[ ص: 249 ] الباب الثامن عشر : في وضع الديوان وذكر أحكامه
والديوان موضع لحفظ ما يتعلق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال ومن يقوم بها من الجيوش والعمال ، وفي تسميته ديوانا وجهان : أحدهما أن كسرى اطلع ذات يوم على كتاب ديوانه فرآهم يحسبون مع أنفسهم فقال ديوانه أي مجانين فسمي موضعهم بهذا الاسم ثم حذف الهاء عند كثرة الاستعمال تخفيفا للاسم فقيل ديوان .
والثاني : أن الديوان بالفارسية اسم الشياطين فسمي الكتاب باسمهم لحذقهم بالأمور وقوتهم على الجلي والخفي وجمعهم لما شذ وتفرق ، ثم سمي مكان جلوسهم باسمهم فقيل ديوان .
وأول من وضع الديوان في الإسلام رضي الله عنه . عمر بن الخطاب
واختلف الناس في سبب وضعه له ، فقال قوم : سببه أن قدم عليه بمال من أبا هريرة البحرين فقال له ماذا جئت به ؟ فقال خمسمائة ألف درهم فاستكثره عمر فقال له : أتدري ما تقول ؟ قال نعم مائة ألف خمس مرات فقال عمر أطيب هو ؟ فقال : لا أدري فصعد عمر المنبر فحمد الله - تعالى وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس قد جاءنا مال كثير ، فإن شئتم كلنا لكم كيلا ، وإن شئتم عددنا لكم عدا ، فقام إليه رجل ، فقال يا أمير المؤمنين : قد رأيت الأعاجم يدونون ديوانا لهم فدون أنت لنا ديوانا . عمر
وقال آخرون بل سببه أن بعث بعثا ، وكان عنده عمر الهرمزان فقال هذا بعث قد أعطيت أهله الأموال ، فإن تخلف منهم رجل وآجل بمكانه فمن أين يعلم صاحبك به فأثبت لهم ديوانا فسأله عن الديوان حتى فسره لهم . لعمر
وروى عابد بن يحيى عن الحارث بن نفيل أن رضي الله عنه استشار المسلمين في تدوين الديوان فقال له [ ص: 250 ] عمر : رضي الله عنه تقسم كل سنة ما اجتمع إليك من المال ولا تمسك منه شيئا . علي بن أبي طالب
وقال رضي الله عنه : أرى مالا كثيرا يتبع الناس ، فإن لم يحصوا حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر ، فقال عثمان بن عفان قد كنت خالد بن الوليد بالشام فرأيت ملوكها قد دونوا ديوانا وجندوا جنودا فدون ديوانا وجند جنودا فأخذ بقوله ودعا عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وكانوا من شباب وجبير بن مطعم قريش وقال : اكتبوا الناس على منازلهم فبدءوا ببني هاشم فكتبوهم ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه ثم وقومه وكتبوا القبائل ووضعوها على الخلافة ثم رفعوه إلى عمر ، فلما نظر فيه قال : لا ، ما وددت أنه كان هكذا ، ولكن ابدءوا بقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأقرب فالأقرب حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله فشكره عمر رضوان الله عليه على ذلك ، وقال وصلتك رحم وروى العباس عن أبيه أن زيد بن أسلم بني عدي جاءوا إلى فقالوا إنك خليفة رسول الله وخليفة عمر أبي بكر وأبو بكر خليفة رسول الله ; فلو جعلت نفسك حيث جعلك الله سبحانه وجعلك هؤلاء القوم الذين كتبوا فقال بخ بخ يابني عدي أردتم الأكل على ظهري ، وأن أهب حسناتي لكم لا ، ولكنكم حتى تأتيكم الدعوة وأن ينطبق عليكم الدفتر يعني ولو تكتبوا آخر الناس ، إن لي صاحبين سلكا طريقا فإن خالفتهما خولف بي ، ولكنه - والله - ما أدركنا الفضل في الدنيا ، ولا نرجو الثواب عند الله - تعالى - على عملنا إلا بمحمد صلى الله عليه وسلم فهو شرفنا ، وقومه أشرف العرب ثم الأقرب فالأقرب ، والله لئن جاءت الأعاجم بعمل وجئنا بغير عمل لهم أولى بمحمد صلى الله عليه وسلم منا يوم القيامة ، فإن من قصر به عمله لم يرع به نسبه .
