( الفرق السادس والتسعون بين قاعدة من يتعين تقديمه وبين قاعدة من يتعين تأخيره في الولايات والمناصب والاستحقاقات الشرعية )
اعلم أنه يجب أن
nindex.php?page=treesubj&link=8138_8139_8135_15083_15075_15096يقدم في كل ولاية من هو أقوم بمصالحها على من هو دونه ، فيقدم في ولاية الحروب من هو أعرف بمكائد الحروب وسياسة الجيوش والصولة على الأعداء والهيبة عليهم ، ويقدم في القضاء من هو أعرف بالأحكام الشرعية وأشد تفطنا لحجاج الخصوم وخدعهم ، وهو
[ ص: 158 ] معنى قوله {
عليه السلام أقضاكم علي } أي هو أشد تفطنا لحجاج الخصوم وخدع المتحاكمين .
وبه يظهر الجمع بينه وبين قوله {
nindex.php?page=hadith&LINKID=1261عليه السلام أعلمكم بالحلال والحرام nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ بن جبل } وإذا كان
nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ عرف بالحلال والحرام كان أقضى الناس غير أن القضاء لما كان يرجع إلى معرفة الحجاج والتفطن لها كان أمرا زائدا على معرفة الحلال والحرام فقد يكون الإنسان شديد المعرفة بالحلال والحرام .
وهو يخدع بأيسر الشبهات فالقضاء عبارة عن هذا التفطن ، ولهذا قال عليه السلام {
nindex.php?page=hadith&LINKID=12365إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع } الحديث فدل ذلك على أن القضاء تبع الحجاج وأحوالها فمن كان لها أشد تفطنا كان أقضى من غيره ، ويقدم في القضاء ويقدم في أمانة اليتيم من هو أعلم بتنمية أموال اليتامى وتقدير أموال النفقات وأحوال الكوافل والمناظرات عند الحكام عن أموال الأيتام ، ويقدم في جباية الصدقات من هو أعرف بمقادير النصب وأحكام الزكاة من الخلطة وغيرها .
ويقدم في الصلاة من هو أعرف بأحكامها وعوارض سهوها واستخلافها وغير ذلك من عوارضها ومصالحها حتى يكون المقدم في باب ربما أخر في باب آخر كالنساء مقدمات في باب الحضانة على الرجال ؛ لأنهن أصبر على أخلاق الصبيان وأشد شفقة ورأفة وأقل أنفة عن قاذورات الأطفال ، والرجال على العكس من ذلك في هذه الأحوال فقدمن لذلك وأخر الرجال عنهن وأخرن في الإمامة والحروب وغيرهما من المناصب ؛ لأن الرجال أقوم بمصالح تلك الولايات منهن
[ ص: 159 ]
ويظهر لك باعتبار هذا التقرير أن التقديم في الصلاة لا يلزم منه من حيث هو تقديم في الصلاة التقديم في الإمامة العظمى ؛ لأن الإمامة العظمى مشتملة على سياسة الأمة ومعرفة معاقد الشريعة وضبط الجيوش وولاية الأكفاء وعزل الضعفاء ومكافحة الأضداد والأعداء وتصريف الأموال وأخذها من مظانها وصرفها في مستحقاتها إلى غير ذلك مما هو معروف بالإمامة الكبرى .
وعلى هذا ورد سؤال عن قول
عمر لأبي بكر رضي الله عنهما في أمر الإمامة رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاك لدنيانا إشارة لتقديمه في الصلاة فجعل
عمر [ ص: 160 ] ذلك دليلا على تقديمه رضي الله عنه للإمامة وهذا في ظاهر الحال لا يستقيم ؛ لأنه لا يلزم من التقديم في الصلاة التقديم في الخلافة .
والجواب عن هذا السؤال من وجوه الأول ما ذكره بعض العلماء وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن
nindex.php?page=showalam&ids=1أبا بكر الصديق هو المتعين للخلافة ، ولم يمكن أن يفعل ذلك من قبل نفسه ؛ لأنه عليه السلام يتبع ما أنزل عليه من ربه ، وما أنزل عليه في ذلك شيء يعتمد عليه فعند ذلك ، وكل الأمر فيه إلى الاجتهاد فكان عليه السلام يشير إلى خلافته بالإيماء وأنواع التكريم والثناء عليه بمحاسنه التي توجب تقديمه فمن ذلك تقديمه عليه السلام في الصلاة {
nindex.php?page=hadith&LINKID=87293وقوله عليه السلام في مرض موته يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر } مشيرا بذلك إلى أن من كان متعينا للخلافة كيف يتقدم عليه غيره للصلاة فمراد
عمر رضي الله عنه أنك رضيك النبي عليه السلام لديننا الرضا الخاص الذي تقدم تفسيره فيتعين علينا أن نرضاك للخلافة .
