( ) الفرق الثاني بين قاعدتي الإنشاء والخبر
الذي هو جنس الشهادة والرواية والدعوى وما ذكرها معها فيما تقدم أما الخبر فهو المحتمل للتصديق والتكذيب لذاته ، والتصديق هو قولنا له صدقت والتكذيب هو قولنا له كذبت ، وهما غير الصدق والكذب فإن التصديق والتكذيب هو قول وجودي مسموع والصدق يرجع إلى مطابقة الخبر ، والكذب يرجع إلى عدم مطابقته فهما نسبة وإضافة والنسب والإضافات عدمية فوقع الفرق بينهما بالوجود والعدم ومن وجه آخر إن الصدق والكذب هو المخبر عنه في التصديق والتكذيب ؛ لأن الصدق والكذب تابع للخبر والتصديق [ ص: 19 ] والتكذيب تابع للصدق والكذب فيقع الفرق بينهما فرق ما بين المخبر عنه والخبر والمتعلق والمتعلق به .
وقولنا لذاته احتراز من تعذر الصدق أو الكذب فيه لأجل المخبر به أو المخبر عنه ، فالأول كخبر الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو خبر مجموع الأمة فإنه لا يقبل الكذب ، والثاني كقولنا الواحد نصف الاثنين فإنه لا يقبل الكذب أو الواحد نصف العشرة فإنه لا يقبل الصدق ، ولكن جميع هذه الإخبارات بالنظر إلى ذاتها مع قطع النظر عن المخبر به أو المخبر عنه تقبلهما من حيث هي إخبار ، فهذا هو حد الخبر الضابط له فإن قلت الصدق والكذب ضدان والضدان يستحيل اجتماعهما فلا يقبل محلهما إلا أحدهما أما هما معا فلا ، وإذا كان المحل لا يقبل إلا أحدهما كان المتعين في الحد هو صيغة [ ص: 20 ] أو التي هي لأحد الشيئين دون الواو التي هي للشيئين معا ، وهذا هو اختيار إمام الحرمين والأول اختيار ، ولأن الصدق والكذب نوعان للخبر ، والنوع لا يعرف إلا بعد معرفة الجنس فلو عرف الجنس به لزم الدور . القاضي أبي بكر
قلت : الجواب عن الأول أن الصواب هو اختيار رحمه الله في صيغة الواو ؛ لأنه لا يلزم من تنافي المقبولين تنافي القبولين ألا ترى أن الممكن قابل للوجود والعدم لذاته ، وهما نقيضان متنافيان والقبولان يجب اجتماعهما له ؛ لأنه لو وجد أحد القبولين دون الآخر للزم من نفي ذلك القبول ثبوت استحالة ذلك المقبول الآخر فإن كان ذلك المستحيل هو الوجود لزم أن يكون ذلك الممكن مستحيلا والمقرر أنه ممكن هذا خلف . القاضي أبي بكر
وإن كان المستحيل هو العدم لزم أن يكون ذلك الممكن واجب الوجود لا ممكن الوجود هذا خلف فلا يتصور الإمكان إلا باجتماع القبولين وإن تنافى المقبولان فتتعين الواو ، وإنما الشبهة التي وقعت لإمام الحرمين التباس القبولين بالمقبولين ، وأنه يلزم من تعذر اجتماع المقبولين تعذر اجتماع القبولين ، وليس كذلك ولذلك نقول كل جسم قابل لجميع الأضداد وقبولاته كلها مجتمعة له ، وإنما المتعاقبة على سبيل البدل هي المقبولات لا القبولات فتأمل ذلك ، ويتقوى ذلك ويتضح بأن الإمكان والوجوب والاستحالة أحكام واجبة الثبوت لمحالها لازمة لها ، والإلزام انقلاب الممكن واجبا أو مستحيلا وبالعكس ، وذلك محال وإذا كانت لازمة لمحالها واللازم لا يفارق الملزوم فالمقبولات لا تفارقها فهي مجتمعة فيها [ ص: 21 ]
