[ ص: 224 ] مسألة تعريف الحسن والقبح كان من حقها أن تذكر صدر الأصل السابق وهو تعريف الحسن والقبح . قد أطلق الأصوليون القول بمقابلة الحسن بالقبيح ، وإنما يقابل الحسن بالسيئ والقبيح بالجميل ، كما قال الله تعالى : { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها } وقال : { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة } ومن حكم التقابل مقابلة الأعم بالأعم والأخص بالأخص ، والقبيح أخص من السيئ كما أن الجميل أخص من الحسن ، وأبلغ من المدح معه ، ولذلك يقال : حسن جميل ، ولا يقال : جميل حسن ; لأنه لا ينزل من الأعلى إلى الأدنى بخلاف العكس ، وأما حقيقتهما في الاصطلاح فيؤول إلى تعلق الخطاب بالشيء على صفة ، وليسا راجعين إلى الذوات كما سبق خلافا للمعتزلة والكرامية والروافض ، حيث قالوا : إلى نفس الذوات الحسنة والقبيحة ، ويرون ذلك من صفات نفوسها . هذا قول القدماء منهم . وذهب بعضهم إلى اختصاص هذا المعنى بالقبيح فرأوه راجعا إلى الذات بخلاف الحسن . وعكس بعضهم فرأى الحسن يرجع إلى الذات بخلاف القبيح ، وأنكر إمام الحرمين هذه المذاهب الثلاثة ، وزعم أنهم إنما يريدون بما أطلقوه من صرف الحسن والقبح إلى أعين الذات أن ذلك يستدرك فيها بالعقول من غير حاجة إلى بعث الرسول . انتهى . [ ص: 225 ] وقال قوم من المعتزلة : العقل يقتضي لذاته صفة وتلك الصفة توجب الحسن أو القبح ، كالصوم المشتمل على كسر الشهوة المقتضي عدم المفسدة . وكالزنى المشتمل على اختلاط الأنساب المقتضي ترك تعهد الأولاد . قال الجبائي وأتباعه بوجوه واعتبارات بمعنى أن لكل صفة لكن هي غير حقيقية . وفي كلام الأحكام " ما يظهر منه أن مذهب الجبائي الذي قبل هذا ، وقد اضطرب أصحابنا في الفصل بينهما ، فقيل : الحسن : ما طلبه الشرع ، وأثنى عليه ، فيتناول الواجب والمندوب ، والقبيح : ما طلب تركه وذم فاعله فيتناول الحرام والمكروه . قاله ابن القشيري ، وابن السمعاني في القواطع " . ونقله ابن برهان عن أصحابنا وأورد المباح ، وأجيب بإثبات الواسطة ، وأنه لا حسن ولا قبيح ، كقول بعض المعتزلة . وجزم به إمام الحرمين في التلخيص " في الباب المفرق بين الإباحة والأمر ، وجرى عليه ابن القشيري . وقال ابن برهان : بل أذن الشارع في إطلاق الثناء على فاعله فهو داخل في الحسن . ا هـ . وهذا إنما يتحقق على رأي في قوله : إن في كل مباح ترك حرام . ولهذا الإشكال قال الكعبي الأستاذ أبو إسحاق : الحسن هو المأذون فيه شرعا فدخل المباح ، ونوقش بأن المباح يقتضي وصفا زائدا على الماهية ، ومجرد الإذن لا يدل على ذلك . وقال الإمام في التلخيص " : الحسن : كل فعل لنا الثناء شرعا على فاعله به ، والقبيح : كل فعل لنا الذم شرعا لفاعله به . [ ص: 226 ] قال : يقول : ما أمر بمدح فاعله وفيها شيء ; لأن المباح حسن ولا يمدح فاعله ، والذي ارتضيناه أسد ، وقد سبق عنه التصريح في موضع آخر من التلخيص " أنه لا حسن ولا قبيح . وقال والقاضي الإمام في المحصول " : القبيح : ما نهي عنه شرعا ، والحسن : ما لا يكون منهيا عنه شرعا ، ويندرج فيه أفعال الله تعالى ، وأفعال المكلفين من الواجب والمندوب والمباح ، وأفعال الساهي ، والنائم والهائم . قال : وهو