وليس المراد مطلق الرضا بحيث يقتصر على أهليته للإمامة في الصلاة خاصة الثاني أن
عمر رضي الله عنه قصد بذلك تسكين الثائرة والفتنة وردع الأهواء بذكر حجة ظاهرة ليسكن لها أكثر الناس فيندفع الفساد .
وثالثها أن يجعل قول
عمر رضيك النبي عليه السلام لديننا على ظاهره وتجعل الإضافة على بابها موجبة للعموم كما تقرر أنه هو اللغة عند الأصوليين فجعلوها من صيغ العموم لغة ، ومنه قوله عليه السلام {
nindex.php?page=hadith&LINKID=39003هو الطهور ماؤه الحل ميتته } فكان ذلك عاما في جميع ماء البحر وميتته بسبب الإضافة ففهم
عمر من إشارته عليه السلام أن
الصديق مرضي لجميع حرمات الدين ومن جملة ذلك أحوال الأمة والنظر في مصالح الملة فإنه من أعم
[ ص: 161 ] فروض الكفايات فهو من الدين ، ويكون قوله أفلا نرضاك لدنيانا أي هؤلاء إنما يتنازعون يعني
الأنصار في أمور رئاسة وعلو وحصول الأمر والنهي من قبلهم ، وهذا أمر دنيوي لا ديني فيكون حسيسا بالنسبة إلى الدين الذي هو من جملة مصالح الأمة والملة ، وهذا كلام صحيح فإن المرضي لمعالي الأمور لا يقصر دون خسيسها فاندفع بهذه الوجوه هذا السؤال ، وكان
الصديق رضي الله عنه أجل من هذا كله بين الصحابة رضي الله عنهم ، وإنما قام
الأنصار في منازعته لطلب العلو والرئاسة ، ولهذا قال قائلهم منا أمير ومنكم أمير ومعلوم أن الشركة في الإمامة ليست من مصالح الدين ، فإن ذلك يفضي إلى المخالفة والمشاققة لكن لما لم يجد هذا القائل الأمر يصفو له وحده طلب الشركة تحصيلا لمقصده ، وإن كان ذلك ليس مصلحة للناس .
وقد قال العلماء رحمهم الله إن قوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=44وإنه لذكر لك ولقومك } إنه الخلافة وإنه {
كان صلى الله عليه وسلم يطوف على القبائل في أول أمره لينصروه فيقولون له ويكون لنا الأمر من بعدك فيقول صلى الله عليه وسلم إني قد منعت من ذلك وإنه قد أنزل علي { nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=44وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون } } فلم يكن
للأنصار في هذا الشأن شيء ، وهذا مستوعب في كتب الإمامة وموضعه من أصول الدين ليس هذا موضعه ، وقد سئل بعض علماء القيروان من كان مستحقا للخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سبحان الله إنا بالقيروان نعلم من هو أصلح منا بالقضاء ، ومن هو أصلح منا للفتيا ومن هو أصلح منا للإمامة أيخفى ذلك عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إنما يسأل عن هذه المسائل أهل
العراق ، وصدق رضي الله تعالى عنه فيما قاله
[ ص: 162 ] وبهذه المباحث أيضا يظهر ما قاله العلماء أن
nindex.php?page=treesubj&link=15068الإمام إذا وجد من هو أصلح للقضاء ممن هو متول الآن عزل الأول وولى الثاني ، وكان ذلك واجبا عليه لئلا يفوت على المسلمين مصلحة الأفضل منهما ، ويحرم عليه أن يعزل الأعلى بالأدنى لئلا يفوت على المسلمين مصلحة الأعلى ولا ينفذ عزل الأعلى ؛ لأن الإمام الذي عزله معزول عن عزله ، وإنما ولاه الله تعالى على خلاف ذلك لقوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=34ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } وإذا كان الوصي معزولا عن غير الأحسن في مال اليتيم فمصلحة جميع المسلمين أولى بذلك .
