الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الجامع لأحكام الوقف والهبات والوصايا

        خالد المشيقح - أ.د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح

        صفحة جزء
        [ ص: 283 ] المبحث الخامس عشر

        الوصية في وجوه البر

        إذا جعل الوصية في جهة البر كأن يقول: أوصيت بثلث مالي في أبواب البر أو نحو ذلك، فقد اختلف العلماء في صرف هذه الوصية على أقوال:

        القول الأول: أنها تصرف في القرب كلها، يبدأ من ذلك بالغزو.

        وهذا قول الحنفية ، والمذهب عند الحنابلة .

        وعن الإمام أحمد: أنه يصرف في أربع جهات: الأقارب، والمساكين ، والحج، والجهاد، ويبدأ بالغزو.

        ولو أوصى بالثلث في وجوه الخير، قال الحنفية : يصح ويصرف إلى القنطرة، أو بناء مسجد، أو طلبة العلم.

        ونص الحنفية في فتاوى أبي الليث: أن كل ما ليس فيه تمليك فهو من أعمال البر، حتى يجوز صرفه إلى عمارة المسجد وسراجه، ولا يجوز الصرف إلى بناء السجون.

        القول الثاني: أنها تصرف في أقارب الواقف، فإن لم يوجدوا أعطي أهل الزكاة.

        [ ص: 284 ] وهذا مذهب الشافعية .

        قال في التهذيب: « يجوز صرفه إلى ما فيه صلاح المسلمين من أهل الزكاة، وإصلاح القناطر وسد الثغور، ودفن الموتى وغيرها » .

        وعند بعض الشافعية : جواز صرفه إلى ما فيه صلاح المسلمين من أهل الزكاة، وإصلاح القناطر، وسد الثغور، ودفن الموتى.

        وعند بعض الشافعية : أنه إذا أوصى إلى جهة الخير، تصرف على مصارف الزكاة ولا يبنى بها مسجد ولا رباط، وإن أوصى إلى جهة الثواب صرف إلى أقاربه.

        القول الثالث: أنه يصرف في ذوي الحاجة في سبيل الله.

        وهذا قول المالكية ، وعن مالك جعله في الفقراء.

        الأدلة:

        استدل أصحاب القول الأول بما يلي:

        1 - قوله تعالى: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون .

        قال السعدي: « هذا حث من الله لعباده على الإنفاق في طرق الخيرات ، فقال: لن تنالوا أي: تدركوا وتبلغوا البر الذي هو كل خير من أنواع [ ص: 285 ] الطاعات وأنواع المثوبات الموصل لصاحبه إلى الجنة، حتى تنفقوا مما تحبون أي: من أموالكم النفيسة التي تحبها نفوسكم » .

        وقوله تعالى: ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر :

        قال ابن كثير: ولكن البر من آمن بالله أي: الشأن كله في امتثال أوامر الله، فحيثما وجهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره، ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة، وهذا شامل لكل طرق الخير.

        (233 ) 2 - ما رواه سعيد بن منصور قال: حدثنا حماد بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن أبي حبيبة قال: كنت عند أبي الدرداء وأنا أريد الغزو فجاءه رجل، فقال: إن أخي مات، وأوصى بطائفة من ماله يتصدق به، وقال: لا تقضي شيئا حتى تأتي أبا الدرداء، ففي أي شيء ترى أن نجعله ؟ قال: ما من شيء يجعل فيه خير من سبيل الله، قال: فلم أقم من ثمة إلا بصرة قال: وسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: « مثل الذي يعتق عند الموت، كمثل الذي يهدي بعد الشبع » ، لكنه ضعيف.

        3 - أن الغزو أفضل القرب; وذلك لما جاء فيه من الأدلة الكثيرة الدالة على عظم أجره، وكبير فضله.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن الغزو أفضل القرب لا يعني أن يصرف إليه [ ص: 286 ] دون غيره; إذ قد يكون قصد الموصي شمول أبواب كثيرة من النفقات والتبرعات، ولو صرف الكل للأفضل لتعطل المفضول.

        دليل القول الثاني: 1 - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أشار على أبي طلحة -رضي الله عنه- أن يجعلها في الأقربين، فدل ذلك على عظم حقهم، وأنهم أولى من غيرهم، ولذا جاء عن بعض التابعين نحو من ذلك، فعن الحسن أنه قال: « من أوصى بثلثه ، وله ذو قرابة محتاجون أعطوا ثلث الثلث » ، بل جاء عن طاووس أنه لو أوصى لغيرهم وهم محتاجون انتزع لهم.

        يمكن مناقشة استدلالهم بالحديث: بأن جعلها في الأقربين بناء على إذن أبي طلحة، ففيه موافقة الموصي على جعلها فيهم.

        وأما ما ورد عن التابعين، فلا تعدو أن تكون آراء لهم لا يستدل بها بل يستدل لها، وقول أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولى بالأخذ منها.

        2 - أن جعلها بعد القرابة في أهل الزكاة من وجوه:

        الأول: أن باب الوصية والزكاة فيه تقارب من جهة صلة الموصى له، ومن تصرف له الزكاة.

        الثاني: أنه أوصى بوصية لم يحددها في جهة معينة، فكان التعيين للشارع، وقد جعل مثيلها في الأصناف الثمانية في باب الزكاة.

        الثالث: أن أهل الزكاة جهات متعددة ومتنوعة، يمكن القول بأنها تفي بمقصود الموصي، كما أنها أصول أبواب البر العامة.

        ويمكن أن يناقش استدلالهم بجعلها في أهل الزكاة: بأن الزكاة تفارق [ ص: 287 ] الوصية في أشياء كثيرة، فالوصية تصرف للأغنياء بخلاف الزكاة، كما أن الوصية تصلح بها الطرق، وتبنى بها المساجد، والمدارس بخلاف الزكاة، فلم يصلح القياس.

        كما أنه لا يمكن القول بأن أهل الزكاة تشمل أبواب البر أو جماعها; إذ أن أبوابا كثيرة من البر تدخل في عموم الصدقة والوصية والوقف، ولا تصرف فيها الزكاة كإصلاح القناطر وسد الثغور وغيرها.

        دليل القول الثالث: أنه أوصى بوصية مطلقة تعم أبوابا كثيرة، فكان البداءة بالأهم، وليس ثم أبدى وأولى من ذوي الحاجة، ومن هم في سبيل الله.

        الراجح:

        يترجح - والله أعلم - القول الأول; لقوة دليله.

        وجاء في الدرر السنية: وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عمن أوصى بثلث ماله على أعمال بر وذرية ضعفاء ؟ فأجاب: إن كانت الوصية على أعمال البر، جاز أن يدفع إليهم من الوصية ما يستعينون به في حاجاتهم، وإن كانت الوصية لأناس معينين أعطوا ما وصي به ، فإن كانت على حجج غير حجة الإسلام، فتصرف على المحتاج من ذريته، وكذلك ما كان على الأضحية صرف على فقراء ذريته; لأن الصدقة عليهم أفضل إذا احتاجوا لها، فلا بد من تنفيذ الوصية ابتداء، ثم يكون النظر للمتولي عليها.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية