( الفرق المائة بين قاعدة النواح حرام وبين قاعدة المراثي مباحة ) اعلم أنه قد اشتهر بين الناس
nindex.php?page=treesubj&link=2170_24659_2315تحريم النواح وتفسيق النائحة دون
nindex.php?page=treesubj&link=24659_2315تفسيق الشعراء الذين يرثون الموتى من الملوك والأعيان ، وكان
الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله يقول إن بعض المراثي حرام كالنواح وتحرير القول فيهما وضبطهما أن النوح إنما حرم ؛ لأنه يقتضي نسبة الرب سبحانه وتعالى إلى الجور في قضائه والتبرم بقدره ، وأن الواقع من موت هذا الميت لم يكن مصلحة بل مفسدة عظيمة ، وتكون النائحة تذكر كلاما يقرر ذلك في النفوس ، وتوضحه للأفهام وتحمل السامعين على اعتقاد ذلك فكل لفظ تضمن ذلك كان حراما نظما كان أو نثرا مرثية أو نواحا ، وقد جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التصريح بتحريم النواح ، وورد في الحديث {
أن النائحة تكسى يوم القيامة قميصين قميص من جرب وقميص من قطران } وسره أن الأجرب سريع الألم لتقرح جلده .
والقطران يقوي شعلة النار فيكون عذابها بالنار بسبب هذين القميصين أشد العذاب وفي
nindex.php?page=showalam&ids=11998أبي داود {
nindex.php?page=hadith&LINKID=73864لعن الله النائحة والمستمعة } قال
سند من أصحابنا هي التي تتخذ النواح صنعة ، قال وإلا فالمرة مكروهة لما في
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري {
nindex.php?page=hadith&LINKID=87300أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك نساء جعفر لم يسكتهن } وفيه عن
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر رضي الله عنه جيء بأبي يوم
أحد وقد مثل به وساق الحديث إلى أن قال فسمع صوت نائحة فقال من هذه ؟ فقالوا
ابنة عمر فقال فلتبكي ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع وفيه {
nindex.php?page=hadith&LINKID=87301عن أم عطية رضي الله عنها أخذ علينا النبي صلى الله عليه وسلم أن لا ننوح فما وفت منا امرأة غير خمس نسوة سمتهن } ، والنواح من الكبائر
.
nindex.php?page=treesubj&link=2170_2315وصورته أن تقول النائحة لفظا يقتضي فرط جمال الميت وحسنه وكماله وشجاعته وبراعته وأبهته ورئاسته ، وتبالغ فيما كان يفعل من إكرام
[ ص: 173 ] الضيف والضرب بالسيف والذب عن الحريم والجار إلى غير ذلك من صفات الميت التي يقتضي مثلها أن لا يموت فإن بموته هذه تنقطع هذه المصالح ويعز وجود مثل الموصوف بهذه الصفات ويعظم التفجع على فقد مثله وأن الحكمة كانت تقتضي بقاءه وتطويل عمره لتكثير تلك المصالح في العلم فمتى كان لفظها مشتملا على هذا كان حراما ، وهذا
nindex.php?page=treesubj&link=2315أشر النواح وتارة لا تصل إلى هذه الغاية غير أنه تبعد السلوة عن أهل الميت ، وتهيج الأسف عليهم فيؤدي ذلك إلى تعذيب نفوسهم وقلة صبرهم وضجرهم ، وربما بعثهم ذلك على القنوط وشق الجيوب وضرب الخدود فهذا أيضا حرام ، ومتى كان لفظ النائحة ليس فيه شيء من ذلك بل ذكر دين الميت ، وأنه انتقل إلى جزاء أعماله الحسنة ومجاورة أهل السعادة ، وأنه أتى عليه ما قضى على عامة الناس ، وأن هذا سبيل لا بد منه ، وأنه موطن اشترك فيه جميع الخلائق ، وباب لا بد من دخوله فهذا ليس بحرام فإن زادت على ذلك بأن تأمر أهل الميت بالصبر ، وتحثهم على طلب الأجر والثواب ، وأنهم ينبغي لهم أن يحتسبوا ميتهم في سبيل الله .