فالإمام الأعظم معزول عن عزل الأصلح للناس ، ومما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم {
nindex.php?page=hadith&LINKID=87295من ولي من أمور أمتي شيئا ثم لم يجتهد لهم ولم ينصح فالجنة عليه حرام }
[ ص: 163 ] والمنهي عنه المحرم لا ينفذ في الشريعة لقوله صلى الله عليه وسلم {
nindex.php?page=hadith&LINKID=35382من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد } فقد تحرر الفرق بين من يصح تقديمه وبين من يصح تأخيره ، وذلك عام في الصلاة والقضاء والأوصياء والكفلاء في الحضانة وفي غيرها ، وولاية النكاح وصلاة الجنازة وكثير من أبواب الفقه يحتاج فيه إلى معرفة هذا الفرق بين هاتين القاعدتين وتحرير ضابطهما وبالله العصمة .
( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ يَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ يَتَعَيَّنُ تَأْخِيرُهُ فِي الْوِلَايَاتِ وَالْمَنَاصِبِ وَالِاسْتِحْقَاقَات الشَّرْعِيَّةِ )
اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=8138_8139_8135_15083_15075_15096يُقَدَّمَ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ مَنْ هُوَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِهَا عَلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ ، فَيُقَدَّمُ فِي وِلَايَةِ الْحُرُوبِ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ بِمَكَائِدِ الْحُرُوبِ وَسِيَاسَةِ الْجُيُوشِ وَالصَّوْلَةِ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَالْهَيْبَةِ عَلَيْهِمْ ، وَيُقَدَّمُ فِي الْقَضَاءِ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَشَدُّ تَفَطُّنًا لِحِجَاجِ الْخُصُومِ وَخُدَعِهِمْ ، وَهُوَ
[ ص: 158 ] مَعْنَى قَوْلِهِ {
عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ } أَيْ هُوَ أَشَدُّ تَفَطُّنًا لِحِجَاجِ الْخُصُومِ وَخُدَعِ الْمُتَحَاكِمِينَ .
وَبِهِ يَظْهَرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=1261عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ nindex.php?page=showalam&ids=32مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ } وَإِذَا كَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=32مُعَاذٌ عُرِفَ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ كَانَ أَقْضَى النَّاسِ غَيْرَ أَنَّ الْقَضَاءَ لَمَّا كَانَ يَرْجِعُ إلَى مَعْرِفَةِ الْحِجَاجِ وَالتَّفَطُّنِ لَهَا كَانَ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَقَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ شَدِيدَ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ .
وَهُوَ يُخْدَعُ بِأَيْسَرِ الشُّبُهَاتِ فَالْقَضَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ هَذَا التَّفَطُّنِ ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=12365إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ يَكُونُ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ } الْحَدِيثَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ تَبَعُ الْحِجَاجِ وَأَحْوَالِهَا فَمَنْ كَانَ لَهَا أَشَدَّ تَفَطُّنًا كَانَ أَقَضَى مِنْ غَيْرِهِ ، وَيُقَدَّمُ فِي الْقَضَاءِ وَيُقَدَّمُ فِي أَمَانَةِ الْيَتِيمِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِتَنْمِيَةِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَتَقْدِيرِ أَمْوَالِ النَّفَقَاتِ وَأَحْوَالِ الْكَوَافِلِ وَالْمُنَاظَرَاتِ عِنْدَ الْحُكَّامِ عَنْ أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ ، وَيُقَدَّمُ فِي جِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ بِمَقَادِيرِ النُّصُبِ وَأَحْكَامِ الزَّكَاةِ مِنْ الْخُلْطَةِ وَغَيْرِهَا .
وَيُقَدَّمُ فِي الصَّلَاةِ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ بِأَحْكَامِهَا وَعَوَارِضِ سَهْوِهَا وَاسْتِخْلَافِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَوَارِضِهَا وَمَصَالِحِهَا حَتَّى يَكُونُ الْمُقَدَّمُ فِي بَابٍ رُبَّمَا أُخِّرَ فِي بَابٍ آخَرَ كَالنِّسَاءِ مُقَدَّمَاتٍ فِي بَابِ الْحَضَانَةِ عَلَى الرِّجَالِ ؛ لِأَنَّهُنَّ أَصْبَرُ عَلَى أَخْلَاقِ الصِّبْيَانِ وَأَشَدُّ شَفَقَةً وَرَأْفَةً وَأَقَلُّ أَنَفَةً عَنْ قَاذُورَاتِ الْأَطْفَالِ ، وَالرِّجَالُ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَقُدِّمْنَ لِذَلِكَ وَأُخِّرَ الرِّجَالُ عَنْهُنَّ وَأَخِّرْنَ فِي الْإِمَامَةِ وَالْحُرُوبِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمَنَاصِبِ ؛ لِأَنَّ الرِّجَالَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِ تِلْكَ الْوِلَايَاتِ مِنْهُنَّ
[ ص: 159 ]
وَيَظْهَرُ لَك بِاعْتِبَارِ هَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ التَّقْدِيمَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَقْدِيمٌ فِي الصَّلَاةِ التَّقْدِيمُ فِي الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ الْعُظْمَى مُشْتَمِلَةٌ عَلَى سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَمَعْرِفَةِ مُعَاقَدِ الشَّرِيعَةِ وَضَبْطِ الْجُيُوشِ وَوِلَايَةِ الْأَكْفَاءِ وَعَزْلِ الضُّعَفَاءِ وَمُكَافَحَةِ الْأَضْدَادِ وَالْأَعْدَاءِ وَتَصْرِيفِ الْأَمْوَالِ وَأَخْذِهَا مِنْ مَظَانِّهَا وَصَرْفِهَا فِي مُسْتَحَقَّاتِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ بِالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى .
وَعَلَى هَذَا وَرَدَ سُؤَالٌ عَنْ قَوْلِ
عُمَرَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي أَمْرِ الْإِمَامَةِ رَضِيَك رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاك لِدُنْيَانَا إشَارَةٌ لِتَقْدِيمِهِ فِي الصَّلَاةِ فَجَعَلَ
عُمَرُ [ ص: 160 ] ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَقْدِيمِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْإِمَامَةِ وَهَذَا فِي ظَاهِرِ الْحَالِ لَا يَسْتَقِيمُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ التَّقْدِيمِ فِي الصَّلَاةِ التَّقْدِيمُ فِي الْخِلَافَةِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=1أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ لِلْخِلَافَةِ ، وَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَّبِعُ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ ، وُكِّلَ الْأَمْرُ فِيهِ إلَى الِاجْتِهَادِ فَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُشِيرُ إلَى خِلَافَتِهِ بِالْإِيمَاءِ وَأَنْوَاعِ التَّكْرِيمِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِمَحَاسِنِهِ الَّتِي تُوجِبُ تَقْدِيمَهُ فَمِنْ ذَلِكَ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الصَّلَاةِ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=87293وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُسْلِمُونَ إلَّا أَبَا بَكْرٍ } مُشِيرًا بِذَلِكَ إلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مُتَعَيِّنًا لِلْخِلَافَةِ كَيْفَ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ لِلصَّلَاةِ فَمُرَادُ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّك رَضِيَك النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِدِينِنَا الرِّضَا الْخَاصَّ الَّذِي تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْنَا أَنْ نَرْضَاك لِلْخِلَافَةِ .
وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُطْلَقَ الرِّضَا بِحَيْثُ يَقْتَصِرُ عَلَى أَهْلِيَّتِهِ لِلْإِمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ خَاصَّةً الثَّانِي أَنَّ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَصَدَ بِذَلِكَ تَسْكِينَ الثَّائِرَةِ وَالْفِتْنَةِ وَرَدْعَ الْأَهْوَاءِ بِذِكْرِ حُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ لِيَسْكُنَ لَهَا أَكْثَرُ النَّاسِ فَيَنْدَفِعَ الْفَسَادُ .
وَثَالِثُهَا أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُ
عُمَرَ رَضِيَك النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِدِينِنَا عَلَى ظَاهِرِهِ وَتُجْعَلَ الْإِضَافَةُ عَلَى بَابِهَا مُوجِبَةً لِلْعُمُومِ كَمَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ هُوَ اللُّغَةُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ فَجَعَلُوهَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ لُغَةً ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=39003هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } فَكَانَ ذَلِكَ عَامًّا فِي جَمِيعِ مَاءِ الْبَحْرِ وَمَيْتَتِهِ بِسَبَبِ الْإِضَافَةِ فَفَهِمَ
عُمَرُ مِنْ إشَارَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ
الصِّدِّيقَ مَرْضِيٌّ لِجَمِيعِ حُرُمَاتِ الدِّينِ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَحْوَالُ الْأُمَّةِ وَالنَّظَرُ فِي مَصَالِحِ الْمِلَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ أَعَمِّ
[ ص: 161 ] فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ فَهُوَ مِنْ الدِّينِ ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ أَفَلَا نَرْضَاك لِدُنْيَانَا أَيْ هَؤُلَاءِ إنَّمَا يَتَنَازَعُونَ يَعْنِي
الْأَنْصَارَ فِي أُمُورِ رِئَاسَةٍ وَعُلُوٍّ وَحُصُولِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ قِبَلِهِمْ ، وَهَذَا أَمْرٌ دُنْيَوِيٌّ لَا دِينِيٌّ فَيَكُونُ حَسِيسًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الدِّينِ الَّذِي هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ وَالْمِلَّةِ ، وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ فَإِنَّ الْمَرْضِيَّ لِمَعَالِي الْأُمُورِ لَا يَقْصُرُ دُونَ خَسِيسِهَا فَانْدَفَعَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ هَذَا السُّؤَالُ ، وَكَانَ
الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَلَّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَإِنَّمَا قَامَ
الْأَنْصَارُ فِي مُنَازَعَتِهِ لِطَلَبِ الْعُلُوِّ وَالرِّئَاسَةِ ، وَلِهَذَا قَالَ قَائِلُهُمْ مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْإِمَامَةِ لَيْسَتْ مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى الْمُخَالَفَةِ وَالْمُشَاقَقَةِ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَجِدْ هَذَا الْقَائِلُ الْأَمْرَ يَصْفُو لَهُ وَحْدَهُ طَلَبَ الشَّرِكَةَ تَحْصِيلًا لِمَقْصِدِهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَيْسَ مَصْلَحَةً لِلنَّاسِ .
وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ إنَّ قَوْله تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=44وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَك وَلِقَوْمِك } إنَّهُ الْخِلَافَةُ وَإِنَّهُ {
كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ عَلَى الْقَبَائِلِ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ لِيَنْصُرُوهُ فَيَقُولُونَ لَهُ وَيَكُونُ لَنَا الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِك فَيَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي قَدْ مُنِعْتُ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ { nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=44وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَك وَلِقَوْمِك وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } } فَلَمْ يَكُنْ
لِلْأَنْصَارِ فِي هَذَا الشَّأْنِ شَيْءٌ ، وَهَذَا مُسْتَوْعَبٌ فِي كُتُبِ الْإِمَامَةِ وَمَوْضِعُهُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ ، وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْقَيْرَوَانِ مَنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْخِلَافَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ إنَّا بِالْقَيْرَوَانِ نَعْلَمُ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ مِنَّا بِالْقَضَاءِ ، وَمَنْ هُوَ أَصْلَحُ مِنَّا لِلْفُتْيَا وَمَنْ هُوَ أَصْلَحُ مِنَّا لِلْإِمَامَةِ أَيَخْفَى ذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا يَسْأَلُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَهْلُ
الْعِرَاقِ ، وَصَدَقَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِيمَا قَالَهُ
[ ص: 162 ] وَبِهَذِهِ الْمَبَاحِثِ أَيْضًا يَظْهَرُ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=15068الْإِمَامَ إذَا وَجَدَ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ لِلْقَضَاءِ مِمَّنْ هُوَ مُتَوَلٍّ الْآنَ عَزَلَ الْأَوَّلَ وَوَلَّى الثَّانِيَ ، وَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ لِئَلَّا يُفَوِّتَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةَ الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْزِلَ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى لِئَلَّا يُفَوِّتَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةَ الْأَعْلَى وَلَا يَنْفُذُ عَزْلُ الْأَعْلَى ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ الَّذِي عَزَلَهُ مَعْزُولٌ عَنْ عَزْلِهِ ، وَإِنَّمَا وَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=34وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وَإِذَا كَانَ الْوَصِيُّ مَعْزُولًا عَنْ غَيْرِ الْأَحْسَنِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ فَمَصْلَحَةُ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى بِذَلِكَ .
فَالْإِمَامُ الْأَعْظَمُ مَعْزُولٌ عَنْ عَزْلِ الْأَصْلَحِ لِلنَّاسِ ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=87295مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُورِ أُمَّتِي شَيْئًا ثُمَّ لَمْ يَجْتَهِدْ لَهُمْ وَلَمْ يَنْصَحْ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ }
[ ص: 163 ] وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ الْمُحَرَّمُ لَا يَنْفُذُ فِي الشَّرِيعَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=35382مَنْ أَدْخَلَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ } فَقَدْ تَحَرَّرَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ يَصِحُّ تَقْدِيمُهُ وَبَيْنَ مَنْ يَصِحُّ تَأْخِيرُهُ ، وَذَلِكَ عَامٌّ فِي الصَّلَاةِ وَالْقَضَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ وَالْكُفَلَاءِ فِي الْحَضَانَةِ وَفِي غَيْرِهَا ، وَوِلَايَةُ النِّكَاحِ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى مَعْرِفَةِ هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ وَتَحْرِيرِ ضَابِطِهِمَا وَبِاَللَّهِ الْعِصْمَةُ .