( الفرق الثاني عشر بين قاعدتي ) قد التبس الفرق بينهما على جمع كثير من الفضلاء ووقعت مباحث ردية بناء على اللبس بينهما وتقرير الفرق أن الزمان أجزاؤه سيالة مترتبة بذاتها عقلا مستحيلة الاجتماع فلا يتصور أن يوجد أمس الدابر مع اليوم الحاضر ولا أول النهار مع آخره ولا جزء من أجزاء الزمان وإن قل مع غيره من الأجزاء الزمانية وإذا كان الزمان مرتب الأجزاء والأفعال والأقوال واقعة في الزمان ومنقسمة على أجزائه فالواقع في الزمان الماضي من الأقوال والأفعال متقدم على الواقع في الحاضر والمستقبل والواقع منها في الحاضر متأخر عن الماضي ومتقدم على المستقبل وكذلك القول في كل جزء من أجزاء الزمان أنه إذا اشتمل على قول أو فعل كان ذلك القول أو الفعل متقدما على الواقع في الزمان الذي بعده ومتأخرا عن الواقع في الزمن الذي قبله فظهر أن ترتيب أجزاء الزمان يقتضي ترتيب الأقوال والأفعال الواقعة فيها وأن الواقع في المرتب مرتب عقلا لا بوضع لغوي اقتضى ذلك بل ذلك بالعقل الصرف وأما الترتيب بالأدوات اللفظية فهو بالفاء وثم وحتى والسين وسوف ولم ولا ولن وما ونحوها . الترتيب بالأدوات اللفظية والترتيب بالحقيقة الزمانية
فإذا قلت : قام زيد فعمرو كان قيام زيد متقدما على قيام عمرو أو ثم عمرو فكذلك مع تراخ أو قام القوم حتى عمرو يقتضي أيضا تأخر قيام عمرو بسبب أن حتى حرف غاية والقاعدة أن المغيا لا بد أن يثبت قبل الغاية ثم يصل إليها كقولك سرت حتى طلع الفجر فالسير ثابت قبل الفجر متكرر إلى طلوع الفجر وكذلك شأن جميع الغايات وإذا كان قيام عمرو غاية وغاية الشيء طرفه وآخره فيكون متأخرا عن الأول ضرورة وإذا [ ص: 114 ] قلت سيقوم زيد وسوف يقوم عمرو وكان قيام زيد قبل قيام عمرو وعمرو بعده لأن سوف أكثر تنفيسا من السين وإذا قلت : لم يقم زيد ولا يقوم عمرو ولن يقوم كان عدم قيام زيد في الماضي وعدم قيام عمرو في المستقبل فقد ترتب العدمان بسبب أن لن ولا موضوعان لنفي المستقبل ولم ولما موضوعان لنفي الماضي وما وليس موضوعان لنفي الحال ولما كان الماضي والحال والمستقبل مترتبة كان اللفظ الدال على وقوع العدم في واحد منها دالا على الترتيب بالنسبة إلى الآخر فتأمل ذلك فهذا هو الترتيب الذي لا يستقل العقل به بل يستفاد من الوضع اللغوي وربما اختلفت فيه اللغات وربما تبدلت بالنقل العرفي والعقل لا يقبل الاختلاف ولا التبدل إذا تقرر الفرق بين الترتيب بالحقيقة الزمانية وبين الترتيب بالأدوات اللفظية فأذكر ثلاث مسائل دالة على هاتين القاعدتين وأوجه الصواب في تلك المسائل ومن وافق القواعد ومن خالفها .
