المسألة الثالثة: أن يكون محرما لكسبه:
وتحته حالتان:
الحال الأولى: المأخوذ بغير رضا مالكه، ولا إذن الشارع، كالمسروق والمغصوب والمنتهب، فهذا يجب رده على صاحبه إن علمه، أو علم ورثته بالإجماع.
قال ابن هبيرة: « واتفقوا على أنه يجب على الغاصب ولم يخف من نزعها إتلاف نفس » . رد المغصوب إن كانت عينه قائمة،
قال الشوكاني رحمه الله: « ومجمع على وجوب رد المغصوب إذا كان باقيا » .
وما ذكروه في الغصب جار فيما عداه من المكاسب المحرمة; لأنها في حكمه.
فإن جهله تصدق به على الفقراء والمساكين، وبه قال جمهور أهل العلم: أبو حنيفة، ومالك، وأحمد.
[ ص: 41 ] وحجتهم:
1 - قوله تعالى: فاتقوا الله ما استطعتم ، وهذا لم يستطع أن يرده إلى صاحبه.
2 - ورود ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.
قال ابن القيم: « وأما في حقوق العباد فيتصور في مسائل: إحداها: من إلى أصحابها، أو إلى ورثتهم لجهله بهم، أو لانقراضهم، أو لغير ذلك، فاختلف في توبة مثل هذا: غصب أموالا ثم تاب وتعذر عليه ردها
فقالت طائفة: لا توبة له إلا بأداء هذه المظالم إلى أربابها، فإذا كان ذلك قد تعذر عليه، فقد تعذرت عليه التوبة، والقصاص أمامه يوم القيامة بالحسنات والسيئات ليس إلا.
قالوا: فإن هذا حق للآدمي لم يصل إليه، والله سبحانه لا يترك من حقوق عباده شيئا، بل يستوفيها لبعضهم من بعض، ولا يجاوزه ظلم ظالم، فلا بد أن يأخذ للمظلوم حقه من ظالمه ولو لطمة ولو كلمة....
وأقرب ما لهذا في تدارك الفارط منه أن يكثر من الحسنات، ليتمكن من الوفاء منها يوم لا يكون الوفاء بدينار ولا بدرهم، فيتجر تجارة يمكنه الوفاء منها... ثم اختلف هؤلاء في حكم ما بيده من الأموال:
فقالت طائفة: يوقف أمرها ولا يتصرف فيها ألبتة.
وقالت طائفة: يدفعها إلى الإمام أو نائبه ; لأنه وكيل أربابها، فيحفظها لهم، ويكون حكمها حكم الأموال الضائعة.
وقالت طائفة أخرى: بل باب التوبة مفتوح لهذا، ولم يغلقه الله عنه ولا عن مذنب، وتوبته أن يتصدق بتلك الأموال عن أربابها، فإذا كان يوم استيفاء الحقوق، كان لهم الخيار بين أن يجيزوا ما فعل، وتكون أجورها لهم، [ ص: 42 ] وبين أن لا يجيزوا ويأخذوا من حسناته بقدر أموالهم، ويكون ثواب تلك الصدقة له; إذ لا يبطل الله سبحانه ثوابها، ولا يجمع لأربابها بين العوض والمعوض، فيغرمه إياها، ويجعل أجرها لهم، وقد غرم من حسناته بقدرها، وهذا مذهب جماعة من الصحابة، كما هو مروي عن ابن مسعود، ، ومعاوية وحجاج بن الشاعر، فقد روي أن اشترى من رجل جارية، ودخل يزن له الثمن، فذهب رب الجارية، فانتظره حتى يئس من عوده ، فتصدق بالثمن، وقال: اللهم هذا عن رب الجارية، فإن رضي فالأجر له ، وإن أبى فالأجر لي وله من حسناتي بقدره ، وغل رجل من الغنيمة ثم تاب فجاء بما غله إلى أمير الجيش فأبى أن يقبله منه ، وقال: كيف لي بإيصاله إلى الجيش وقد تفرقوا، فأتى ابن مسعود: حجاج بن الشاعر فقال: يا هذا إن الله يعلم الجيش وأسماءهم وأنسابهم، فادفع خمسه إلى صاحب الخمس، وتصدق بالباقي عنهم، فإن الله يوصل ذلك إليهم، أو كما قال، ففعل، فلما أخبر معاوية قال: لأن أكون أفتيتك بذلك أحب إلي من نصف ملكي .
وقال: « من قبض ما ليس له قبضه شرعا، ثم أراد التخلص منه، فإن كان المقبوض قد أخذ بغير رضى صاحبه، ولا استوفى عوضه رده عليه، فإن تعذر رده عليه، قضى به دينا يعلمه عليه، فإن تعذر ذلك رده إلى ورثته، فإن تعذر ذلك تصدق به عنه، فإن اختار صاحب الحق ثوابه يوم القيامة ، كان له، وإن أبى إلا أن يأخذ من حسنات القابض، استوفى منه نظير ماله، وكان ثواب الصدقة للمتصدق بها، كما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم » .
3 - القياس على اللقطة إذا لم يجد ربها بعد تعريفها، ولم يرد أن يتملكها تصدق بها عنه ، فإن ظهر مالكها خيره بين الأجر والضمان.
[ ص: 43 ] قالوا: ولأن المجهول في الشرع كالمعدوم.
وعند الشافعية : يسلمه إلى الحاكم لينفقه في مصالح المسلمين العامة.
وحجتهم: بأن ولي الأمر ونوابه أعلم بأوجه المصالح، فكانوا أولى بالتصرف، والأقرب هو القول الأول ; لقوة دليله.
وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على أن الغال يجب عليه أن يرد ما غل إلى صاحب المقاسم ما وجد إلى ذلك سبيلا، والدليل على ذلك: وابن المنذر
1 - قول الله عز وجل قال: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل .
(203 ) 2 - ولما رواه من طريق البخاري عن مالك، عن سعيد المقبري، -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: أبي هريرة . من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها; فإنه ليس ثم دينار، ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات، أخذ من سيئات أخيه، فطرحت عليه
المنصوص عليه عند وهل له الأكل منه إذا تاب وكان فقيرا؟ الحنابلة :
أنه لا يجوز له الأكل منه ، ويجب عليه أن يتصدق به.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن للغاصب ونحوه الأكل من المال المغصوب ونحوه، إذا تاب وكان فقيرا إن لم يعرف صاحبه.