والجواب عن الثاني أن المقصود بالحد إنما هو شرح لفظ المحدود وبيان نسبته إليه فإن قولنا الإنسان هو الحيوان الناطق حد صحيح مع أن السامع يجب أن يكون عالما بالحيوان وبالناطق إلا لكان حدنا وقع بالمجهول ، والتحديد بالمجهول لا يصح فهو حينئذ عالم بالحيوان وبالناطق ومتى كان عالما بهما كان عالما بالإنسان ، فإنه لا معنى للإنسان إلا هما ، وإذا كان عالما بالإنسان تعين انصراف التعريف والحد إلى بيان نسبة اللفظ ؛ لأنه إذا سمع لفظ الإنسان فعلم أن له مسمى ما مجملا لم يعلم تفصيله فبسطنا نحن ذلك المسمى أو قلنا له هو الحيوان الناطق الذي أنت تعرفه فلم يحصل له بالحد إلا بيان نسبة اللفظ وخروجه من حيز الإجمال إلى حيز التفصيل والبيان كذلك هاهنا يعلم السامع معنى التصديق والتكذيب ، ولا يعلم مدلول لفظ الخبر فبسطناه نحن له وفصلناه وقلنا له مدلول هذا اللفظ هو الذي يدخله التصديق والتكذيب اللذان تعرفهما فانشرح له ما كان مجملا .
ولذلك قال العلماء في حد الحد هو القول الشارح وعلى هذا يزول الدور عن جميع الحدود إذا كان مدركها هذا المدرك نحو قولهم العلم معرفة المعلوم على ما هو به مع توقف المعلوم على العلم ؛ لأنه مشتق منه ، والأمر هو القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به مع أن المأمور والمأمور به مشتقان من الأمر فهذا آخر القول في حد الخبر .
وأما حد الإنشاء وبيان حقيقته فهو القول الذي بحيث يوجد به مدلوله في نفس الأمر أو متعلقه فقولنا يوجد به مدلوله احتراز مما إذا قال قائل السفر علي واجب فيوجبه الله تعالى عليه عقوبة له فإن الوجوب في هذه الصورة لم يثبت بهذا اللفظ بل بإيجاب الشارع بخلاف إزالة العصمة بالطلاق والملك بالبيع وغير ذلك من صيغ الإنشاء فإنها توجب مدلولاتها .
وإن لم تقترن بها نية ولا أمر آخر من قبل الشارع [ ص: 22 ] وقولنا هو القول الذي بحيث يوجد ، ولم نقل يوجب احتراز من فإنها في تلك الصورة لا يترتب عليها مدلولها ، ولا توجب حكما ولكن ذلك لأمر خارج عنها لكنها بالنظر إلى ذاتها مع قطع النظر عن الأمور الخارجية توجد مدلولاتها فلذلك قلنا بحيث يوجد أي شأنها ذلك ما لم يمنع مانع أو يعارض معارض وقولنا في نفس الأمر احتراز من الخبر فإنه يوجب مدلوله في اعتقاد السامع فإن القائل إذا قال قام زيد أفادنا هذا القول اعتقاد أنه قام ، ولم يفد هذا القول القيام في نفس الأمر بخلاف صيغ الإنشاء فإنها تفيد مدلولاتها في نفس الأمر وفي اعتقاد السامع فصارت خصيصتها هي الإفادة في نفس الأمر أما في اعتقاد السامع فهو أمر مشترك بينها وبين الخبر ولا يحصل به التمييز ، وقولنا أو متعلقه لتندرج الإنشاءات بكلام النفس فإن كلام النفس لا دلالة فيه ولا مدلول ، وإنما فيه متعلق ومتعلق خاصة وسيأتي بيانه في مسائل الإنشاء فيقع الفرق على هذا البيان بين الخبر والإنشاء [ ص: 23 ] من أربعة أوجه . صيغ الإنشاء إذا صدرت من سفيه أو فاقد الأهلية
والوجه الأول أن الإنشاء سبب لمدلوله والخبر ليس سببا لمدلوله فإن العقود أسباب لمدلولاتها ومتعلقاتها بخلاف الأخبار . الوجه الثاني أن الإنشاءات يتبعها مدلولها ، والأخبار تتبع مدلولاتها أما تبعية مدلول الإنشاءات فإن الطلاق والملك مثلا إنما يقعان بعد صدور صيغة الطلاق والبيع .