ويعتمدون في حسن الخلف على الله تعالى ونحو ذلك فهذا مندوب إليه مأمور به وعلى هذه القوانين تتخرج المراثي فتنقسم أيضا إلى المحرمة الكبيرة وإلى المحرمة الصغيرة وإلى المباح وإلى المندوب على قدر ما يتضمنه لفظ المرثية فمن المراثي المباحة الخالية عن التحريم ما رثى به
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر أخاه
nindex.php?page=showalam&ids=16274عاصما لما مات فقال :
فإن تك أحزان وفائض دمعة جرين دما من داخل الجوف منقعا تجرعتها في nindex.php?page=showalam&ids=16274عاصم واحتسبتها
فأعظم منها ما احتسى وتجرعا فليت المنايا كن خلفن nindex.php?page=showalam&ids=16274عاصما
فعشنا جميعا أو ذهبن بنا معا دفعنا بك الأيام حتى إذا أتت
تريدك لم نسطع لها عنك مدفعا
[ ص: 174 ] فهذا رثاء مباح لا يحرم مثله .
وليس فيه ما يشير إلى التجوير ولا تسفيه القضاء بل إنه حزين متألم لميته ، وكان يشتهي لو مات معه فهذا أمر قريب لا غرو فيه ، ومثال الرثاء المندوب ما روي أن
nindex.php?page=showalam&ids=18العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه لما مات عظم مصابه على ابنه
nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله ، وكان
nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عظيما عند الناس في نفسه ؛ لأنه كان ترجمان القرآن وافر العقل جميل المحاسن والجلالة والأوصاف الحميدة فأعظمه الناس على التعزية إجلالا له ومهابة بسبب عظمته في نفسه وعظمة من أصيب به ، فإن
nindex.php?page=showalam&ids=18العباس رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي بعد وفاته صلى الله عليه وسلم مثل والده وكان يقال من أشجع الناس فيقال
nindex.php?page=showalam&ids=18العباس ومن أعلم الناس فيقال
nindex.php?page=showalam&ids=18العباس . ومن أكرم الناس فيقال
nindex.php?page=showalam&ids=18العباس فلما مات عظم خطبه وجلت رزيته في صدور الناس وفي صدر ولده
عبد الله رضي الله عنهما وأحجم الناس عن تعزيته فأقاموا على ذلك شهرا كما ذكره المؤرخون فبعد الشهر قدم أعرابي من البادية فسأل عن
nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله بن عباس فقال له الناس ما تريد فقال أريد أن أعزي
nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقام الناس معه عساه أن يفتح لهم باب التعزية فلما رأى
nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله بن عباس قال له سلام عليك يا
أبا الفضل فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وعليك السلام ورحمة الله وبركاته فأنشده :
اصبر نكن بك صابرين فإنما صبر الرعية عند صبر الراس
خير من nindex.php?page=showalam&ids=18العباس أجرك بعده والله خير منك nindex.php?page=showalam&ids=18للعباس
فلما سمع
nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله بن عباس رثاءه واستوعب شعره سري عنه عظيم ما كان به . واسترسل الناس في تعزيته
وهذا كلام في غاية الجودة من الرثاء مسهل للمصيبة مذهب للحزن محسن
[ ص: 175 ] لتصرف القضاء مثن على الرب تعالى بإحسان وجميل العوارف ، فهذا حسن جميل ومثله ما ورد في الأخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي سمع أهل بيته قائلا يقول يسمعون صوته ولا يرون شخصه : سلام عليكم أهل البيت إن في الله خلفا من كل فائت وعوضا من كل ذاهب فإياه فارجوا وبه فثقوا فإن المصاب من حرم الثواب فكانوا يرونه
الخضر عليه السلام فهذا أيضا كلام من القربات ومندرج في سلك المندوبات ومن
nindex.php?page=treesubj&link=18940_24659الرثاء المحرم الفظيع ما وقع في عصرنا في رثاء الخليفة
ببغداد في أيام
الصالح رحم الله الجميع فعمل له
الملك الصالح عزاء جمع فيه الأكابر والأعيان والقراء والشعراء فأنشد بعض الشعراء في مرثيته :
مات من كان بعض أجناده الموت ومن كان يختشيه القضاء
فسمعه
الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله وهو جالس في المحفل فأمر بتأديبه وحبسه .
