بيان ما خالف فيه عمر - رضي الله عنهما - أبا بكر
والجواب عن قول - رضي الله عنه -: أنه قد قيل: إنه يستحيي عمر من مخالفة عمر في اعترافه بجواز الخطأ عليه، وإن كلامه ليس كله صوابا مأمونا عليه الخطأ. أبي بكر
وهذا، وإن كان ظاهرا، لكنه يدل عليه ما وقع من مخالفة عمر في غير مسألة ; كمخالفته له في سبي أهل الردة، وفي الأرض المغنومة، فقسمها لأبي بكر - رضي الله عنه -، ووقفها - أبو بكر رضي الله عنه -. عمر
وفي العطاء; فقد كان يرى التسوية، أبو بكر يرى المفاضلة . وعمر
وفي الاستخلاف; فقد استخلف ولم يستخلف أبو بكر، بل جعل الأمر شورى، وقال: إن أستخلف، فقد استخلف عمر، وإن لم أستخلف، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يستخلف . أبو بكر،
قال فوالله! ما هو إلا أن ذكر رسول -صلى الله عليه وسلم-، فعلمت أنه لا يعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم- أحدا، وأنه غير مستخلف . ابن عمر:
وخالفه أيضا في الجد والإخوة.
فلو كان المراد بقوله: إنه يستحيي من مخالفة في مسألة "الكلالة" هو ما قالوه، لكان منقوصا عليهم بهذه المخالفات، فإنه صح خلافه له، ولم يستحي منه . أبي بكر
فما أجابوا في هذه المخالفات، فهو جوابنا عليهم في تلك الموافقة .
[ ص: 188 ] وبيانه: أنهم إذا قالوا: خالفه في هذه المسائل ; لأن اجتهاده كان على خلاف اجتهاد قلنا: ووافقه في تلك المسألة; لأن اجتهاده كان موافقا لاجتهاده، وليس من التقليد في شيء. أبي بكر،
وأيضا، قد ثبت أن - رضي الله عنه - أقر عند موته بأنه لم يقض في الكلالة بشيء، واعترف أنه لم يفهمها، فلو كان قد قال بما قال به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - تقليدا له، لما أقر بأنه لم يقض فيها بشيء، ولا قال: إنه لم يفهمها. أبو بكر
ولو سلمنا أن قلد عمر في هذه المسألة، لم يقم بذلك حجة ; لما تقرر من عدم حجة أقوال الصحابة . أبا بكر
وأيضا، غاية ما في ذلك تقليد علماء الصحابة في مسألة من المسائل التي يخفى فيها الصواب على المجتهد، مع تسوية المخالفة فيما عدا تلك المسألة.
وأين هذا مما يفعله المقلدون; من ولا تعريج على تصحيح أو تعليل؟!... تقليد العالم في جميع أمور الشريعة، من غير التفات إلى دليل،
وبالجملة: فلو سلمنا أن ذلك تقليد من كان دليلا للمجتهد إذا لم يمكنه الاجتهاد في مسألة، وأمكن غيره من المجتهدين الاجتهاد فيها: أنه يجوز لذلك المجتهد أن يقلد المجتهد الآخر، ما دام غير متمكن من الاجتهاد فيها إذا تضيقت عليه الحادثة. عمر،
وهذه مسألة أخرى غير التي يريدها المقلد، وهي تقليد عالم من العلماء في جميع مسائل الدين، وقبول رأيه دون روايته، وعدم مطالبته بدليل، وترك النظر في الكتاب والسنة، والتعويل على ما يراه من هو أحقر الآخذين بهما; فإن هذا هو عين اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا، كما سيأتي بيانه .
وأيضا، لو فرض ما زعموه من الدلالة، لكان ذلك خاصا بتقليد علماء الصحابة في مسألة من المسائل، فلا يصح إلحاق غيرهم بهم; لما تقرر من المزايا التي للصحابة، البالغة إلى حد يقصر عنه الوصف، حتى صار مثل جبل [ ص: 189 ] "أحد" من متأخري الصحابة، لا يعدل المد من متقدميهم ولا نصيفه. وصح أنهم خير القرون، فكيف نلحق بهم غيرهم؟!
وبعد اللتيا والتي، فما أوجدتمونا نصا في كتاب الله، ولا في سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ، وليست الحجة إلا فيهما.
ومن ليس بمعصوم، لا حجة لنا ولا لكم في قوله، ولا في فعله، فما جعل الله الحجة إلا في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم-، عرف هذا من عرفه، وجهله من جهله، والسلام.
