المبحث الثاني فيما يعد خرقا للإجماع وما لا يعد وفيه مسائل . المسألة الأولى ؟ وفيه ثلاثة أحوال . إحداها : في انعقاد الإجماع بعد الإجماع على شيء سبق خلافه وفيه مسألتان : إحداهما : أن يكون من المجمعين كما لو أجمع أهل عصر على حكم ، [ ص: 502 ] ثم ظهر لهم ما يوجب الرجوع ، وأجمعوا عليه ، ففي جواز الرجوع خلاف مبني على اشتراط انقراض العصر في الإجماع . فمن اعتبره جوز ذلك ، ومن لم يعتبره - وهو الراجح - لم يجوزه ، وكان إجماعهم الأول حجة عليهم وعلى غيرهم . الثانية : أن يكون من غيرهم ، فمنعه الأكثرون أيضا ، وإلا لتصادم الإجماعان ، وجوزه هل يجوز أن يجمع على شيء سبق خلافه أبو عبد الله البصري . قال الإمام الرازي : وهو الأولى ; لأنه لا امتناع في إجماع الأمة على قول يشترط أن لا يطرأ عليه إجماع آخر ، ولكن لما اتفق أهل الإجماع على أن كل ما أجمعوا عليه ، فإنه يجب العمل به في كل الأعصار أمنا من وقوع هذا الجائز ، فعدم الجواز عنده مستفاد من الإجماع الثاني لا من الإجماع الأول ، وعند الجماهير هو مستفاد من الإجماع الأول من غير حاجة إلى الإجماع الثاني . والحاصل : أن نفس كون الإجماع حجة يقتضي امتناع حصول إجماع آخر مخالف بعده عند الجماهير ، وعند البصري لا يقتضي ذلك ، لإمكان تصور كونه حجة إلى غاية إمكان حصول إجماع آخر . قال الهندي : وعند هذا ظهر أن مأخذ أبي عبد الله البصري قوي . قيل اتفقوا على أنه لم يقع . وما ذكر من قول : أجمعوا على رد شهادة العبد ، وما روي عن الشافعي أجمعوا على قبولها ، فالذي نقل عن [ ص: 503 ] أنس لم يصح عنه ، وكذا قولنا : أجمعوا على أنس ، وقول القول بالقياس : " أجمعوا على بطلان القياس " مردود . وحكى ابن حزم أبو الحسين السهيلي في كتاب أدب الجدل " له في هذه المسألة خلافا غريبا فقال : إذا ، فعن أجمعت الصحابة على قول ، ثم أجمع التابعون على قول آخر - رحمه الله - جوابان . أحدهما : - وهو الأصح - أنه لا يجوز وقوع مثله ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أمته لا تجتمع على الضلالة . والثاني : لو صح وقوعه ، فإنه يجب على التابعين الرجوع إلى قول الصحابة ; لأنا لما وجدناهم مجمعين على قول واحد ، علمنا كونهم مجمعين فيه ، فلم يجز تركه بما يتحقق كونه حقا ، وقيل : إن كل واحد منهما حق وصواب على قول من يقول إن كل مجتهد مصيب ، وليس بشيء . الشافعي
الحالة الثانية : في حدوث الإجماع بعد سبق الخلاف بأن يختلف أهل العصر على قولين في مسألة لم يقع الإجماع منهم على أحدهما . والتفريع على جواز صدوره عن الاجتهاد كما قاله إلكيا ، فللخلاف حالتان . إحداهما : أن لا يستقر ، بأن يكون المجتهدون في مهلة النظر ، ولم يستقر لهم قول ، كخلاف الصحابة - رضي الله عنه - في قتال مانعي الزكاة ، وإجماعهم بعد ذلك . قال لأبي بكر الشيخ في اللمع " : صارت المسألة إجماعية بلا خلاف . وحكى الهندي تبعا للإمام أن الصيرفي خالف في ذلك ، ولم أره في كتابه ، بل ظاهر كلامه يشعر بالوفاق في هذه المسألة . والثانية : أنه يستقر ، ويمضي أصحاب الخلاف عليه مدة ، وفيه مسائل [ ص: 504 ]