( المسألة الأولى ) قال رحمه الله تعالى إذا مالك لزمه الطلاق الثلاث وقال قال لغير المدخول بها : أنت طالق أنت طالق أنت طالق : لا يلزمه إلا طلقة واحدة وهو الحق واتفق الإمامان على أنه إذا الشافعي لا يلزمه إلا طلقة واحدة قال قال : أنت طالق فأنت طالق أو ثم أنت طالق في غير المدخول بها رحمه الله . مالك
وفي النسق بالواو إشكال فحصل له فيها توقف ولم يتوقف رضي الله عنه بل ألزم في الواو طلقة واحدة وهو الحق بسبب أن الزمان يقتضي الترتيب كما تقدم تقريره فقد بانت بالطلقة الأولى قبل نطقه بالطلقة الثانية فلا يلزم لأجل البينونة كما لو قال : فأنت طالق ولا ينبغي أن يثبت في الواو حينئذ إشكال أصلا بل نجزم بتقدم ما نطق به قبلها على ما نطق به بعدها فتبين فلا يلزمه غير الأولى المعطوف عليها بالواو دون المعطوفة بالواو فهذا هو الحق المقطوع به الذي لا تسع مخالفته وأما قول الأصحاب إنه طلق بالأولى ثلاثا ثم فسره بعده ذلك أو بالقياس على قوله أنت طالق ثلاثا فإن الثلاث تعتبر باتفاق ويلزمكم بقوله أنت طالق ثلاثا فإن مقتضى مذهب الشافعي أنه لا تلزمه الثلاث لأنها بانت بقوله أنت طالق أن تبين فلا يلزمه بعد ذلك بقوله ثلاثا شيء والجواب عن الأول أن الكلام في هذا المسألة مع عدم النية فقولهم نوى ثم فسر لا يستقيم بل إن نوى انعقد الإجماع بين الإمامين على لزوم ما نواه فهذا المدرك باطل قطعا . الشافعي
وأما القياس على قوله مع عدم نيته أنت طالق ثلاثا فباطل أيضا بسبب فرق عظيم مأخوذ من قاعدة كلية لغوية وهو أن كل لفظ لا يستقل بنفسه إذا لحق لفظا مستقلا بنفسه صار المستقل بنفسه غير مستقل بنفسه ولهذه القاعدة عشرة مثل :
( المثال الأول ) إذا قال : له عندي عشرة إلا اثنين لا يلزمه إلا ثمانية مع أن الأقارير عند الحكام في غاية الضيق والحرج ولا تقبل فيها النيات ولا المجازات وما سببه إلا أن قوله عندي عشرة وإن كان كلاما مستقلا بنفسه غير أنه لحقه قوله إلا اثنين وهو كلام لو نطق به وحده لم يستقل فيصير الأول غير مستقل بنفسه وصار المجموع إقرارا بالثمانية فقط ولغا اعتبار اللفظ الأول [ ص: 115 ] على سبيل الاستقلال .
( المثال الثاني ) لا يحنث بغير الكتان إجماعا مع أن قوله لا لبست ثوبا عام في ثياب الكتان وغيرها فإذا نطق بقوله كتانا وصف العموم بهذه الصفة المقتضية للتخصيص ولا نية له اختص الحنث بثياب الكتان وحدها بسبب أن قوله لا لبست ثوبا وإن كان كلاما مستقلا بنفسه غير أنه لحقه كتانا وهو لفظ مفرد لا يستقل بنفسه فصار الأول غير مستقل بنفسه وصار المجموع لا يفيد إلا ثياب الكتان وغير ثياب الكتان لم ينطق بها بطريق من الطرق فلا يحنث بها قول الحالف والله لا لبست ثوبا كتانا
( المثال الثالث ) قول القائل لا يحنث إجماعا بسبب أن قوله لا كلمته وإن كان يقتضي استغراق الأزمان إلى آخر العمر فقد لحقه قوله حتى يعطيني حقي وهو لفظ لو نطق به وحده لم يستقل بنفسه فلما لحق ما هو مستقل بنفسه صيره غير مستقل بنفسه وصار المجموع يقتضي نفي الكلام إلى هذه الغاية فقط وما عداها لا يدخل في اليمين ألبتة باللفظ من غير نية . : والله لا كلمته حتى يعطيني حقي فأعطاه حقه ثم كلمه
( المثال الرابع ) قوله لا يلزمه قبل الدخول للدار طلاق إجماعا بسبب أن قوله أنت طالق ثلاثا وإن كان كلاما يستقل بنفسه لكنه لما لحق به ما لا يستقل بنفسه صيره غير مستقل بنفسه . والله : لا كلمتك إن جئتني في الدار أو أنت طالق ثلاثا إن دخلت الدار
( المثال الخامس ) لو لاختص قتلهم برمضان ولو لم يذكره ويقيد به لقتلوا في جميع السنة غير أن المجرور لما لم يستقل بنفسه صير الأول غير مستقل بنفسه وخصصه . قال : اقتلوا المشركين في شهر رمضان
( المثال السادس ) لو قال : اقتلوا المشركين أمام زيد لاختص قتلهم بتلك الجهة ومن وجد في غيرها لا يقتل ألبتة لما لم يستقل بنفسه صير الأول غير مستقل بنفسه .