وأما ما استدلوا به من قول عمر - رضي الله عنهما -: رأينا لرأيك تبع، فما هذه بأول قضية جاؤوا بها على غير وجهها. لأبي بكر
فإنهم لو نظروا في القصة بكمالها، لكانت حجة عليهم لا لهم.
وسياقها في "صحيح هكذا: عن البخاري" قال: جاء وفد من طارق بن شهاب، أسد، وغطفان إلى - رضي الله عنه -، فخيرهم بين الحرب المجلية، والسلم المخزية . أبي بكر
فقالوا: هذه المجلية قد عرفناها، فما المخزية؟
فقال: ننزع منكم الحلقة والكراع، ونغنم ما أصبنا منكم، وتردون علينا ما أصبتم منا، وتدون لنا قتلانا، ويكون قتلاكم في النار، ويتركون أقواما يتبعون أذناب الإبل، حتى يري الله خليفة رسوله والمهاجرين أمرا يعذرونكم به.
فعرض - رضي الله عنه - ما قال على القوم، فقام أبو بكر - رضي الله عنه -، فقال: قد رأيت رأيا، وسنشير عليك. عمر بن الخطاب
أما ما ذكرت من الحرب المجلية والسلم المخزية، فنعم ما ذكرت.
وأما ما ذكرت أن نغنم ما أصبنا منكم، وتردون ما أصبتم منا، فنعم ما ذكرت.
[ ص: 190 ] وأما ما ذكرت: تدون قتلانا، ويكون قتلاكم في النار، فإن قتلانا قاتلت فقتلت على أمر الله، أجورها على الله، ليس لها ديات. فتتابع القوم على ما قال عمر.
ففي هذا الحديث ما يرد عليهم، فإنه قرر بعض ما رآه - رضي الله عنه -، ورد بعضه . أبو بكر
وفي بعض ألفاظ هذا الحديث: قد رأيت رأيا، ورأينا لرأيك تبع.
فلا شك أن المتابعة في بعض ما رآه، أو في كله، ليس من التقليد في شيء، بل من استصواب ما جاء به في الآراء والحروب، وليس ذلك بتقليد.
وأيضا: قد يكون السكوت عن اعتراض بعض ما فيه مخالفة من آراء الأمراء لقصد إخلاص الطاعة للأمراء التي ثبت الأمر بها، وكراهة الخلاف الذي أرشد صلى الله عليه وسلم- إلى تركه .
نعم، هذه الآراء إنما هي في تدبير الحروب، وليست في مسائل الدين، وإن تعلق بعضها بشيء من ذلك، فإنما على طريق الاستتباع.
وبالجملة: فاستدلال تسلية لهؤلاء المساكين من المقلدة، بما لا يسمن ولا يغني من جوع. من استدل بمثل هذا على جواز التقليد،
وعلى كل حال، فهذه الحجة التي استدلوا بها، عليهم لا لهم; لأن - رضي الله عنه - قرر من قول عمر - رضي الله عنه - ما وافق اجتهاده، ورد ما خالفه . أبي بكر
وأما ما ذكروه من موافقة ابن مسعود - رضي الله عنهما -، وأخذه بقوله، وكذلك رجوع بعض الستة المذكورين من الصحابة إلى بعض، وليس هذا ببدع ولا مستنكر، فالعالم يوافق العالم في أكثر مما يخالفه فيه من المسائل. لعمر
[ ص: 191 ] ولا سيما إذا كانا قد بلغا إلى أعلى مراتب الاجتهاد، فإن المخالفة بينهما قليلة جدا.
وأيضا، قد ذكر أهل العلم: أن خالف ابن مسعود في نحو مائة مسألة، وما وافقه إلا في نحو أربع مسائل فأين التقليد من هذا؟ وكيف صلح مثل ما ذكر للاستدلال به على جواز التقليد؟! عمر
وهكذا رجوع بعض الستة المذكورين إلى أقوال بعض; فإن هذا موافقة لا تقليد، وقد كانوا جمعاؤهم وسائر الصحابة إذا ظهرت لهم السنة، لم يتركوها لقول أحد، كائنا من كان، بل كانوا يعضون عليها بالنواجذ، ويرمون بآرائهم وراء الحائط، فأين هذا من جمع المقلدين الذين لا يعدلون بقول من قلدوه كتابا ولا سنة، ولا يخالفونه قط، وإن تواتر لهم ما يخالفه من السنة ؟!
ومع هذا، فإن الرجوع الذي كان يقع من بعض الصحابة إلى قول بعض إنما هو في الغالب رجوع إلى روايته، لا إلى رأيه; لكونه أخص بمعرفة ذلك المروي منه بوجه من الوجوه، كما يعرف هذا من عرف أحوال الصحابة.
