[ ص: 492 ] الفصل الخامس في المجمع عليه وهو كل أمر ديني لا يتوقف ثبوت حجة الإجماع على ثبوته لا كإثبات العالم للصانع ، وكونه قادرا عالما مريدا ، كالنبوات فإنه لا يصلح إثبات شيء منها بالإجماع للزوم الدور ، لتوقف ثبوت المدلول على ثبوت الدليل . [ جريان الإجماع في العقليات ] وقال وهو ما يكون الإجماع فيه دليلا وحجة . القاضي أبو بكر والشيخ في اللمع " وصاحب القواطع " وغيرهم : الإجماع حجة في جميع الأحكام الشرعية ، وأما الأحكام العقلية فعلى ضربين : أحدهما : ما يجب تقديم العمل به على العلم بصحة السمع ، كحدوث العالم ، وإثبات الصانع ، وإثبات صفاته ، فلا يكون الإجماع حجة فيها ، كما لا يثبت الكتاب بالسنة ، والكتاب يجب العمل به قبل السنة . والثاني : ما لا يجب تقديم العمل به على السمع ، كجواز الرواية ، وغفران الذنوب ، والتعبد بخبر الواحد ، والقياس ، فالإجماع فيه حجة .
واعلم أنه يتلخص في هذه المسألة أعني ثلاثة مذاهب . [ ص: 493 ] أحدها : الجواز مطلقا ، وحكاه جريان الإجماع في العقليات عن القاضي فقال : وقال الأستاذ أبو منصور : يصح الاستدلال بالإجماع في جميع العلوم العقلية والشرعية ، ولذلك استدل على نفي قديم عاجز أو ميت بإجماع أهل العقول على نفيه . والثاني : المنع مطلقا ، وبه جزم شيخنا أبو بكر محمد بن الطيب الأشعري إمام الحرمين ، ونقله عن أكثر أصحابنا استغناء بدليل العقل عن الإجماع . قال الأستاذ أبو منصور الأصفهاني : وهو الحق ، نعم يستعمل الإجماع في علم الكلام ، لا لإفادة العلم ، بل لإلزام الخصم وإفحامه . وبه جزم سليم في التقريب " بناء على أن الإجماع يثبت حجة بالسمع ، لا بالعقل .
وقال إلكيا : ينشأ من أن الإجماع حجة من جهة السمع أنه إنما يحتج به فيما طريق معرفته السمع ، ولا يصح أن يعرف بالإجماع ما يجب أن تتقدم معرفته قبل معرفة الإجماع ، كإثبات الصانع والنبوات . والثالث : التفصيل بين كليات أصول الدين ، كحدوث العالم ، فلا يثبت به ، وبين جزئياته كجواز الرؤية فيثبت به . ثم فيه مسائل . الأولى : يجوز أن يعلم بالإجماع كل ما يصح أن يعلم بالنصوص وغيرها من أدلة الشرع ويصح أن تعلم السمعيات كلها من ناحيته . ذكره في الملخص " . الثانية : قد استدل بعض أئمتنا على كونه تبارك وتعالى متكلما صادقا في كلامه بالإجماع وألزم الدور . القاضي عبد الوهاب
قال : والحق التفصيل ، فإن قلنا : إن المعجزة تدل على صدق المتحدي من حيث إنها تنزلت منزلة التصديق بالقول ، فالدور لازم ، وإن قلنا : إنها تدل دلالة قرائن الأحوال ، لم يلزم . الثالثة : قيل : يمكن إثبات حدوث العالم بالإجماع ; لأنه يمكننا إثبات [ ص: 494 ] الصانع بحدوث الأعراض ، ثم تعرف صحة النبوة بالمعجزة ، ثم تعرف من جهة النبوة حجية الإجماع ، ثم تعرف به حدوث العالم . قال : ويمكننا التمسك به في التوصل إليه ، وفيه نظر . الرابعة : اختلف في القرطبي ؟ فأطلق الإجماع في الأمور الدنيوية ، كالآراء والحروب ، والعادة والزراعة . هل هي حجة الشيخ في اللمع " ، والغزالي ، وإلكيا ، وغيرهم ، أنه ليس بحجة ، وقال ابن السمعاني : إنه الأصح . قال إلكيا : لا يبعد خطأ الأمة في ذلك ، وعمدتهم أن المصالح تختلف باختلاف الأزمان ، فلو قيل بحجيته ، فربما اختلفت تلك المصلحة في زمن ، وصارت في غيره ، فيلزم ترك المصلحة ، وإثبات ما لا مصلحة فيه ، وهو محذور .
ومنهم من ذهب إلى أنه حجة . قال : إنه الأشبه بمذهب أصحابهم ; لأن ذلك الأمر الذي أجمعت عليه ، وإن كان من جلب المنافع ، واجتناب المضار ، فقد صار أمرا دينيا ، وجبت مراعاته فيتناول ذلك الإجماع أدلة الإجماع . ومنهم من فصل بين ما يكون بعد استقرار الرأي ، وبين ما يكون قبله ، فقال بحجية الأول ، دون الثاني ، ولعل هذا تنقيح ضابط للقولين الأولين ، فلا يعد قولا ثالثا ، والحق أنه لا فرق في ثبوت الحكم الديني والدنيوي في الاستناد إلى ما لا يقع فيه الخطأ ، وهو الإجماع لقوله عليه السلام : { القاضي عبد الوهاب لا تجتمع أمتي على [ ص: 495 ] الخطأ } ، ولم يعين الديني ، ولك أن تقول : إن الإجماع في أمور الدنيا متعذر ، لمخالفة الزهاد لأهلها ، فما ينعقد الإجماع مع مخالفتهم ، ولهذا اختلف قول عبد الجبار في الدينية . الخامسة : إذا أجمعت الأمة على أمر لغوي ، فإن كان له تعلق بالدين كان إجماعا معتدا به ، وإلا فلا ، خلافا لمن أطلق الأمر المجمع عليه . السادسة : ؟ قال هل يصح أن يجمعوا على أنه لا دليل على كذا إلا ما استدلوا به في الملخص : ينظر ، فإن كان الدليل الثاني مما يتغير دلالته صح إجماعهم على منع كونه دليلا ، مثل أن يتعرف للخصوص أو ينقله إلى المجاز أو النسخ ، ونحوه . فإن لم يتغير فلا يصح إجماعهم على ثاني دليل سوى ما استدلوا به ، كما لا يصح منهم الإجماع على أن الإجماع لا يصح أن يكون دليلا . القاضي عبد الوهاب