إحداها : إذا ، والمنع من المصير إلى القول الآخر ؟ فيه خلاف ، وبتقدير وقوعه ، هل يصير إجماعا متبعا أم لا ؟ اختلفوا فيه بناء على مسألة انقراض العصر في الإجماع ، فإن اشترطناه جاز وقوعه قطعا ، وكان حجة ، إذ ليس فيه ما يوهم تعارض الإجماعين على هذا الرأي ; ولأن اختلافهم على قولين ليس بأكثر من إجماعهم على قول واحد ، فإذا جاز الرجوع في الواحد المتفق عليه ، ففي المختلف فيه أولى . والشرط كما قاله اختلف أهل العصر على قولين ، فهل يجوز لأهل ذلك العصر بعينهم بعد استقرار الخلاف الاتفاق على أحد القولين ابن كج : أن يرجع الجميع من قبل أن ينقرض منهم واحد ، وإن لم يشترط ، ففيه مذاهب . أحدها : المنع مطلقا كما لو اتفقوا على قول ، ثم رجعوا بأسرهم ، ولتناقض الإجماعين ، وبه قال ، وإليه ميل القاضي أبو بكر الغزالي وغيره ، ونقله ابن برهان في الوجيز " عن ، وبه جزم الشافعي الشيخ في اللمع " . والثاني : عكسه ، ونقله إمام الحرمين عن أكثر الأصوليين ، واختاره الآمدي ، والرازي . والثالث : الجواز فيما دليل خلافه الإمارة والاجتهاد ، دون ما دليل خلافه القاطع عقليا كان أو نقليا . وقال القاضي عبد الوهاب في الملخص " : إن كان الخلاف فيما طريقه التأثيم والتضليل ، جاز الإجماع بعد ذلك ، وإن كان في مسائل الاجتهاد في الفروع جاز أيضا ، لكن لا يجوز أن يجزموا معه بتحريم الذهاب إلى الآخر ; لأنه يؤدي إلى كون أحد الإجماعين خطأ . ومنهم من أحاله قطعا . [ ص: 505 ] والرابع : يخرج من كلام إمام الحرمين في مسألة الانقراض : إن قرب عهد المختلفين ثم اتفقوا على قول فهو إجماع ، وإن تمادى الخلاف في زمن طويل ، ثم اتفقوا فليس بإجماع ، والمختار : أنه يجوز وقوعه ، وأنه حجة .
ونقل إجماع أصحابنا على أنه حجة مقطوع بصحته ، ويخرج من كلام الأستاذ أبو منصور الماوردي والروياني طريقة قاطعة به ، فإنهما جزما بالجواز ، وقالا : يرتفع به الخلاف السابق ، ثم قالا : وفيه وجهان ، أحدهما : أنه آكد من إجماع لم يتقدمه خلاف ; لأنه يدل على ظهور الحق بعد التباسه . والثاني : أنهما سواء ; لأن الحق مقترن بكل منهما . ومنهم من نقل هاهنا عن الصيرفي أنا إذا لم نشترط انقراض العصر لا يكون إجماعا ، لتقدم الإجماع منهم على تسويغ الخلاف ، وبه جزم القاضي عبد الوهاب فيما نقل عنه أيضا ، وقد استشكلها الغزالي من حيث إن الإجماع الأول قد تم على تسويغ الخلاف ، ثم الاتفاق الثاني قد منع الخلاف ، فقد تناقص الإجماعان . وفرق بينهما وبين ما إذا كان الاتفاق من أهل العصر الثاني . فإن المخالفين في هذه المسألة المتفقون عليها بخلاف تلك ، وقد رأى أن المخلص في ذلك الحكم بإحالة وقوع هذه المسألة للتناقض المذكور .