وأما مجرد الآراء المخطئة، فقد ثبت عن أكابرهم النهي عنها، والتنفير منها، كما سيأتي بيان طرف من ذلك - إن شاء الله -.
وإنما كانوا يرجعون إلى الرأي إذا أعوزهم الدليل، وضاقت عليهم الحادثة، ثم لا يبرمون أمرا إلا بعد التراود والمفاوضة، ومع ذلك فهم على وجل، ولهذا كانوا يكرهون تفرد بعضهم برأي يخالف جماعتهم، حتى قال أبو عبيدة السلماني - رضي الله عنهما -: "لرأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك" . لعلي بن أبي طالب
واحتجوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم-: ، وهو طرف من حديث "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" وهو حديث صحيح. العرباض بن سارية،
[ ص: 192 ] وقوله صلى الله عليه وسلم-: أبي بكر، وعمر" ، وهو حديث معروف مشهور ثابت في السنن وغيرها. "اقتدوا باللذين من بعدي:
والجواب: أن ما سنه الخلفاء الراشدون من بعد، فالأخذ به ليس إلا لأمره صلى الله عليه وسلم- بالأخذ به.
فالعمل بما سنوه، والاقتداء بما فعلوه، هو لأمره صلى الله عليه وسلم- لنا بالعمل بسنة الخلفاء الراشدين، والاقتداء بأبي بكر، - رضي الله عنهما -. وعمر
ولم يأمرنا بالاستنان بسنة عالم من علماء الأمة، ولا أرشدنا إلى الاقتداء بما يراه مجتهد من المجتهدين.
فالحاصل: أنا لم نأخذ بسنة الخلفاء، ولا اقتدينا بأبي بكر إلا امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم-: وعمر ، وبقوله : "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" . "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر"
فكيف يساغ لكم أن تستدلوا بهذا الذي ورد فيه النص، على ما لم يرد فيه؟!!
فهل تزعمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: عليكم بسنة أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، ; حتى يتم لكم ما تريدون؟ وابن حنبل
فإن قلتم: نحن نقيس أئمة المذاهب على هؤلاء الخلفاء الراشدين .
فيا عجبا لكم، كيف ترتقون إلى هذا المرتقى الصعب، وتقدمون هذا الإقدام في مقام الإحجام؟ !!فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما خص الخلفاء الراشدين، وجعل سنتهم كسنته في اتباعها; لأمر يختص بهم ولا يتعداهم إلى غيرهم.
ولو كان الإلحاق بالخلفاء الراشدين سائغا، لكان إلحاق المشاركين لهم في الصحة والعلم مقدما على من لم يشاركهم في مزية من المزايا، بل النسبة بينه وبينهم كالنسبة بين الثرى والثريا.
[ ص: 193 ] فلولا أن هذه المزية خاصة بهم، مقصورة عليهم، لم يخصهم بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دون سائر الصحابة .
فدعونا من هذه التمحلات التي يأباها الإنصاف.
وليتكم قلدتم الخلفاء الراشدين لهذا الدليل، أو قدمتم ما صح عنهم على ما يقوله أئمتكم.
ولكنكم لم تفعلوا، بل رميتم بما جاء عنهم وراء الحائط، إذا خالف ما قاله من أنتم أتباع له، وهذا لا ينكره إلا مكابر معاند.
بل رميتم بصريح الكتاب، ومتواتر السنة إذا جاء بما يخالف من أنتم متبعون له، فإن أنكرتم هذا، فهذه كتبكم - أيها المقلدة - على ظهر البسيطة، عرفونا من تتبعون من العلماء حتى نعرفكم بما ذكرناه .
ومن جملة ما استدلوا به حديث: . "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم"
والجواب: أن هذا الحديث قد روي من طرق عن جابر، - رضي الله عنهما -، وصرح أئمة الجرح والتعديل بأنه لا يصح منها شيء، وأن الحديث لم يثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وقد تكلم عليه الحفاظ بما يشفي ويكفي، فمن رام البحث عن طرقه، وعن تضعيفها، فهو ممكن بالنظر في كتاب من كتب هذا الشأن. وابن عمر
وبالجملة: فالحديث لا تقوم به حجة .
ثم لو كان مما تقوم به، فما لكم أيها المقلدون وله؟ فإنه تضمن منقبة للصحابة، ومزية لا توجد لغيرهم، فماذا تريدون منه؟
فإن كان من تقلدونه منهم، احتجنا إلى الكلام معكم، وإن كان من تقلدونه من غيرهم، فاتركوا ما ليس لكم، ودعوا الكلام على مناقب خير القرون، وها أنتم بصدد الاستدلال عليه.
