقل الحديث بالمعنى : أحدهما : القرآن ، ولا شك في وجوب نقل لفظه ; لأن القصد منه الإعجاز . والثاني : الأخبار فيجوز للراوي نقلها بالمعنى ، وإذا نقلها بالمعنى وجب قبوله كالنقل باللفظ . هذا هو الصحيح من مذاهب عشرة ستأتي . ونقل عن الأئمة الأربعة والجمهور من الفقهاء والمتكلمين لكن بشرائط . [ ص: 271 ] المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم ضربان
[ ] أحدها : أن يكون الراوي عارفا بدلالات الألفاظ واختلاف مواقعها ، فإن كان جاهلا بمواقع الكلام امتنع بالإجماع . قاله شروط جواز نقل الحديث بالمعنى القاضي في " التقريب " . قال : وقد قال في " الرسالة " : يجب أن يروي الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحروفه كما سمعه ، ولا يحدث به على المعنى ، وهو غير عالم بما يحيل معناه ; لأنا لا ندري لعله يحيل الحلال إلى الحرام ، أو الحرام إلى الحلال ، وإذا أداه بحروفه لم نجد فيه إحالة . قال الشافعي القاضي : وظاهره تحريم ذلك على الجاهل . قلت : قال في " مختصر الشافعي " : الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدقة الغنم مع ما أذكره إن شاء الله ، ثم سرده . قال الأصحاب فكأن المزني لم يحضره حينئذ لفظ الحديث ، فذكره بالمعنى . وذلك دليل على جواز نقل الحديث بالمعنى عنه ، وقال الشافعي الإمام في " النهاية " : يجوز أن يقال : صادف أو قاص الغنم مجمعا عليه فلم يتأنق في نقل لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويخرج منه قول بين أن يقوى بدليل آخر فيجوز ، وإلا فيمتنع .
: أن يبدل اللفظ بما يرادفه كالجلوس بالقعود ، والاستطاعة [ ص: 272 ] بالقدرة ، والعلم بالمعرفة ، وجعل ثانيها الإبياري هذا محل وفاق في الجواز ، وليس كالقرآن ; لأن المقصد منه الإعجاز ، وشرط هذا أن لا يحتاج إلى النظر في الترادف إلى نظر واجتهاد ، فلو احتيج لم يجز قطعا . ثالثها : أن تكون الترجمة مساوية للأصل في الجلاء والخفاء ، فيبدل اللفظ بمثله في الاحتمال وعدمه ، ولا يبدل الأجلى بالجلي وعكسه ، ولا العام بالخاص ، ولا المطلق بالمقيد ، ولا الأمر بالخبر ، ولا العكس ; لأن الخطاب تارة يقع بالمحكم ، وتارة يقع بالمتشابه ، لحكم وأسرار لا يعلمها إلا الله ورسوله فلا يجوز تغييرها عن موضوعها . رابعها : أن لا يكون مما تعبد بلفظه ، فأما ما تعبدنا به ، فلا بد من نقله باللفظ قطعا ، كألفاظ التشهد . ولا يجوز نقله بالمعنى بالاتفاق ، نقله إلكيا والغزالي ، وأشار إليه ابن برهان ، وغيرهما ، وعبر وابن فورك القاضي في " التقريب " عن هذا بأن يكون سامع لفظه عليه السلام عالما بموضوع ذلك اللفظ في اللسان ، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم يريد به ما هو موضوع له ، فإن علم تجوزه به ، واستعار تركه ، وجب نقله باللفظ ، لينظر فيه .
: أن لا يكون من باب المتشابه ، كأحاديث الصفات ، أما هي فلا يجوز نقلها بالمعنى بالإجماع ، حكاه خامسها : إلكيا الطبري وغيره ; لأن الذي يحتمله ما أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه التأويل ، لا ندري أن غيره من الألفاظ هل يساويه أم لا ؟ قال : وكذلك المشكك والمشترك لا ينقله أحد بالمعنى ; لتعذر نقله بلفظ آخر ، وكذلك المجمل . : أن لا يكون من جوامع الكلم ، فإن كان كقوله عليه الصلاة والسلام : { سادسها : } ، { الخراج بالضمان } ، [ ص: 273 ] { والبينة على المدعي } ، { العجماء جبار } ، ونحوه لم يجز ; لأنه لا يمكن درك جميع معاني جوامع الكلم . حكاه بعض الحنفية . قال : ومن مشايخنا من يفصل بين الجوامع وغيرها إذا كان ظاهر المعنى كغيره من الظواهر . وجعل لا ضرر ولا ضرار الإبياري في " شرح البرهان " للمسألة ثلاث صور : أحدها : أن فجائز بلا خلاف . وثانيها : أن يبدل اللفظ بمرادفه كالجلوس بالقعود ، فلا خلاف في امتناع التبديل . ثالثها : أن يظن دلالته على مثل ما دل عليه الأول من غير أن يقطع بذلك ، فهذا موضع الخلاف . فالأكثرون على أنه متى حصل القطع بفهم المعنى مستندا إلى اللفظ إما بمجرده أو به مع القرائن التحق بالمرادف ، وكلام يقطع بفهم المعنى ، ويعبر عما فهم بعبارة يقطع بأنها تدل على ذلك المعنى الذي فهمه من غير أن تكون الألفاظ مترادفة أبي نصر بن القشيري يدل لما ذكره في الحالتين الأوليين على الاتفاق على الجواز في الأولى ، وعلى المنع في الثانية . وقال العبدري في شرح المستصفى " : يجوز للعالم فيما علمه قطعا لا في علمه بنظر واستدلال ، وفي حق من يقلده من العوام خاصة .
