فيقدم الإنكار ولا يجعل بالتأديب قبل الإنكار .
حكى إبراهيم النخعي أن رضي الله عنه نهى الرجال أن يطوفوا مع النساء فرأى رجلا يصلي مع النساء فضربه بالدرة فقال الرجل : والله إن كنت أحسنت لقد ظلمتني ، وإن كنت أسأت فما علمتني ، فقال عمر بن الخطاب : أما شهدت عزمتي . فقال : ما شهدت لك عزمة فألقى إليه الدرة وقال له : اقتص فقال : لا أقتص اليوم ، قال فاعف عني . قال لا أعفو ، فافترقا على ذلك ، ثم لقيه من الغد [ ص: 311 ] فتغير لون عمر فقال له الرجل يا أمير المؤمنين كأني أرى ما كان مني قد أسرع فيك ؟ قال أجل ، قال فأشهد الله أني قد عفوت عنك . عمر
وإذا لم يعترض عليهما بزجر ولا إنكار فما يجد الناس بدا من هذا . رأى وقفة رجل مع امرأة في طريق سابل لم تظهر منهما أمارات الريب
وإن كانت الوقفة في طريق خال فخلو المكان ريبة فينكرها ولا يعجل بالتأديب عليهما حذارا من أن تكون ذات محرم ، وليقل إن كانت ذات محرم فصنها عن مواقف الريب ، وإن كانت أجنبية فخف الله تعالى من خلوة تؤديك إلى معصية الله تعالى ، وليكن زجره بحسب الأمارات .
حكى أبو الأزهر أن ابن عائشة رأى رجلا يكلم امرأة في طريق فقال له إن كانت حرمتك إنه لقبيح بك أن تكلمها بين الناس ، وإن لم تكن حرمتك فهو أقبح ، ثم ولى عنه وجلس للناس يحدثهم فإذا برقعة قد ألقيت في حجره مكتوب فيها ( من الكامل ) :
إن التي أبصرتني سحرا أكلمها رسول أدت إلي رسالة
كادت لها نفسي تسيل من فاتر الألحاظ
يجذب خصره ردف ثقيل متنكبا قوس الصبا
يرمي وليس له رسيل فلو أن أذنك بيننا
حتى تسمع ما نقول لرأيت ما استقبحت من
أمري هو الحسن الجميل
وهذا القدر من إنكار ابن عائشة كاف لمثله ، ولا يكون لمن ندب للإنكار من ولاة الحسبة كافيا ، وليس فيما قاله تصريح بفجور لاحتمال أن يكون إشارة إلى ذات محرم وإن كانت شواهد حاله وفحوى كلامه ينطقان بفجوره وريبته فيكون من مثل أبو نواس منكرا وإن جاز أن لا يكون من غيره منكرا . أبي نواس
فإذا رأى المحتسب في هذا الحال ما ينكره تأتى وتفحص [ ص: 312 ] وراعى شواهد الحال ولم يعجل بالإنكار قبل الاستخبار ، كالذي رواه عن ابن أبي الزناد قال : بينما هشام بن عروة رضي الله عنه يطوف بالبيت إذ رأى رجلا يطوف وعلى عاتقه امرأة مثل المهاة يعني حسنا وجمالا وهو يقول ( من السريع ) : عمر بن الخطاب
قدت لهذي جملا ذلولا موطأ أتبع السهولا
أعدلها بالكف أن تميلا أحذر أن تسقط أو تزولا
أرجو بذاك نائلا جزيلا
قال أبو زيد : المرغام المختلط ، فلم يقدم عليه بالإنكار حتى استخبره فلما انتفت عنه الريبة لان له .
وإذا ، فإن كان مسلما أراقها عليه وأدبه ، وإن كان ذميا أدبه على إظهارها . جاهر رجل بإظهار الخمر
واختلف الفقهاء في إراقتها عليه ، فذهب إلى أنها لا تراق عليه ، لأنها عنده من أموالهم المضمونة في حقوقهم . أبو حنيفة
ومذهب أنها تراق عليهم لأنها لا تضمن عنده في حق مسلم ولا كافر . الشافعي
وأما ، فعند المجاهرة بإظهار النبيذ أنه من الأموال التي يقر المسلمون عليها فيمتنع من إراقته ومن التأديب على إظهاره . أبي حنيفة
وعند أنه ليس بمال كالخمر ، وليس في إراقته غرم ، فيعتبر والي الحسبة بشواهد الحال فيه فينتهي فيه عن المجاهرة ويزجر عليها إن كان لمعاقرة ولا يريقه عليه إلا أن يأمره [ ص: 313 ] بإراقته حاكم من أهل الاجتهاد ، لئلا يتوجه عليه غرم إن حوكم فيه . الشافعي
وأما السكران إذا تظاهر بسكره وسخف بهجره أدبه على السكر والهجر تعزيرا لا حدا لقلة مراقبته وظهور سخفه .
وأما فعلى المحتسب أن يفصلها حتى تصير خشبا لتزول عن حكم الملاهي ، ويؤدب على المجاهرة بها ، ولا يكسرها إن كان خشبها يصلح لغير الملاهي . المجاهرة بإظهار الملاهي المحرمة
وأما اللعب فليس يقصد بها المعاصي ، وإنما يقصد بها إلف البنات لتربية الأولاد .
وفيها وجه من وجوه التدبير تقارنه معصية بتصوير ذوات الأزواج ومشابهة الأصنام ، فللتمكين منها وجه وللمنع منها وجه ، وبحسب ما تقتضيه شواهد الأحوال يكون إنكاره وإقراره .
{ رضي الله عنها وهي تلعب بالبنات فأقرها ولم ينكر عليها عائشة } . قد دخل النبي عليه الصلاة والسلام على
وحكي أن من أصحاب أبا سعيد الإصطخري تقلد حسبة الشافعي بغداد في أيام فأزال سوق الدادي ومنع منها ، وقال : لا يصلح إلا للنبيذ المحرم وأقر سوق اللعب ولم يمنع منها وقال : قد كانت المقتدر رضي الله عنها تلعب بالبنات بمشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكره عليها ; وليس ما ذكره من اللعب بالبعيد من الاجتهاد . عائشة
وأما سوق الدادي فالأغلب من حاله أنه لا يستعمل إلا في النبيذ ، وقد يجوز أن يستعمل نادرا في الدواء وهو بعيد ، فبيعه عند من يرى إباحة النبيذ جائز لا يكره ، وعند من يرى تحريمه جائز لجواز استعماله في غيره ، ومكروه اعتبارا بالأغلب من حاله ، وليس منع أبي سعيد منه لتحريم بيعه عنده .
وإنما من المظاهرة بإفراد سوقه والمجاهرة ببيعه إلحاقا له بإباحة ما اتفق الفقهاء على إباحة مقصده ليقع لعوام الناس الفرق بينه وبين غيره من المباحات ، وليس يمتنع إنكار [ ص: 314 ] المجاهرة ببعض المباحات كما ينكر المجاهرة بالمباح من مباشرة الأزواج والإماء .