( الفرق الرابع والأربعون بين ) أشكل على جمع من الفضلاء وانبنى على عدم تحرير هذا الفرق الإشكال في مواضع ومسائل حتى خرق بعضهم الإجماع فيها فعمد إلى النظر الأول الذي يحصل به العلم بوجود الصانع قال يمكن فيه نية التقرب مع انعقاد الإجماع على تعذر ذلك فيه كما حكاه الفقهاء في كتبهم فأنكر الإجماع وقال كيف يحكى الإجماع في تعذر هذا وهو واقع في الشريعة في عدة صور فإن غاية هذا الناظر قبل أن ينظر أن يجوز أن يكون له صانع وأن لا يكون وأن يكون هذا النظر واجبا عليه وأن لا يكون وهذا لا يمنع قصد التقرب بدليل ما وقع في الشريعة أن من قاعدة الشك في السبب وبين قاعدة السبب في الشك فإنه يجب عليه أن يصلي وينوي التقرب بتلك الصلاة المشكوك فيها وكذلك من شك هل صلى أم لا فإنه ينوي التقرب بكل واحدة من تلك الخمس مع شكه في وجوبها عليه وكذلك من نسي صلاة من الخمس فإنه يتطهر وينوي بذلك الوضوء التقرب ومن شك هل تطهر أم لا فإنه يصوم وينوي التقرب بذلك الصيام ومن شك هل صام أم لا فإنه يجب عليه إخراج الزكاة وينوي التقرب بها وهو كثير في الشريعة وإذا وقع في الشريعة نية التقرب بالمشكوك فيه جاز شكه في النظر الأول وتكون حكاية الإجماع في تعذره خطأ بل يمكن قصد التقرب به قيل له فإن الشك في صورة النظر الأول في الموجب والشك هاهنا في الواجب فافترقا فقال بل كما لا يمنع الشك في الواجب وهو أحدهما كذلك لا يمنع في الآخر لأن غاية الشك في الموجب أن يفضي إلى الشك في الواجب وهذا لا يمنع فذاك لا يمنع والجواب الحق في هذا السؤال أن الشارع شرع الأحكام وشرع لها أسبابا وجعل من جملة ما شرعه من الأسباب الشك فشرعه في عدة من الصور حيث شاء فإذا شك في الشاة المذكاة والميتة حرمتا معا وسبب التحريم هو الشك وإذا شك هل أخرج الزكاة أم لا حرمتا معا وسبب التحريم هو الشك وإذا شك في الأجنبية وأخته من الرضاعة وجب عليه خمس [ ص: 226 ] صلوات وسبب وجوب الخمس هو الشك وإذا شك هل تطهر أم لا وجب الوضوء وسبب وجوبه الشك . شك في عين الصلاة المنسية
وكذلك بقية النظائر التي ذكرها فالمتقرب في جميع تلك الصور جازم بوجود الموجب وهو الله تعالى وسبب الوجوب الذي هو الشك والواجب الذي هو الفعل ودليل الوجوب الذي هو الإجماع أو النص فالجميع معلوم وفي صورة النظر لا شيء منها بمعلوم بل الجميع مجهول مشكوك فيه فالشك في السبب غير السبب في الشك فالأول يمنع التقرب ولا يتقرر معه حكم والثاني لا يمنع التقرب وتتقرر معه الأحكام كما رأيت في هذه النظائر فاندفع سؤال هذا السائل وصح الإجماع ونقل العلماء فيه وما أورده من النقوض عليهم لا يرد ولا ندعي أن صاحب الشرع نصب الشك سببا في جميع صوره بل في بعض الصور بحسب ما يدل عليه الإجماع أو النص وقد يلغي صاحب الشرع الشك فلا يجعل فيه شيئا كمن فلا شيء عليه والشك لغو ومن شك هل طلق أم لا فلا شيء عليه والشك لغو فهذه صور من الشك أجمع الناس على عدم اعتباره فيها كما أجمعوا على اعتباره فيما تقدم ذكره من تلك الصور وقسم ثالث اختلف العلماء في نصبه سببا كمن شك في صلاته هل سها أم لا فاعتبره شك هل أحدث أم لا دون مالك ومن الشافعي ألزمه شك هل طلق ثلاثا أم اثنتين الطلقة المشكوك فيها دون مالك . الشافعي
ومن ألزمه حلف يمينا وشك ما هي جميع الأيمان فقد انقسم الشك ثلاثة أقسام مجمع على اعتباره ومجمع على إلغائه ومختلف فيه ويتضح لك الفرق أيضا بين الشك في الأسباب وبين الأسباب في الشك بذكر ثلاث مسائل ( المسألة الأولى ) مالك