قال : [ ص: 274 ] وعلى هذا الوجه يجوز تفسير مقال الشرع بلغة العجم على وجه التعليم لهم . وأما المجتهد فلا يجوز له العمل بالحديث حتى ينقل إليه لفظ الشارع ; لأنه إن قبله بالمعنى صار مقلدا ، وفي الصحابي إذا نقله بالمعنى فلا فرق . ا هـ . والمذهب الثاني : المنع مطلقا ، بل يجب نقل اللفظ بصورته ، سواء العالم وغيره . ونقله القاضي عن كثير من السلف ، وأهل التحري في الحديث . وقال : إنه مذهب ، ونقله مالك إمام الحرمين وابن القشيري عن معظم المحدثين ، وبعض الأصوليين . وحكاه غيره عن من الحنفية ، وهو مذهب أبي بكر الرازي أهل الظاهر ، كما نقله القاضي عبد الوهاب ونقله صاحب الواضح عن الظاهرية كما نقله ابن السمعاني عن ( رضي الله عنهما ) وجماعة من التابعين ، منهم عبد الله بن عمر ، وبه أجاب ابن سيرين الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ، ووهم صاحب " التحصيل " ، فعزاه وحكاه للشافعي ابن السمعاني عن ثعلب من النحويين ، أي لأجل إنكار أصل الترادف في اللغة . ونقل الماوردي عن : لا ينقل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعنى ، بخلاف حديث الناس ، لكن قال مالك الباجي : لعله أراد به من لا علم له بمعنى الحديث ، فقد نجد الحديث عنه تختلف ألفاظه اختلافا بينا .
وهذا يدل على أنه يجوز عنده للعالم النقل على المعنى . [ ص: 275 ] والثالث : التفصيل بين ما يوجب العلم من ألفاظ الحديث ، فالمعول فيه على المعنى ، ولا يجب مراعاة اللفظ ، وأما الذي يجب العمل به منها ، فمنه ما لا يجوز الإخلال بلفظه ، كقوله عليه السلام : { } ، { تحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم } . حكاه خمس يقتلن في الحل والحرم ابن السمعاني وجها لبعض أصحابنا . قال : والأصح الجواز بكل حال . الرابع : التفصيل بين الألفاظ التي لا مجال للتأويل فيها ، فيجوز نقله بالمعنى ، وإن كان للتأويل فيها مجال ، فلم يجز إلا أداء اللفظ ، حكاه أبو الحسين بن القطان عن بعض أصحابنا ، وجرى عليه إلكيا الطبري . والخامس : التفصيل بين أن يحفظ اللفظ فلا يجوز له أن يرويه بغيره ; لأن في كلام الرسول من الفصاحة ما لا يوجد في كلام غيره ، وإن لم يحفظ اللفظ جاز أن يورد معناه بغير لفظه ; لأن الراوي تحمل أمرين : اللفظ والمعنى . فإذا قدر عليهما لزمه أداؤهما ، وإن عجز عن اللفظ وقدر على المعنى لزمه أداؤه . وبهذا القول جزم الماوردي في " الحاوي " وتبعه الروياني في " البحر " وجعل الخلاف مخصوصا بغير الأمر والنهي . قال : أما الأوامر والنواهي ، فيجوز روايتهما بالمعنى ، كقوله : { } ، وروي أنه نهى عن بيع الذهب بالذهب . وقوله : { لا تبيعوا الذهب بالذهب } وروي أنه أمر بقتل الأسودين في الصلاة . قالا : فهذا جائز يعني بلا [ ص: 276 ] خلاف ; لأن " افعل " أمر ، و " لا تفعل " نهي ، فيتخير الراوي بينهما ، وإن كان اللفظ خفي المعنى محتملا ، كقوله : { اقتلوا الأسودين في الصلاة } ، وجب نقله بلفظه ، ولا يعبر عنه بغيره . فإنه لم يذكره جليا ولا خفيا إلا للمصلحة ، وليكل استنباطه إلى العلماء ، وإن كان المعنى جليا غير محتمل ، فلا يجوز لمن لم يسمع كلامه من التابعين ، ومن بعدهم أن يغير لفظه ، وينقل معناه . وهل يجوز لا طلاق في إغلاق ؟ فيه وجهان لأصحابنا : أحدهما : لا يجوز كما لا يجوز لغيره من التابعين . والثاني : يجوز ; لأنه أعرف بفحواه من غيره . ا هـ . لمن شاهده من الصحابة أن يورد المعنى بغير لفظه