وأغلظ الإنكار عليه وبالغ في تقبيح رثائه ، وأقام بعد التعزير في الحبس زمانا طويلا ثم استتابه بعد شفاعة الأمراء والرؤساء فيه وأمره أن ينظم قصيدة يثني فيها على الله عز وجل تكون مكفرة لما تضمنه شعره من التعرض للقضاء بقوله من كان بعض أجناده الموت تعظيما لشأن هذا الميت ، وأن مثل هذا الميت ما كان ينبغي أن يخلو منه منصب الخلافة ومتى تأتي الأيام بمثل هذا ونحو ذلك .
وقوله : يختشيه القضاء يشير إلى أن الله تعالى كان يخاف منه وهذا إما كفر صريح وهو الظاهر من لفظه أو قريب من الكفر فالشعراء في مراثيهم يهجمون على أمور صعبة رغبة في الإغراب والتمدح بأنه طرق معنى لم يطرق قبله فيقعون في هذا ومثله ، ولذلك وصفهم الله تعالى بقوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=225ألم تر أنهم في كل واد يهيمون } قال المفسرون هذه الأودية هي أودية الهجاء المحرم ونحوه مما لا يحل قوله ، فظهر لك بهذا البسط والتقرير
nindex.php?page=treesubj&link=2315الفرق بين النواح المحرم والرثاء [ ص: 176 ] المحرم من غيره بتقرير القواعد المتقدمة فقس عليه ما يرد عليك من ذلك في البابين .
( الْفَرْقُ الْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ النُّوَاحُ حَرَامٌ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَرَاثِي مُبَاحَةٌ ) اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ اُشْتُهِرَ بَيْنَ النَّاسِ
nindex.php?page=treesubj&link=2170_24659_2315تَحْرِيمُ النُّوَاحِ وَتَفْسِيقُ النَّائِحَةِ دُونَ
nindex.php?page=treesubj&link=24659_2315تَفْسِيقِ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ يَرْثُونَ الْمَوْتَى مِنْ الْمُلُوكِ وَالْأَعْيَانِ ، وَكَانَ
الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ إنَّ بَعْضَ الْمَرَاثِي حَرَامٌ كَالنُّوَاحِ وَتَحْرِيرُ الْقَوْلِ فِيهِمَا وَضَبْطُهُمَا أَنَّ النُّوحَ إنَّمَا حَرُمَ ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي نِسْبَةَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى الْجَوْرِ فِي قَضَائِهِ وَالتَّبَرُّمَ بِقَدَرِهِ ، وَأَنَّ الْوَاقِعَ مِنْ مَوْتِ هَذَا الْمَيِّتِ لَمْ يَكُنْ مَصْلَحَةً بَلْ مَفْسَدَةً عَظِيمَةً ، وَتَكُونُ النَّائِحَةُ تَذْكُرُ كَلَامًا يُقَرِّرُ ذَلِكَ فِي النُّفُوسِ ، وَتُوَضِّحُهُ لِلْأَفْهَامِ وَتَحْمِلُ السَّامِعِينَ عَلَى اعْتِقَادِ ذَلِكَ فَكُلُّ لَفْظٍ تَضَمَّنَ ذَلِكَ كَانَ حَرَامًا نَظْمًا كَانَ أَوْ نَثْرًا مَرْثِيَّةً أَوْ نُوَاحًا ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّصْرِيحُ بِتَحْرِيمِ النُّوَاحِ ، وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ {
أَنَّ النَّائِحَةَ تُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَمِيصَيْنِ قَمِيصٌ مِنْ جَرَبٍ وَقَمِيصٌ مِنْ قَطِرَانٍ } وَسِرُّهُ أَنَّ الْأَجْرَبَ سَرِيعُ الْأَلَمِ لِتَقَرُّحِ جِلْدِهِ .
