دليل القول الثاني:
(260 ) 1 - ما رواه من طريق أبو داود شيبان، حدثنا محمد - يعني: ابن راشد - عن سليمان - يعني: ابن موسى - عن عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: عمرو بن شعيب، . ليس للقاتل شيء
[ ص: 544 ] فالقاتل نكرة في سياق النفي فتعم، وفي الرواية الثانية مفردة محلى « بأل » فيعم، كما أن لفظ « شيء في الحديث نكرة في سياق النفي، فتعم كل شيء، فيشمل العمد، وشبه العمد، والخطأ.
[ ص: 545 ] ونوقش هذا الاستدلال من وجوه: الوجه الأول: الضعف.
الثاني: أن المراد بالوصية فيها الإرث، فإنه وصية في الشرع، كما جاء في قوله تعالى: يوصيكم الله في أولادكم ، وصية من الله ، فسمى الإرث وصية.
الثالث: أنها محمولة على من أوصى لمن قتله أو يقتل غيره; كأن يقول: أعطوا لمن يقتلني، أو لمن يقتل فلانا كذا، وإنما لم تصح الوصية في هذه الحال; لأنها وصية لغير معين، فصارت وصية لجهة معصية، وهي باطلة كما سبق.
الرابع: أنه على تسليم صحتها، وإرادة ظاهرها، فإنها معارضة بعموم أدلة الوصية، وإطلاقها، المقتضية جوازها للقاتل، فتعين الجمع بينها بحمل أدلة الجواز على حال، وأدلة المنع على حال آخر، وهو ما فعله المالكية كما سيأتي.
(261 ) 2 - ما رواه من طريق الدارقطني عن أبي بكر بن عياش، عن مطرف، قال: قال الشعبي -رضي الله عنه-: لا يرث القاتل خطأ ولا عمدا . عمر
وإذا كان فإنه يكون مانعا من الوصية من باب أولى وأحرى; لأن الميراث أقوى من الوصية. القتل مانعا من الإرث،
[ ص: 546 ] ونوقش هذا الاستدلال من وجهين: الأول: الضعف.
الثاني: أنه قياس مع الفارق; لأن الإرث جبري والوصية اختيارية، فلا يصح هذا القياس لوجود الفارق بينهما.
3 - القياس على الإرث، وقد تقدم الجواب على هذا.
أدلة القول الثالث: (الصحة مطلقا ) : استدل لهذا الرأي بما يلي:
1 - أدلة الوصية: فإنها جاءت عامة تارة، ومطلقة تارة، مثل قوله تعالى: الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف ، من بعد وصية يوصى بها أو دين ، وغيرهما، والعام محمول على عمومه، والمطلق محمول على إطلاقه، حتى يرد المخصص أو المقيد، وبذلك تشمل هذه الأدلة الوصية للقاتل في جميع الأحوال والظروف; لقاعدة: عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال.
ونوقش الاستدلال بهذه الأدلة من وجهين: الأول: تخصيصها وتقييدها بأدلة القول الأول.
وأما القول بصحتها مطلقا، فإنه يعارض القاعدة الأصولية والفقهية: أن من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه، وقاعدة: المعاملة بنقيض المقصود الفاسد.
فإنهما تقضيان بحرمان القاتل من الوصية، إذا قتل الموصى له عمدا عدوانا بغير حق، ولا عذر بعدما أوصى له.
[ ص: 547 ] وأجيب: بأن هذا الحكم استثناء من القاعدة المذكورة.
ورد: أن الحكمة من وراء هاتين القاعدتين هي زجر الناس من ارتكاب ما لا يجوز فعله ; لتحقيق أغراضهم بوسائل محرمة، وهذه الحكمة موجودة في القتل العدوان، وهي زجر الموصى لهم من قتل الموصين لاستعجال وصاياهم، فالواجب تطبيق القاعدة وعدم الاستثناء.
الثاني: أن حرمان القاتل بحق، وفي حالة الدفاع المشروع يتناقض مع الإذن لهم في القتل.
2 - قياس الوصية على الهبة والبيع بجامع أن كلا منهما تصرف بنقل الملك، فكما أن الهبة والبيع لا يبطلان بقتل الواهب والبائع بعد وقوعهما ، فإن الوصية كذلك لا تبطل بقتل الموصى له الموصي.
ونوقش هذا الاستدلال: بعدم التسليم; لأن الهبة عقد بات لا يتوقف على موت الواهب، فلا يتأتى فيها اتهام الموهوب له، بقصد استعجال هبته بقتل الواهب له، عكس الوصية فإنها متوقفة على موت الموصي، فالتهمة فيها قوية، ومع وجود هذا الفارق بين الوصية والهبة والبيع يمتنع قياس الوصية على الهبة.
دليل القول الرابع:
1 - حديث: ، وفي رواية: ليس لقاتل وصية . لا وصية للقاتل
2 - وحديث: ، فالقاتل نكرة في سياق النفي فتعم. ليس لقاتل شيء
وفي الرواية الثانية مفردة محلى « بأل » فيعم كما أن لفظ « شيء » في الحديث نكرة في سياق النفي فتعم كل شيء، فتدخل في ذلك الوصية بطريق [ ص: 548 ] العموم الظاهر، كما تدخل في الحديث الأول والثاني بطريق النص، وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال، وبذلك تدل هذه الأحاديث على في جميع الظروف والأحوال. بطلان الوصية للقاتل مطلقا،
ونوقش: القول ببطلانها مطلقا ولو كان القتل خطأ، والقاتل غير مكلف، أو كان القتل بحق أو عذر، بأنه يعارض نصوص الكتاب والسنة، التي تقتضي عدم مؤاخذة الصغير والمجنون بفعلهما، وعدم معاقبة المخطئ على خطئه، والإذن في الدفاع المشروع، وتنفيذ القتل بحق، ولا شك أن حرمان الصغير والمجنون والمخطئ من وصاياهم فيه نوع معاقبة على فعلهم، وهي مرتفعة شرعا كما تقدم.
على الوجه المذكور بنص قوله تعالى: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق .
الترجيح:
الأرجح - والله أعلم - ما ذهب إليه المالكية ; إذ فيه الجمع بين أقوال:
المسألة وأدلتها.