وروى عامر أن رضي الله عنه حين أراد وضع الديوان قال : بمن أبدأ ؟ فقال له عمر ابدأ بنفسك ، فقال عبد الرحمن بن عوف : أذكر أني حضرت مع رسول الله ، وهو يبدأ عمر ببني هاشم وبني عبد المطلب فبدأ بهم ثم بمن يليهم من قبائل عمر قريش بطنا بعد بطن حتى استوفى جميع قريش ، ثم انتهى إلى الأنصار ، فقال ابدءوا برهط عمر من سعد بن معاذ الأوس ثم بالأقرب فالأقرب . وروى لسعد الزهري عن أنه كان ذلك من المحرم سنة عشرة فلما استقر ترتيب الناس في [ ص: 251 ] الدواوين على قدر النسب المتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم فضل بينهم في العطاء على قدر السابقة في الإسلام والقربى من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان سعيد بن المسيب رضي الله عنه يرى التسوية بينهم في العطاء ، ولا يرى أبو بكر ، كذلك كان رأي التفضيل بالسابقة رضي الله عنه في خلافته وبه أخذ علي الشافعي ، وكان رأي ومالك رضي الله عنه التفضيل بالسابقة في الإسلام ، وكذلك رأي عمر رضي الله عنه بعده ، وبه أخذ عثمان وفقهاء أبو حنيفة العراق .
وقد نظر عمر حين سوى بين الناس فقال : أتسوي بين من هاجر الهجرتين وصلى إلى القبلتين ، وبين من أسلم عام الفتح خوف السيف ؟ فقال له أبا بكر إنما عملوا لله ، وإنما أجورهم على الله ، وإنما الدنيا دار بلاغ للراكب فقال له أبو بكر لا أجعل من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم كمن قاتل معه ; فلما وضع الديوان فضل السابقة ففرض لكل من شهد عمر بدرا من المهاجرين الأولين خمسة آلاف درهم في كل سنة : منهم ، علي بن أبي طالب ، وعثمان بن عفان ، وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام رضي الله عنهم وفرض لنفسه معهم خمسة آلاف درهم وألحق به وعبد الرحمن بن عوف العباس بن عبد المطلب والحسن رضوان الله عليهم لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ; وقيل : بل فضل والحسين وفرض له سبعة آلاف درهم . وفرض لكل من شهد العباس بدرا من الأنصار أربعة آلاف درهم ، ولم يفضل على أهل بدر أحدا إلا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه فرض لكل واحدة منهن عشرة آلاف درهم إلا ، فإنه فرض لها اثني عشر ألف درهم ، وألحق بهن عائشة جويرية بنت الحارث وقيل : بل فرض لكل واحدة منهن ستة آلاف درهم ، وفرض لكل من هاجر قبل الفتح ثلاثة آلاف درهم ولمن أسلم بعد الفتح ألف درهم لكل رجل وفرض لغلمان أحداث من أبناء وصفية بنت حيي المهاجرين والأنصار كفرائض مسلمي الفتح ، وفرض أربعة آلاف درهم لأن أمه لعمر بن أبي سلمة المخزومي زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أم سلمة محمد بن عبد الله بن جحش : لم تفضل علينا وقد هاجر آباؤنا وشهدوا عمر بدرا ؟ فقال أفضله لمكانه من رسول الله [ ص: 252 ] صلى الله عليه وسلم فليأت الذي يستعتب عمر أعتبه وفرض بأم سلمة لأسامة بن زيد أربعة آلاف درهم فقال له فرضت لي ثلاثة آلاف درهم وفرضت عبد الله بن عمر لأسامة أربعة آلاف درهم وقد شهدت ما لم يشهد أسامة ؟ فقال زدته لأنه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك وكان أبوه أحب إلى رسول الله من أبيك ، ثم فرض للناس على منازلهم وقراءتهم القرآن وجهادهم ، وفرض لأهل عمر اليمن وقيس بالشام والعراق لكل رجل منهم من ألفين إلى ألف إلى خمسمائة إلى ثلاثمائة ، ولم ينقص أحدا منها وقال : لئن كثر المال لأفرض لكل رجل أربعة آلاف درهم ألفا لفرسه وألفا لسلاحه وألفا لسفره وألفا يخلفها في أهله ; وفرض للمنفوس مائة درهم فإذا ترعرع بلغ به مائتي درهم ، فإذا بلغ زاده ، وكان لا يفرض لمولود شيئا حتى يفطم إلى أن سمع امرأة ذات ليلة ، وهي تكره ولدها على الفطام ، وهو يبكي فسألها عنه ؟ فقالت : إن لا يفرض للمولود حتى يفطم فأنا أكرهه على الفطام حتى يفرض له فقال : يا ويل عمر احتقب من وزر وهو لا يعلم ثم أمر عمركم مناديه فنادى : ألا تعجلوا أولادكم بالفطام فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام ، ثم كتب إلى أهل العوالي وكان يجري عليهم القوت ، فأمر بجريب من الطعام فطحن ثم خبز ثم ثرد ثم دعا ثلاثين فأكلوا منه غداهم حتى أصدرهم ، ثم فعل في العشاء مثل ذلك فقال : يكفي الرجل جريبان في كل شهر ، وكان يرزق الرجل والمرأة والمملوكة جريبين في كل شهر ، وكان إذا أراد الرجل أن يدعو على صاحبه قال له : قطع الله عنك جريبك . عمر
وكان الديوان موضوعا على دعوة العرب في ترتيب الناس فيه معتبرا بالنسب ، وتفضيل العطاء معتبرا بالسابقة في الإسلام وحسن الأثر في الدين ، ثم روعي في التفضيل عند انقراض أهل السوابق بالتقدم في الشجاعة والبلاء في الجهد ; فهذا حكم ديوان الجيش في ابتداء وضعه على الدعوة القريبة والترتيب الشرعي .
وأما فجرى هذا الأمر فيه بعد ظهور الإسلام [ ص: 253 ] ديوان الاستيفاء وجباية الأموال بالشام والعراق على ما كان عليه من قبل ، فكان ديوان الشام بالرومية ; لأنه كان من مماليك الروم وكان ديوان العراق بالفارسية ; لأنه كان من مماليك الفرس ، فلم يزل أمرهما جاريا على ذلك إلى زمن فنقل ديوان عبد الملك بن مروان الشام إلى العربية سنة إحدى وثمانين .
وكان سبب نقله إليه ما حكاه المدائني أن بعض كتاب الروم في ديوانه أراد ماء لدواته فبال فيها بدلا من الماء فأدبه ، وأمر سليمان بن سعد أن ينقل الديوان إلى العربية فسأله أن يعينه بخراج الأردن سنة ففعل وولاه الأردن وكان خراجه مائة وثمانين ألف دينار ، فلم تنقض السنة حتى فرغ من الديوان فنقله . وأتى به إلى فدعا عبد الملك بن مروان سرجون كاتبه فعرضه عليه فغمه وخرج كئيبا ; فلقيه قوم من كتاب الروم فقال لهم : اطلبوا المعيشة من غير هذه الصناعة وقد قطعها الله عنكم .
وأما ديوان الفارسية بالعراق فكان سبب نقله إلى العربية أن كاتب كان يسمى الحجاج زاذان فروخ كان معه صالح بن عبد الرحمن يكتب بين يديه بالعربية والفارسية فوصله زاذان فروخ فخف على قلبه فقال بالحجاج صالح لزادان فروخ إن قد قربني ولا آمن عليك أن يقدمني عليك ، فقال : لا تظن ذلك فهو إلي أحوج مني إليه ; لأنه لا يجد من يكفيه حسابه غيري ، فقال الحجاج صالح - والله - لو شئت أن أحول الحساب إلى العربية لفعلت ، قال فحول منه ورقة أو سطرا حتى أرى ففعل ثم قتل زاذان فروخ في أيام عبد الرحمن بن الأشعث ، فاستخلف الحجاج صالحا مكانه فذكر له ما جرى بينه وبين زاذان فروخ ، فأمره أن ينقله فأجابه إلى ذلك وأجله فيه أجلا حتى نقله إلى العربية ، فلما عرف مردان شاه بن زاذان فروخ ذلك بذل له مائة ألف درهم ليظهر العجز عنه فلم يفعل ، فقال له قطع الله أوصالك من الدنيا كما قطعت أصل الفارسية ، فكان للحجاج عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان يقول لله در صالح ما أعظم منته على الكتاب .