أولى من قول من قال : الحسن : ما كان مأذونا فيه شرعا ; لأنه يلزم عليه أن لا تكون أفعال الله حسنة . وخص ابن السمعاني التقسيم بأفعال المكلفين ، وقال : أما ما لا صفة زائدة على وجوده كبعض أفعال الساهي ، والنائم فلا يوصف بحسن ولا قبيح إذا لم يكن فيه مضرة ولا منفعة ، فإن كان ، فقد قيل : يوصف بهما ، وقيل : لا يوصف بشيء منهما وهو الأولى ; لأن الحسن والقبيح يتبع التكليف ، فمن ليس بمكلف لا يوصف فعله بشيء منهما . قال : وهكذا كل فعل يصدر ممن لا تكليف عليه . قلت : هذا أحسن من جعل الإمام له من قسم [ ص: 227 ] الحسن ، ولم يجعل والبيضاوي الآمدي هذا خلافا بين الأصحاب بل إطلاقات الأصحاب باعتبارات . فقال : في الأبكار " : مذهب أهل الحق من الأشاعرة وغيرهم أن الحسن والقبيح ليس وصفا ذاتيا بل لإطلاق لفظ الحسن والقبيح عندهم باعتبارات غير حقيقية بل إضافية يمكن تغيرها وتبدلها ، وهي ثلاثة : الأول : أن . الثاني : إطلاق الحسن على ما أمر الشرع بالثناء على فاعله ، ويدخل فيه الواجب والمندوب وفعل الله ، ويخرج منه المباح ، ولو قيل : ما يجوز الثناء على فاعله لدخل المباح ، وإطلاق القبيح على ما أمر الشارع بذم فاعله ويدخل الحرام ، ويخرج المكروه ، والمباح . لكن المكروه إن لم يكن قبيحا بهذا الاعتبار فليس حسنا باعتبار أن لفاعله أن يفعله أو أنه موافق للغرض . الثالث : إطلاق الحسن على ما لفاعله أن يفعله ويدخل فيه مع فعل الله الواجب والمندوب والمباح . قال : واتفقوا على أن الأفعال تنقسم إلى ما وافق الغرض فيسمى حسنا ، وإلى ما خالف الغرض فيسمى قبيحا ، وإلى ما لا يوافق ولا يخالف عبثا ، وأنه موصوف بذلك أبدا سرمدا وافق الغرض أو خالف . وأن ذلك مما لا يتغير ولا يتبدل بنفسه ولا إضافة لكن إن كان بعد ورود الشرع ففعله موصوف بكونه [ ص: 228 ] حسنا بالاعتبارين الأخيرين ، وإن كان قبل الشرع فموصوف بكونه حسنا بالاعتبار الأخير فيهما . ا هـ . وأما فعل الله حسن بكل حال المعتزلة فاختلفوا أيضا . فقال بعضهم : القبيح ، ما ليس للمتمكن منه أن يفعله ، والحسن ما يقابله ، فعلى هذا المباح حسن . ونازع المازري في دخول الواجب فيه ; لأنه عليه أن يفعله ، ولا يقال : إن له أن يفعله وهو قريب . وقال جماعة منهم أبو الحسين في المعتمد " : الواقع على صفة توجب المدح حسن ، وعلى صفة توجب الذم قبيح ، وما لا يشتمل على أحدهما كالمكروه ، والمباح فليس بحسن ولا قبيح ، وأصل هذا التفسير منهم مبني على أن العقل له التحسين والتقبيح ، والمراد من الذم كما قاله الآمدي الإخبار المنبئ عن نقص حال المخبر عنه مع القصد لذلك ، ولولا القصد لما كان ذما . قال : وقد زيد في القبيح ما يستحق فاعله الذم ما لم يمنع منه مانع ، وقيدوه بذلك ; لأن من أصلهم أن الصغائر قبيحة غير أنها لا تستحق على فعلها الذم إذا صدرت ممن يجتنب الكبائر . وأصل هذا الاختلاف منهم يرجع إلى تفسير الحسن والقبح هل يختص بصفة موجبة لتحسينه وتقبيحه . وهو مذهب الجبائي ، أو لا ؟ فمن قال : يختص ، فسره بالأول ، ومن قال : لا يختص فسره بالثاني . ا هـ . [ ص: 229 ] والمختار : أن حسن الشيء شرعا لا يرجع إلى وصف تضمنه من الحسن ، ولكن معناه إذن الشرع فيه ودفع العقاب عنه .