وقد أورد عليه أن ذلك ليس بمحال ، فقد وقع في قضية خلافة الصديق رضي الله عنه ، فإنهم اختلفوا ، فقال الأنصار : منا أمير ، ومنكم أمير ثم أجمعوا عليها ، فكان إجماعا صحيحا ، ويجاب بأن ذلك لم يكن بعد [ ص: 506 ] استقرار الخلاف بل لم يتم النظر ، ثم لما تم وتبين أجمعوا ، وصورة المسألة إنما هي بعد استقرار الخلاف ، وعلى هذا فالظاهر بحثا ما قاله الغزالي . إذا عرف هذا ، فلو ، فقولان ، حكاهما اختلفوا ثم ماتت إحدى الطائفتين ، أو ارتدت - والعياذ بالله - وبقيت الطائفة الأخرى على قولها ، فهل يعتبر قول الباقين إجماعا وحجة الأستاذ أبو إسحاق ، واختار الرازي ، والهندي أنه يعتبر مجمعا عليه ، لا بالموت والكفر ، بل عندهما لكونه قول كل الأمة ، وذكر في الكلام على اتفاق العصر الثاني على أحد قولي العصر الأول ، وحكى عن الآخرين أنه لا يكون إجماعا ، وذكر ابن الحاجب الآمدي نحوه . قلت : وصححه القاضي في التقريب " قال : لأن الميت في حكم الباقي الموجود ، والباقون من مخالفيه هم بعض الأمة لا كلها ، وقال في المستصفى " : إنه الراجح ، وجزم في كتاب عيار الجدل " ، وكذا الأستاذ أبو منصور البغدادي الخوارزمي في الكافي " ، قال : لأنه بالموت لا يخرج عن كونه من الأمة . ونقل أبو الحسين السهيلي في أدب الجدل " الخلاف في هذه المسألة ثم قال : وقال بعضهم - وهو أقوى الطرق - : إن هذه المسألة مبنية على أن ، فقيل : يصير إجماعا ، وفيه قولان : فإن قلنا : يصير ، فكذلك هاهنا ، وإن قلنا بالمنع ثم فكذلك هاهنا ; لأن خلاف من مات لا ينقطع . الصحابة إذا اختلفوا على قولين ، ثم أجمع التابعون على أحدهما
وفي المسألة مذهب ثالث حكاه ، إن لم يسوغوا فيه الاختلاف صار حجة ; لأن الطائفة المتمسكة بالحق لا يخلو منها زمان ، وقد [ ص: 507 ] شهدت ببطلان قول المنقرضة ، فوجب أن يكون قولها حقا ، وإن سوغوا فيه الاجتهاد لم يصر إجماعا لإجماع الطائفتين على تسويغ الخلاف . قال : وهذا منه بناء على أن الإجماع بعد الخلاف لا يرفع الخلاف المتقدم إذا كان طريقه اجتهاد الرأي . الثانية : أن يموت بعضهم ويرجع من بقي إلى أحد القولين . قال أبو بكر الرازي ابن كج : فيه وجهان . أحدهما : أنه إجماع ، وبه قال أهل العراق ; لأنهم أهل العصر . والثاني : المنع ; لأن رضي الله عنه - جلد في حد الخمر أربعين ، ثم أجمعت الصحابة رضوان الله عليهم على ثمانين في زمن الصديق رضي الله عنه . فلم يجعلوا المسألة إجماعا ; لأن الخلاف كان قد تقدم ، وقد مات من قال بذلك ، وإن كان فيهم من رجع إلى قول عمر رضي الله عنه ، الثالثة : أن ينقرضوا على خلافهم ، فقد حصل الإجماع منهم على أن الحق لم يخرج عن القولين ، وعلى تسويغ الاجتهاد في طلب الحق بين القولين ، بل جواز تقليد كل واحد من الفريقين ، ثم قال بعض أصحابنا : هو إجماع مبين ، وقال بعضهم : بشرط أن لا يظهر على أحد القولين دليل مقطوع به فهل لمن بعدهم الإجماع على أحد ذينك القولين ؟ فيه قولان عمر رحمه الله ، كما قاله للشافعي أبو الحسين السهيلي في أدب الجدل " .