( المثال السابع ) لو لاختص قتلهم بحالة العري ولو لم ينطق به لقتلوا في جميع الأحوال لكنه لما لم يكن كلاما مستقلا بنفسه صير الأول غير مستقل بنفسه . قال : اقتلوا المشركين عراة
( المثال الثامن ) ليقتل المشركون وزيد أي مع زيد فلا يقتلون إلا إذا وجدوا معه واللفظ قبل ذلك كان يقتضي قتلهم مطلقا لكنه لما لم يكن كلاما مستقلا بنفسه صير الأول غير مستقل بنفسه .
( المثال التاسع ) اقتلوا المشركين إذهابا لغيظكم فلا يقتلون بغير هذه العلة ولا بدونها وكانوا قبل ذلك يقتلون مطلقا لكنه لما لم يستقل بنفسه صير الأول غير مستقل بنفسه .
( المثال العاشر ) اقتلوا المشركين طلوع الفجر فيمتنع قتلهم في غير هذا الظرف وكانوا يقتلون قبل هذا القيد في جميع الظروف لكنه لما لم يستقل بنفسه صير الأول غير مستقل بنفسه وكذلك البدل والتمييز فهذه اثنا عشر الشرط والغاية والاستثناء والصفة وظرف الزمان وظرف المكان والمجرور والمفعول معه والمفعول من أجله والحال والبدل والتمييز فإذا وضحت هذه القاعدة بمثلها فنقول إذا قال : أنت طالق ثلاثا فإن ثلاثا تفسير لا يستقل بنفسه فيصير الأول غير مستقل بنفسه فلا يلزم به شيء ولا تبين قبل النطق [ ص: 116 ] بقوله ثلاثا وقوله أنت طالق أنت طالق أنت طالق الثاني مستقل بنفسه فلا يكر على الأول بالإيقاف والإبطال فتبين بالأول قبل النطق بالثاني فلا يلزم بالثاني شيء وهذا فرق عظيم ومع هذا الفرق لا يثبت القياس فظهر أن هذه المسألة في غاية الإشكال في مذهب رحمه الله وينبغي لو قضى بها قاض لنقض قضاؤه ويمتنع التقليد فيها لوضوح بطلانها . مالك
( المسألة الثانية ) ما يروى { } استدل بهذا الحديث من يقول الواو للترتيب ولا دليل فيه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بأن يرتب بالحقيقة الزمانية وأن ينطق بلفظ الله أولا ثم يذكر الرسول عليه السلام ثانيا فيحصل الترتيب بالتقديم الدال على الاهتمام والتعظيم وقد فات بسبب جمعهما في الضمير فلذلك ذمه لا لأنه لم ينطق بالواو فسقط الاستدلال بهذا الحديث . أن خطيبا قال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم : من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم بئس خطيب القوم أنت
( المسألة الثالثة ) قوله عز من قائل { إن الصفا والمروة من شعائر الله } قال الصحابة رضي الله عنهم : نبدأ بما بدأ الله به فاستدل به من يقول الواو للترتيب ولا حجة فيه لأن البداءة صرحت بالتقديم بالحقيقة الزمانية المجمع عليها فلم قال هذا المستدل بأن البداءة مضافة لما ذكره من الواو .