وَالْقَطِرَانُ يُقَوِّي شُعْلَةَ النَّارِ فَيَكُونُ عَذَابُهَا بِالنَّارِ بِسَبَبِ هَذَيْنِ الْقَمِيصَيْنِ أَشَدَّ الْعَذَابِ وَفِي
nindex.php?page=showalam&ids=11998أَبِي دَاوُد {
nindex.php?page=hadith&LINKID=73864لَعَنَ اللَّهُ النَّائِحَةَ وَالْمُسْتَمِعَةَ } قَالَ
سَنَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا هِيَ الَّتِي تَتَّخِذُ النُّوَاحَ صَنْعَةً ، قَالَ وَإِلَّا فَالْمَرَّةُ مَكْرُوهَةٌ لِمَا فِي
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيِّ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=87300أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ نِسَاءَ جَعْفَرٍ لَمْ يُسْكِتْهُنَّ } وَفِيهِ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=36جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جِيءَ بِأَبِي يَوْمَ
أُحُدٍ وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ وَسَاقَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ فَسَمِعَ صَوْتَ نَائِحَةٍ فَقَالَ مَنْ هَذِهِ ؟ فَقَالُوا
ابْنَةُ عُمَرَ فَقَالَ فَلْتَبْكِي مَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ وَفِيهِ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=87301عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخَذَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا نَنُوحَ فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ غَيْرُ خَمْسِ نِسْوَةٍ سَمَّتْهُنَّ } ، وَالنُّوَاحُ مِنْ الْكَبَائِرِ
.
nindex.php?page=treesubj&link=2170_2315وَصُورَتُهُ أَنْ تَقُولَ النَّائِحَةُ لَفْظًا يَقْتَضِي فَرْطَ جَمَالِ الْمَيِّتِ وَحُسْنِهِ وَكَمَالِهِ وَشُجَاعَتِهِ وَبَرَاعَتِهِ وَأُبَّهَتِهِ وَرِئَاسَتِهِ ، وَتُبَالِغَ فِيمَا كَانَ يَفْعَلُ مِنْ إكْرَامِ
[ ص: 173 ] الضَّيْفِ وَالضَّرْبِ بِالسَّيْفِ وَالذَّبِّ عَنْ الْحَرِيمِ وَالْجَارِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمَيِّتِ الَّتِي يَقْتَضِي مِثْلُهَا أَنْ لَا يَمُوتَ فَإِنَّ بِمَوْتِهِ هَذِهِ تَنْقَطِعُ هَذِهِ الْمَصَالِحُ وَيَعِزُّ وُجُودُ مِثْلِ الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَيَعْظُمُ التَّفَجُّعُ عَلَى فَقْدِ مِثْلِهِ وَأَنَّ الْحِكْمَةَ كَانَتْ تَقْتَضِي بَقَاءَهُ وَتَطْوِيلَ عُمْرِهِ لِتَكْثِيرِ تِلْكَ الْمَصَالِحِ فِي الْعِلْمِ فَمَتَى كَانَ لَفْظُهَا مُشْتَمِلًا عَلَى هَذَا كَانَ حَرَامًا ، وَهَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=2315أَشَرُّ النُّوَاحِ وَتَارَةً لَا تَصِلُ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ غَيْرَ أَنَّهُ تَبْعُدُ السَّلْوَةُ عَنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ ، وَتَهِيجُ الْأَسَفَ عَلَيْهِمْ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى تَعْذِيبِ نُفُوسِهِمْ وَقِلَّةِ صَبْرِهِمْ وَضَجَرِهِمْ ، وَرُبَّمَا بَعَثَهُمْ ذَلِكَ عَلَى الْقُنُوطِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ وَضَرْبِ الْخُدُودِ فَهَذَا أَيْضًا حَرَامٌ ، وَمَتَى كَانَ لَفْظُ النَّائِحَةِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ ذِكْرُ دِينِ الْمَيِّتِ ، وَأَنَّهُ انْتَقَلَ إلَى جَزَاءِ أَعْمَالِهِ الْحَسَنَةِ وَمُجَاوَرَةِ أَهْلِ السَّعَادَةِ ، وَأَنَّهُ أَتَى عَلَيْهِ مَا قَضَى عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ ، وَأَنَّ هَذَا سَبِيلٌ لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَأَنَّهُ مَوْطِنٌ اشْتَرَكَ فِيهِ جَمِيعُ الْخَلَائِقِ ، وَبَابٌ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِهِ فَهَذَا لَيْسَ بِحَرَامٍ فَإِنْ زَادَتْ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ تَأْمُرَ أَهْلَ الْمَيِّتِ بِالصَّبْرِ ، وَتَحُثَّهُمْ عَلَى طَلَبِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ ، وَأَنَّهُمْ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَحْتَسِبُوا مَيِّتَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
وَيَعْتَمِدُونَ فِي حُسْنِ الْخَلَفِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ مَأْمُورٌ بِهِ وَعَلَى هَذِهِ الْقَوَانِينِ تَتَخَرَّجُ الْمَرَاثِي فَتَنْقَسِمُ أَيْضًا إلَى الْمُحَرَّمَةِ الْكَبِيرَةِ وَإِلَى الْمُحَرَّمَةِ الصَّغِيرَةِ وَإِلَى الْمُبَاحِ وَإِلَى الْمَنْدُوبِ عَلَى قَدْرِ مَا يَتَضَمَّنُهُ لَفْظُ الْمَرْثِيَّةِ فَمِنْ الْمَرَاثِي الْمُبَاحَةِ الْخَالِيَةِ عَنْ التَّحْرِيمِ مَا رَثَى بِهِ
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنُ عُمَرَ أَخَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16274عَاصِمًا لَمَّا مَاتَ فَقَالَ :
فَإِنْ تَكُ أَحْزَانٌ وَفَائِضُ دَمْعَةٍ جَرَيْنَ دَمًا مِنْ دَاخِلِ الْجَوْفِ مُنْقَعَا تَجَرَّعْتهَا فِي nindex.php?page=showalam&ids=16274عَاصِمٍ وَاحْتَسَبْتهَا
فَأَعْظَمُ مِنْهَا مَا احْتَسَى وَتَجَرَّعَا فَلَيْتَ الْمَنَايَا كُنَّ خَلَّفْنَ nindex.php?page=showalam&ids=16274عَاصِمًا
فَعِشْنَا جَمِيعًا أَوْ ذَهَبْنَ بِنَا مَعَا دَفَعْنَا بِك الْأَيَّامَ حَتَّى إذَا أَتَتْ
تُرِيدُك لَمْ نَسْطِعْ لَهَا عَنْك مِدْفَعَا
[ ص: 174 ] فَهَذَا رِثَاءٌ مُبَاحٌ لَا يَحْرُمُ مِثْلُهُ .
وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُشِيرُ إلَى التَّجْوِيرِ وَلَا تَسْفِيهِ الْقَضَاء بَلْ إنَّهُ حَزِينٌ مُتَأَلِّمٌ لِمَيِّتِهِ ، وَكَانَ يَشْتَهِي لَوْ مَاتَ مَعَهُ فَهَذَا أَمْرٌ قَرِيبٌ لَا غَرْوَ فِيهِ ، وَمِثَالُ الرِّثَاءِ الْمَنْدُوبِ مَا رُوِيَ أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=18الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا مَاتَ عَظُمَ مُصَابُهُ عَلَى ابْنِهِ
nindex.php?page=showalam&ids=11عَبْدِ اللَّهِ ، وَكَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=11عَبْدُ اللَّه بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَظِيمًا عِنْدَ النَّاسِ فِي نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ تُرْجُمَان الْقُرْآنِ وَافِرَ الْعَقْلِ جَمِيلَ الْمَحَاسِنِ وَالْجَلَالَةِ وَالْأَوْصَافِ الْحَمِيدَة فَأَعْظَمَهُ النَّاسُ عَلَى التَّعْزِيَةِ إجْلَالًا لَهُ وَمَهَابَةً بِسَبَبِ عَظَمَتِهِ فِي نَفْسِهِ وَعَظَمَةِ مَنْ أُصِيبَ بِهِ ، فَإِنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=18الْعَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَقِيَ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ وَالِدِهِ وَكَانَ يُقَالُ مَنْ أَشْجَعُ النَّاسِ فَيُقَالُ
nindex.php?page=showalam&ids=18الْعَبَّاسُ وَمَنْ أَعْلَمُ النَّاسِ فَيُقَالُ
nindex.php?page=showalam&ids=18الْعَبَّاسُ . وَمَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ فَيُقَالُ
nindex.php?page=showalam&ids=18الْعَبَّاسُ فَلَمَّا مَاتَ عَظُمَ خَطْبُهُ وَجَلَّتْ رَزِيَّتُهُ فِي صُدُورِ النَّاسِ وَفِي صَدْرِ وَلَدِهِ
عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَحْجَمَ النَّاسُ عَنْ تَعْزِيَتِهِ فَأَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ شَهْرًا كَمَا ذَكَرَهُ الْمُؤَرِّخُونَ فَبَعْدَ الشَّهْرِ قَدِمَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ الْبَادِيَةِ فَسَأَلَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=11عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ النَّاسُ مَا تُرِيدُ فَقَالَ أُرِيدُ أَنْ أُعَزِّيَ
nindex.php?page=showalam&ids=11عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ عَسَاهُ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ بَابَ التَّعْزِيَةِ فَلَمَّا رَأَى
nindex.php?page=showalam&ids=11عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ سَلَامٌ عَلَيْك يَا
أَبَا الْفَضْلِ فَقَالَ لَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=11عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَلَيْك السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَأَنْشَدَهُ :
اصْبِرْ نَكُنْ بِك صَابِرِينَ فَإِنَّمَا صَبْرُ الرَّعِيَّةِ عِنْدَ صَبْرِ الرَّاسِ
خَيْرٌ مِنْ nindex.php?page=showalam&ids=18الْعَبَّاسِ أَجْرُك بَعْدَهُ وَاَللَّهُ خَيْر مِنْك nindex.php?page=showalam&ids=18لِلْعَبَّاسِ
فَلَمَّا سَمِعَ
nindex.php?page=showalam&ids=11عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رِثَاءَهُ وَاسْتَوْعَبَ شِعْرَهُ سُرِّيَ عَنْهُ عَظِيمُ مَا كَانَ بِهِ . وَاسْتَرْسَلَ النَّاسُ فِي تَعْزِيَتِهِ
وَهَذَا كَلَامٌ فِي غَايَةِ الْجَوْدَةِ مِنْ الرِّثَاء مُسَهِّلٌ لِلْمُصِيبَةِ مُذْهِبٌ لِلْحُزْنِ مُحْسِنٌ