وأصحهما امتناعه ، وكأنه حاضر ، وليس موته مسقطا لقوله ، فيبقى الاجتهاد ، ولا يخرج الخلاف ، وهو أصح الوجهين عند أصحابنا ، ونصره الصيرفي في الدلائل ، ونقله ، القاضي أبو الطيب وابن الصباغ عنه عن ، ابن أبي هريرة ، وأبي علي الطبري . ونقله وأبي حامد المروزي عن الأستاذ أبو منصور الصيرفي وأكثر أصحاب ، وذكر الشافعي أنه قول عامة [ ص: 508 ] أصحابنا ، وقول الشيخ أبو إسحاق . ونقله الشيخ أبي الحسن الأشعري القاضي في التقريب " عن جمهور المتكلمين والفقهاء ، قال : وبه نقول ، وقال سليم الرازي : إنه قول أكثر أصحابنا ، وأكثر الأشعرية ، وكذا قال ابن السمعاني . وقال إمام الحرمين : إليه ميل ، قال : ومن عباراته الرشيقة : المذاهب لا تموت بموت أربابها ، أي فكان الخلاف باقيا ، وإن ذهب أهله . الشافعي
وقال إلكيا ، وابن برهان : ذهب إلى أن حكم الخلاف لا يرتفع . الشافعي قلت : وهو يباين ما سبق عن من امتناعه في العصر الواحد ، فهاهنا ، وقال الشافعي في شرح التلخيص " : إنه أصح قولي الشيخ أبو علي السنجي ، وهو الذي نصره الشافعي ابن القطان ، ونقل أنهم قالوا : إنه مذهب رضي الله عنه ، أنه قال : حد الخمر أربعون ; لأنه مذهب الشافعي رضي الله عنه ، وقد أجمعوا بعد هذا على أن حده ثمانون ; لأنهم قالوا : نرى أنه إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وقد أجمعوا على هذا ، ولم نعده إجماعا ; لسبق خلاف الصديق رضي الله عنه . الصديق قلت : ولا يشكل على ذلك أنه نقض في الجديد قضاء من حكم ببيع أمهات الأولاد لأجل اتفاق التابعين بعد خلاف الصحابة ، فعد إجماعا ، فإنه إنما اعتبر في ذلك إجماع الصحابة ; لأنهم كانوا أجمعوا على المنع ، وكان رضي الله عنه فيهم ، وانقراض العصر ليس بشرط ، واختاره علي الإمام والغزالي . [ ص: 509 ] والثاني : أنه جائز ، وبه قال أكثر الحنفية ، منهم : ، محمد بن الحسن ، وأبو يوسف . قال والكرخي في محمد بن الحسن : إني أبطل قضاءه ; لأن الصحابة رضي الله عنهم كانت اختلفت فيها ، ثم أجمع بعد ذلك قضاة المسلمين وفقهاؤهم على أنها لا تباع . قال قاض حكم ببيع أم الولد بعد موت مولاها : وهو قول أصحاب الرأي ، وأكثر الأستاذ أبو منصور المعتزلة ، والحارث بن أسد المحاسبي ، وأبي علي بن خيران ، وكذا حكاه عنهما في كتابه ، وقال : إنه الأصوب ، واختاره القفال الشاشي الإصطخري ، ، والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ ، والرازي ، وأتباعه . ونقله إلكيا عن الجبائي وابنه ، وأبي عبد الله البصري .
وفي المسألة قول ثالث حكاه ، إن كان خلافا يؤثم فيه بعضهم بعضا كان إجماعا ، وإلا فلا . التفريع : إن قلنا بالامتناع ، فقال أبو بكر الرازي الصيرفي : يكون منزلة المجمعين من التابعين منزلة من وافق الصدر الأول ، وللناس أن ينظروا أي الفريقين أصوب ولا يسقط النظر أبدا مع وجود المخالف . وإن قلنا بالجواز ، فقال أكثرهم : هو حجة ، يرتفع به الخلاف السابق ، وتصير المسألة إجماعية ، وليس لمن بعدهم أن يخالفوهم ، وقيل : لا يكون حجة . ونقل ابن القطان عن قوم أنه ليس بإجماع إلا أن يكون لهؤلاء مزية على أولئك . ثم قرره بأن هذا القائل هل يرى أن هذا القول أصح لانفراده [ ص: 510 ] في العصر ؟ وإذا كان منفردا في العصر وجب أن يكون الاعتبار له .