قال بعض العلماء إذا فإنه يصلي خمسا وتصح نيته مع التردد والقاعدة أن النية لا تصح مع التردد واستثنيت هذه الصورة لتعذر جزم النية فيها وليس الأمر كما قالوا بل المصلي جازم بوجوب الخمس عليه لوجود سبب وجوبها وهو الشك وإذا وجد سبب الوجوب جزم المكلف بالوجوب وكانت نيته جازمة لا مترددة وكذلك من نسي صلاة من خمس الكعبة وقلنا يصلي أربع صلوات جزمنا بوجوب أربع عليه بسبب الشك ويصلي الأربع بنية جازمة وكذلك من شك في جهة فإنه جازم بالتحريم لوجود سببه الذي هو الشك [ ص: 227 ] وكذلك من التبست عليه الأواني أو الثياب وقلنا يجتهد فإنه يجزم بوجوب الاجتهاد عليه ولا تردد في شيء من هذه الصور ألبتة بل القصد جازم والنية جازمة وقس على ذلك بقية النظائر كما تقدم . التبست عليه الأجنبية بأخته أو المذكاة بالميتة
( المسألة الثانية ) من فإنه يجعلها ثلاثا ويصلي ركعة ويسجد سجدتين بعد السلام مع أن القاعدة أن من شك هل سها أم لا لا سجود عليه وهو يجوز أن يكون زاد وأن لا يكون فكيف يسجد مع أنه في غير هذه الصورة لو شك هل زاد أم لا لا يسجد فتصير هذه المسألة من أعظم المشكلات ويتعذر الفرق بين من شك هل سها أم لا وبين هذه الصورة ولقد ذكرت هذا الإشكال لجماعة من الفضلاء الأعيان فلم يجدوا عنه جوابا ثم أنه كيف يصلي هذه الركعة التي قام إليها ولا بد فيها من تجديد النية فكيف ينوي التقرب بها مع عدم الجزم بوجوبها ويجوز أن تكون محرمة خامسة وأن تكون واجبة رابعة ومع التردد لا جزم شك في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أو أربعا
والجواب عن جميع ذلك أن صاحب الشرع جعل الشك في هذه الصورة سببا لوجوب ركعة وجوب سجدتين بعد السلام ويدل على ذلك أن القاعدة أن ترتب الحكم على الوصف يقتضي عليه ذلك الوصف لذلك الحكم فصاحب الشرع قد رتب هذه الأحكام على الشك فقال { } فرتب الأحكام المذكورة على الشك المذكور والترتيب دليل السببية كما لو قال إذا سها أحدكم فليسجد وإذا أحدث فليتوضأ ونحوه فإنه لا يفهم عنه إلا سببية الأوصاف المتقدمة لهذه الأحكام فيكون الشك سبب وجوب هذه الركعة وسجود السهو وعلى هذا تكون أسباب السجود ثلاثة الزيادة والنقصان والشك وهذا الثالث قل أن يتفطن له فتأمله ولا تجد ما يسوغ على مقتضى القواعد غيره وبه يظهر الفرق بين الشك في سبب السهو وبين الشك في العدد وأن الأول شك في السبب والثاني سبب في الشك بمعنى أن الشك هو الذي جعله الشرع محل السببية فذكرته بهذه العبارة ليحصل التقابل بينه وبين الأول طردا وعكسا ( المسألة الثالثة ) إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أصلى ثلاثا أم أربعا فليأت بركعة ويسجد سجدتين يرغم بهما أنف الشيطان
وقع في بعض تعاليق المذهب أن فسأل العلماء فقالوا له يلزمك أن تمسح رأسك وتعيد الصلوات الخمس فذهب ليفعل ذلك فنسي مسح رأسه وصلى الصلوات الخمس ثم جاء يستفتي عن ذلك من سأله عن ذلك أولا فقالوا له اذهب وامسح رأسك وأعد العشاء وحدها فأشكل ذلك على جماعة من فقهاء العصر وقالوا الشك موجود في الحالتين فكيف أمر أولا بإعادة الصلوات كلها وفي ثاني الحال أمر بإعادة العشاء وحدها رجلا توضأ وصلى الصبح والظهر والعصر والمغرب بوضوء واحد [ ص: 228 ] ثم أحدث وتوضأ وصلى العشاء ثم تيقن أنه نسي مسح رأسه من أحد الوضوءين لا يدري أيهما هو ؟
والجواب أن المسح المتروك إن كان من وضوء الصلوات الأربع فقد أعادها بوضوء العشاء بعد أن استفتى أولا فبرئت الذمة منها وإن كان ذلك من وضوء العشاء فقد برئت الذمة منها بوضوئها الأول فقد برئت الذمة منها على التقديرين ولم يبق الشك إلا في العشاء فعلى تقدير أن يكون المسح نسي من وضوئها تكون ثابتة في ذمته لأنه إنما صلاها بوضوء واحد وهو وضوء العشاء أما غيرها من الصلوات فقد صليت بوضوءين فتصح أما بالأول وأما بالثاني بخلاف العشاء فلذلك اختلف جواب المفتي قبل الإعادة وبعدها .