[ ص: 175 ] لِتَصَرُّفِ الْقَضَاءِ مُثْنٍ عَلَى الرَّبِّ تَعَالَى بِإِحْسَانٍ وَجَمِيلِ الْعَوَارِفِ ، فَهَذَا حَسَنٌ جَمِيلٌ وَمِثْلُهُ مَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تُوُفِّيَ سَمِعَ أَهْلُ بَيْتِهِ قَائِلًا يَقُولُ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَلَا يَرَوْنَ شَخْصَهُ : سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إنَّ فِي اللَّه خَلَفًا مِنْ كُلِّ فَائِتٍ وَعِوَضًا مِنْ كُلِّ ذَاهِبٍ فَإِيَّاهُ فَارْجَوْا وَبِهِ فَثِقُوا فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ فَكَانُوا يَرَوْنَهُ
الْخَضِرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهَذَا أَيْضًا كَلَامٌ مِنْ الْقُرُبَاتِ وَمُنْدَرِجٌ فِي سِلْكِ الْمَنْدُوبَات وَمِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=18940_24659الرِّثَاءِ الْمُحَرَّمِ الْفَظِيعِ مَا وَقَعَ فِي عَصْرِنَا فِي رِثَاء الْخَلِيفَةِ
بِبَغْدَادَ فِي أَيَّامِ
الصَّالِحِ رَحِمَ اللَّهُ الْجَمِيعَ فَعَمِلَ لَهُ
الْمَلِكُ الصَّالِحُ عَزَاءً جَمَعَ فِيهِ الْأَكَابِرَ وَالْأَعْيَانَ وَالْقُرَّاءَ وَالشُّعَرَاءَ فَأَنْشَدَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي مَرْثِيَتِهِ :
مَاتَ مَنْ كَانَ بَعْضُ أَجْنَادِهِ الْمَوْتَ وَمَنْ كَانَ يَخْتَشِيهِ الْقَضَاءُ
فَسَمِعَهُ
الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَام رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَحْفِلِ فَأَمَرَ بِتَأْدِيبِهِ وَحَبْسِهِ .
وَأَغْلَظ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ وَبَالَغَ فِي تَقْبِيحِ رِثَائِهِ ، وَأَقَامَ بَعْدَ التَّعْزِير فِي الْحَبْسِ زَمَانًا طَوِيلًا ثُمَّ اسْتَتَابَهُ بَعْدَ شَفَاعَةِ الْأُمَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ فِيهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَنْظِمَ قَصِيدَةً يُثْنِي فِيهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَكُونُ مُكَفِّرَةً لِمَا تَضَمَّنَهُ شِعْرُهُ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلْقَضَاءِ بِقَوْلِهِ مَنْ كَانَ بَعْضُ أَجْنَادِهِ الْمَوْتَ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ هَذَا الْمَيِّتِ ، وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَيِّتِ مَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ مَنْصِبُ الْخِلَافَةِ وَمَتَى تَأْتِي الْأَيَّامُ بِمِثْلِ هَذَا وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ : يَخْتَشِيهِ الْقَضَاءُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَخَافُ مِنْهُ وَهَذَا إمَّا كُفْرٌ صَرِيحٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِهِ أَوْ قَرِيبٌ مِنْ الْكُفْرِ فَالشُّعَرَاءُ فِي مَرَاثِيهِمْ يَهْجُمُونَ عَلَى أُمُورٍ صَعْبَةٍ رَغْبَةً فِي الْإِغْرَابِ وَالتَّمَدُّحِ بِأَنَّهُ طَرَقَ مَعْنًى لَمْ يُطْرَقْ قَبْلَهُ فَيَقَعُونَ فِي هَذَا وَمِثْلِهِ ، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=225أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ هَذِهِ الْأَوْدِيَةُ هِيَ أَوْدِيَةُ الْهِجَاءِ الْمُحَرَّمِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يَحِلُّ قَوْلُهُ ، فَظَهَرَ لَك بِهَذَا الْبَسْطِ وَالتَّقْرِيرِ
nindex.php?page=treesubj&link=2315الْفَرْقُ بَيْنَ النُّوَاحِ الْمُحَرَّمِ وَالرِّثَاءِ [ ص: 176 ] الْمُحَرَّمِ مِنْ غَيْرِهِ بِتَقْرِيرِ الْقَوَاعِدِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَقِسْ عَلَيْهِ مَا يَرِدُ عَلَيْك مِنْ ذَلِكَ فِي الْبَابَيْنِ .