قال أبو الحسين بن القطان : وليس هذا بشيء إلا على طريقة له في القديم ، وهي أنه إذا اختلفت الصحابة على قولين أخذ بقول الأكثر ، فأما المشهور من مذهبه ، فإنه لا فرق بين العدد الكثير والقليل ; ونحوه ما حكاه الصيرفي عن قوم أن إجماع التابعين دل على الصواب من أقاويل المختلفين ، والحق أنه لا يبلغ مبلغ الإجماع القطعي ، ولكنه إجماع مظنون ، فإن مراتب الإجماع متفاوتة ، وإليه يشير كلام إمام الحرمين ، وقد صرح الحنفية بأنه مراد في مراتب الإجماع . حكاه أبو زيد في التقويم " . وصورة المسألة عند الغزالي ما إذا لم يصرح المانعون بتحريم القول الآخر ، فإن صرحوا بتحريمه ، فقد تردد ، أعني الغزالي . هل يمنع ذلك أو لا ؟ ولا يجب اتباعهم فيه ، هذا في الجواز .
وأما الوقوع ، فظاهر ما سبق عن في حد الخمر وقوعه . وقال الشافعي : الحق في مثل هذا الإجماع أنه بعيد وقوعه ; لأنه غالبا لا يكون إلا عن جلي ، وتبعه غفلة المخاطب عنه ، لكن وقع قليلا ، والوقوع قليلا لا ينافي البعد ، كما لا خلاف في بيع أم الولد فإنه وقع بين الصحابة ، ثم زال . ونقل ابن الحاجب عبد الوهاب في الملخص " عن الصيرفي أنه أحال ذلك ، وقال : لا يجوز أن يتفق للتابعين الإجماع على أحد قولي الصحابة ، فلا يؤدي إلى تعارض الإجماعين ، وكون أحدهما خطأ ; لأن اختلافهم على قولين إجماع [ ص: 511 ] على تسويغ الذهاب ورأي كل منهما . قلت : وكذا رأيته في كتابه ، فقال بعد أن قرر أنه ليس بإجماع : على أني لا أعلم خلافا وقع في الصحابة منتشرا فيهم ، ثم وقع من التابعين الإجماع على أحد القولين ، إلا أن يكون ناقله من جهة الآحاد ، فهذا لا يترك له ما قامت عليه الدلالة من قول من سلف . ا هـ .
وقال إلكيا : ذهب قوم إلى أن هذا النوع لا يتصور ، وإليه ميل إمام الحرمين ، والذين أحالوا تصوره اختلفوا فيه على ثلاثة أنحاء ، فقيل : لأن إجماع التابعين لا يحتج به . وقد تقدم أن الصحيح خلافه ، وإن لم يكن إجماع التابعين حجة لم يكن لهذا الخلاف معنى . وقيل : لأن الإجماع لا يصدر إلا عن اجتهاد ، والاختلاف على قولين يقتضي صدور الأقوال عن اجتهاد ، وقد تقدم ما فيه . وقال الإمام : واستحالة تصوره من حيث إنه إذا تمادى الخلاف في زمان متطاول ، بحيث يقتضي العرف بأنه لو كان ينقدح وجه في سقوط أحد القولين مع طول المباحثة ، لظهر ذلك للباحثين ، فإذا انتهى الأمر إلى هذا انتهى ، ورسخ الخلاف ، وتناهى الباحثون ، ثم لم يتجدد بلوغ خبر أو أثر يجب الحكم به ، فلا يقع في العرف .