وحاصله تخصيص الخلاف بالصحابي ، وبالجلي من غير الأوامر والنواهي ، والجزم في الجلي بالمنع مطلقا من التابعين ومن بعدهم ، وهو تفصيل غريب لكنه لا بأس به . وقال : قال بعض متأخري علمائنا : الخلاف في هذه المسألة إنما يتصور بالنظر إلى عصر الصحابة والتابعين لتساويهم في معرفة اللغة الجبلية الذوقية ، وأما من بعدهم فلا شك في أن ذلك لا يجوز إذ الطباع قد تغيرت ، والفهوم قد تباينت ، والعوارف قد اختلفت قال : وهذا هو الحق . ا هـ . القرطبي
ويخرج من ذلك مذهب آخر هو السابع بالنسبة لما قاله الماوردي . [ ص: 277 ] والثامن : إن كان محكما فلا يجوز نقله بالمعنى إلا للعارف باللغة ، وإن كان ظاهرا يحتمل الغير كعام يحتمل الخصوص ، أو حقيقة تحتمل المجاز جاز للمجتهدين فقط . وإن كان وجبار أو مشتركا فلا يجوز فيهما النقل بالمعنى أصلا ، إذ المراد بهما لا يعرف إلا بالتأويل . وأما المجمل فلا يتصور فيه النقل بالمعنى ; لأنه لا يوقف عليه إلا بدليل آخر ، والمتشابه كذلك ; لأنا ابتلينا بالكف عن طلب المعنى فيه ، فكيف يتصور نقله بالمعنى : قاله أبو زيد الدبوسي . قال : وأما ما يكون من جوامع الكلم كقوله : { } ، و { الخراج بالضمان } ونحوه ، فقد جوز بعض مشايخنا نقله بالمعنى بالشرط السابق في الظاهر ، والأصح عندي أنه لا يجوز لاختصاصه صلى الله عليه وسلم بهذا النظم ، وكأن هذا النوع هو المراد بقوله : ( ثم أداها كما سمعها ) ، وذكر العجماء جبار إلكيا الطبري في كتابه قريبا من هذا التفصيل أيضا .
وقال في كتابه : اللفظ المسموع من النبي صلى الله عليه وسلم ضربان . أحدهما : لا تأويل فيه ، كقوله : لا تقرب كذا ، وافعل كذا ، فهذا ونحوه لا يجهله أحد ، ينكرهما وقعد ، وقام ومضى ، وذهب وصب ، وأراق ، وهذا يجوز تأديته بالمعنى . والثاني : مودع في جملة لا يفهم العامي إلا بأداء تلك الجملة . ويكون الاحتمال فيما يظنه الحاكي قائما ، فهذا لا يجوز أداؤه إلا باللفظ المتعلق بذلك المعنى ، فلا يجوز إضافة المعنى إلى لفظ آخر ، وقد قال أبو بكر الصيرفي رضي الله عنه : ولا يقبل خبر حتى يكون راويه عدلا عاقلا مميزا بين المعاني ، فمن لم يكن مميزا بين المعاني فحكمه في الأداء على [ ص: 278 ] الألفاظ ، وكل من أدى إلينا شيئا قبلناه على أنه لفظ المحكي عنه ، حتى علمنا أنه حكي على خلاف ذلك ، ولا يجوز الشافعي . ا هـ . نقل حديث يكون فيه من الكلام معنى يتعلق به فيحذف فيذهب معناه
والتاسع : التفصيل بين أن يورده على قصد الاحتجاج به والفتيا ، فيجوز له روايته بالمعنى ، إذا كان عارفا بمعناه ، وبين أن يقصد التبليغ ، فلا يحل له ، ويتعين اللفظ لظاهر حديث ، { البراء } قاله وآمنت برسولك الذي أرسلت في كتاب " الإحكام " . ابن حزم ، فيجوز فيها الرواية بالمعنى بشرطه ، دون القصار . حكاه بعضهم عن والعاشر : التفصيل بين الأحاديث الطوال القاضي عبد الوهاب ، ثم من المتأخرين من خص هذا الخلاف في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وجوز الرواية بالمعنى في كلام الناس ، ومنهم من عكس ، وهو ما حكاه في " الإشكال " عن القاضي عياض تجويزه في حديث الناس ، ومنعه في كلام النبوة . مالك
فرع إذا قلنا بالمنع وروي بالمعنى لا تسقط روايته بذلك ، لأنه موضع اختلاف واجتهاد ، فلا تسقط به الرواية ، قاله سليم في " التقريب " .