وأما أن الخبر تابع لمخبره فنعني بالتبعية أنه تابع لتقرر مخبره في زمانه ماضيا كان أو حاضرا أو مستقبلا فقولنا قام زيد تبع لقيامه في الزمان الماضي ، وقولنا هو قائم تبع لقيامه في الحال ، وقولنا سيقوم الساعة تبع لتقرر قيامه في الاستقبال ، وليس المراد بالتبعية التبعية في الوجود ، وإلا لما صدق ذلك إلا في الماضي فقط فإن الحاضر مقارن فلا تبعية لحصول المساواة والمستقبل وجوده بعد الخبر فكان متبوعا لا تابعا فكذا ينبغي أن يفهم معنى قول الفضلاء : الخبر تابع لمخبره ، ومثله قولهم : العلم تابع لمعلومه أي تابع لتقرره في زمانه ماضيا كان المعلوم أو حاضرا أو مستقبلا فإنا نعلم الحاضرات والمستقبلات كما نعلم الماضيات ، والعلم في الجميع تبع لمعلومه فالعلم بأن الشمس تطلع غدا فرع وتابع لتقرر طلوعها في مجاري العادات .
الوجه الثالث : أن الإنشاء لا يقبل التصديق والتكذيب فلا يحسن أن يقال لمن قال لامرأته أنت طالق ثلاثا صدق ولا كذب إلا أن يريد به الإخبار عن طلاق امرأته .
وكذلك لمن قال لعبده أنت حر وغير ذلك من صيغ الإنشاء بخلاف الخبر فإنه قابل للتصديق والتكذيب ، وقد تقدم تقريره في حد الخبر . الوجه الرابع أن الإنشاء لا يقع إلا منقولا عن أصل الوضع في صيغ العقود والطلاق والعتاق ونحوها ، وقد يقع إنشاء في الوضع الأول كالأوامر والنواهي فإنها تنشئ الطلب بالوضع اللغوي الأول ، والخبر يكفي فيه الوضع الأول في جميع صوره فقول الرجل لامرأته أنت طالق ثلاثا لا يفيد طلاق امرأته بالوضع الأول بل أصل هذه الصيغة أنه أخبر عن طلاقها ثلاثا ، وأن لا يلزمه شيء كما يتفق له في بعض أحواله إذا سألته امرأته بعد الطلاق فيقول لها أنت طالق ثلاثا إعلاما لها بتقدم الطلاق فهذا هو أصل الصيغة ، وإنما صارت تفيد الطلاق بسبب النقل العرفي عن الإخبار إلى الإنشاء وكذلك جميع هذه الصيغ
( تنبيه ) :
اعتقد جماعة من الفقهاء أن قولنا في حد الخبر أنه المحتمل للصدق والكذب أن هذا الاحتمال لهما استفاده الخبر من الوضع اللغوي ، وأن [ ص: 24 ] الوضع اقتضى ذلك وليس كذلك بل لا يحتمل الخبر من حيث الوضع إلا الصدق خاصة وتقريره أن العرب إنما وضعت الخبر للصدق دون الكذب لإجماع النحاة والمتحدثين على اللسان أن معنى قولنا قام زيد حصول القيام في الزمان الماضي ، ولم يقل أحد أن معناه صدور القيام أو عدمه بل جزم الجميع بالصدور .