[ دروس مذهب طال الذب عنه ] . فإن فرض فارض ذلك ، فالإجماع محمول على بلوغ خبر يجب بمثله سوى ما كانوا خائضين فيه من مجال الظنون . قال إلكيا : وما ذكره الإمام مخيل ، لكن جوابه سهل ، فإنا نرى أهل كل عصر يظهرون مذهبا غير الذي عهده من تقدمهم في العصور الخالية مع أن النظم يحتمله وغيره ، وإذا ثبت أنه متصور انبنى عليه أن قال الإجماع [ ص: 512 ] هل يزيل الحكم السابق أم لا ؟ إلكيا : وهذه المسألة يلاحظ في مجاريها أصل تصويب المجتهدين . قلت : وطريقة رابعة لهم في الإحالة وهي عليهم ، فقوله هنا : إذا وجد إجماع بعد اختلاف ، فلا بد أن يكون هناك خلاف ، وإن لم يبلغنا ، وإلا لأدى إلى تعارض الإجماعين ، ذكره عبد الوهاب . الحالة الثالثة : في . قال حدوث الخلاف بعد تقدم الإجماع الروياني في البحر " : فإن كان في عصر واحد ، مثل أن يتقدم إجماع الصحابة ، ثم يحدث من أحدهم خلاف ، فهذا الخلاف الحادث يمنع انعقاد الإجماع ، يعني إن شرطنا انعقاد العصر ، وإلا فلا . وإن كان في عصرين ، كإجماع الصحابة ، وخلاف التابعين لهم ، فهو ضربان . أحدهما : أن يخالفوهم مع اتفاق الأصول في المجمع عليها ، فهذا الخلاف الحادث مطروح ، والإجماع الأول منعقد . ثانيهما : أن يحدث في المجمع عليه صفة زائدة أو ناقصة ، فيحدث الخلاف فيها لحدوث تلك الصفة ، فيكون الإجماع في الصفات المختلفة منعقدا ، وحدوث الاختلاف في الصفات المختلفة سائغ عند وجمهور العلماء . وقال الشافعي وبعض داود أهل الظاهر : يستصحب حكم الإجماع ، واختلاف الصفة الحادثة لا ينتج الحكم فيها إلا بدليل قاطع ، وجعلوا استصحاب الحال حجة في الأحكام .
مثاله : أن ينعقد الإجماع على إبطال التيمم برؤية الماء قبل الصلاة ، فإذا رأى الماء في الصلاة أبطلوا تيممه استصحابا لبطلانه قبل الصلاة من غير أن يجمعوا بينهما بقياس ، وهذا فاسد ، ولكل حادث حكم يتجدد ، وإنما يكون الإجماع حجة في الحال التي ورد فيها لا في غيرها ، [ ص: 513 ] إلا أن يكون القياس موجبا لاستصحاب حكمه ، فإن الإجماع أصل تجويز القياس عليه ، فيكون القياس هو الذي أوجب استصحاب حكم الإجماع لا الإجماع . ا هـ . وذكر القفال في كتابه قريبا من هذا التفصيل ، وقال في القواطع " : إذا حدث الخلاف بعد تقدم الإجماع في عصر واحد ، فهو على ضربين . أحدهما : أن يكون المخالف لم يوافق قبل على خلافه ، فيصح خلافه ، ولا ينعقد مع خلافه الإجماع ، كما خالف في العول مع إجماع غيره . والثاني : أن يكون وافقهم ثم خالفهم ، كخلاف ابن عباس في بيع أمهات الأولاد بعد اتفاقه مع علي وسائر الصحابة في تحريم بيعهن . فمن جعل انقراض العصر شرطا في انعقاد الإجماع أبطل الإجماع بخلافه ; لحدوثه قبل استقراره ، ومن لم يجعله شرطا أبطل خلافه بعد إجماعهم . ثم قال : الاختلاف بعد الإجماع إن كان في عصر انبنى على أن عمر فإن قلنا : شرط ، جاز الاختلاف ; لأن الإجماع لم ينعقد ، وإن قلنا : ليس بشرط ، فلا يجوز فأما في العصرين ، وذلك بأن يجمع الصحابة على شيء ، ثم يختلف التابعون فلا يجوز ذلك ، ويكون خلافه معاندة ومكابرة . انقراض العصر هل هو شرط في انعقاد الإجماع أو لا ؟