وكذلك جميع الأفعال الماضية وكذلك الأفعال المستقبلة نحو قولنا سيقوم زيد معناه صدور القيام عنه في الزمن المستقبل عينا لا أن معناه صدور القيام أو عدمه ، وكذلك أسماء الفاعلين والمفعولين كقولنا زيد قائم معناه أنه موصوف بالقيام عينا ، وكذلك المجرورات نحو زيد في الدار معناه لغة استقراره فيها دون عدم استقراره لم يختلف في ذلك اثنان من أئمة العربية فعلمنا أن اللغة إنما هي الصدق دون الكذب فإن قلت فما معنى قولكم : إنه يحتمل الصدق والكذب على هذا التقرير الذي اقتضى أن الصدق متعين له فلا يحتمل إلا إياه قلت : معناه أن ذلك يأتيه من جهة المتكلم لا من جهة الوضع فإن المتكلم قد يستعمله صدقا على وفق الوضع وقد يستعمله كذبا على خلاف مطابقة الوضع ، وقولنا في الشيء إنه يحتمل الشيء الفلاني أعم من كونه يحتمله من جهة مخصوصة معينة ، بل إذا احتمله من أي جهة كانت فقد احتمله فإذا احتمله من جهة المتكلم فقد احتمله من حيث الجملة كقولنا في الممكن إنه قابل للوجود والعدم لا نريد أنه يقبل الوجود من سبب معين بل من أي جهة كانت وأي سبب كان كذلك هاهنا ، ونظير قولنا في الخبر أنه يحتمل الصدق والكذب قولنا في الكلام إنه يحتمل الحقيقة والمجاز ، وأجمعنا على [ ص: 25 ] أن المجاز ليس من الوضع الأول ، وكذلك الكذب فالمجاز والكذب إنما يأتيان من جهة المتكلم لا من جهة الوضع ، والذي للوضع هو الصدق والحقيقة فتأمل ذلك .
( تنبيه ) :
قولنا في حد الخبر إنه المحتمل للتصديق والتكذيب إنما يصح على مذهب الجمهور الذين لا يشترطون في حقيقة الكذب القصد إليه بل يكتفون بعدم مطابقته للمخبر عنه في نفس الأمر . وقال وغيره يشترط في حقيقة الكذب القصد إليه وعدم المطابقة فعلى رأي هؤلاء ينقسم الخبر إلى صدق وهو المطابق وكذب وهو غير المطابق الذي قصد إلى عدم مطابقته وإلى ما ليس بصدق ولا كذب وهو غير المطابق الذي لم يقصد إلى عدم مطابقته فهذا القسم الثالث لا يكون عندهم صدقا ولا كذبا ولا يحتملهما مع أنه خبر فيصير الحد غير جامع عندهم فيكون فاسدا لنا . الجاحظ
قوله عليه الصلاة والسلام { } فجعله إذا حدث بكل ما سمعه كاذبا ؛ لأنه فيه غير مطابق في الغالب ، وإن كان لم يعرفه حتى يقصد إليه فدل ذلك على عدم اعتبار القصد في الكذب ، وقوله عليه الصلاة والسلام { كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع } مفهومه أن من كذب غير متعمد لا يستحق النار فدل ذلك على تصور حقيقة الكذب من غير [ ص: 26 ] قصد إليه ، وهو المطلوب احتجوا بقوله تعالى { من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار أفترى على الله كذبا أم به جنة } فقسم الكفار قوله عليه الصلاة والسلام إلى الكذب وإلى الجنون الذي لا يتصور معه القصد مع اعتقادهم عدم المطابقة في القسمين فدل ذلك على أنه لا يسمى كذبا إلا إذا قصد لعدم مطابقته .
والجواب لا نسلم أنهم قسموا قوله عليه الصلاة والسلام إلى مطلق الكذب والجنون بل إلى الافتراء وهو أخص من الكذب فإن الكذب قد يكون مخترعا من جهة الكاذب لم يسمعه من غيره فهذا هو الافتراء وما تبع فيه غيره لا يقال له افتراء فهم قسموا الكذب إلى نوعيه المفترى وغيره لا أنهم قسموا الكلام إلى الكذب وغيره فلا يحصل مقصود الخصم ، وهذا كقولنا في زيد هو تعمد الكذب أم لم يتعمده أو نقول هو ابتدأ هذا الكذب وتعمده أو اتبع فيه غيره أو نطق به غفلة من غير قصد ، ومعلوم أنه إذا صرح بمثل هذا لا يدل على اشتراط القصد في حقيقة الكذب . .