[ ص: 194 ] فإن هذا الحديث - لو صح -، لكان الأخذ بأقوال الصحابة ليس إلا لكونه صلى الله عليه وسلم- أرشدنا إلى أن الاقتداء بأحدهم أهدى .
فنحن إنما امتثلنا إرشاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وعملنا على قوله، وتبعنا سنته، فإن ما جعله محلا للاقتداء، يكون ثبوت ذلك له بالسنة، وهو قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ..
فلم نخرج عن ، ولا قلدنا غيره، بل سمعنا الله يقول: العمل بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، وسمعناه يقول: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني .
وكان هذا القول من جملة ما آتانا به، فأخذنا واتبعناه فيه، ولم نتبع غيره، ولا عولنا على سواه .
فإن قلتم: تثبتون لأئمتكم هذه المزية قياسا، فلا أعجب مما افتريتموه وتقولتموه، وقد سبق الجواب عنكم في البحث الذي قبل هذا.
ومثل هذا الجواب يجاب عن احتجاجهم بقوله صلى الله عليه وسلم-: قد سن لكم سنة" معاذا ، وذلك في شأن الصلاة، حيث أخر قضاء ما فاته مع الإمام. "إن
ولا يخفى عليك أن فعل هذا، إنما صار سنة بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، لا بمجرد فعله. معاذ
فهو إنما كان السبب بثبوت السنة، ولم تكن تلك السنة إلا سنة بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وهذا واضح لا يخفى.
وبمثل هذا الجواب على حديث: يجاب عن قول "أصحابي كالنجوم" في وصف الصحابة: فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم ; فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. ابن مسعود
[ ص: 195 ] ثم هاهنا جواب شمل ما تقدم من حديث: ، وحديث: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين" ، وحديث: "اقتدوا باللذين من بعدي" ، وقول "أصحابي كالنجوم" ابن مسعود.
وهو أن المراد بالاستنان بهم والاقتداء، هو أن يأتي المستن والمقتدي بمثل ما أتوا به، ويفعل كما فعلوا، وهم لا يفعلون فعلا، ولا يقولون قولا إلا على وفق فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقوله.
فالاقتداء بهم، هو اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم-، والاستنان بسنتهم، هو استنان بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
وإنما أرشد الناس إلى ذلك ; لأنهم المبلغون عنه، الناقلون شريعته إلى من بعده من أمته .
فالفعل - وإن كان لهم -، فهو على طريق الحكاية لفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، كأفعال الطهارة، والصلاة، والحج، ونحو ذلك، فهم رواة له، وإنما كان منسوبا إليهم; لكونه قائما بهم.
وفي التحقيق هو راجع إلى ما سنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
فالاقتداء بهم اقتداء به، والاستنان بسنتهم استنان بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
وإذا خفي عليك هذا، فانظر ما كان يفعله الخلفاء الراشدون، وأكابر الصحابة في عبادتهم، فإنك تجده حكاية لما كان يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
وإذا اختلفوا في شيء من ذلك، فهو لاختلافهم في الرواية، لا في الرأي .
وقل أن تجد فعلا - من تلك الأفعال - صادرا عن أحد منهم لمحض رأي رآه، بل قد لا تجد ذلك، لا سيما في أفعال العبادات، وهذا يعرفه كل من له خبرة بأحوالهم.
وعلى هذا، فمعنى الحديث: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاطب أصحابه أن يقتدوا بما يشاهدونه بفعله من سنته، وبما يشاهدون من أفعال الخلفاء الراشدين; فإنهم [ ص: 196 ] المبلغون عنه، العارفون بسنته، المقتدون بها، فكل ما يصدر عنهم في ذلك صادر عنه .
ولهذا صح عن جماعة من أكابر الصحابة وكانوا لا يرشدون أحدا إلا إلى سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، لا إلى شيء من آرائهم . ذم الرأي وأهله،
وهذا معروف لا يخفى على عارف.
وما نسب إليهم من الاجتهادات، وجعله أهل العلم رأيا لهم، فهو لا يخرج عن الكتاب والسنة، إما بتصريح، أو بتلويح.
وقد يظن خروج شيء من ذلك، وهو ظن مدفوع لمن تأمل حق التأمل.
وإذا وجد نادرا، رأيت الصحابي يتحرج أبلغ تحرج، ويصرح بأنه رأيه، وأن الله بريء من خطئه، وينسب الخطأ إلى نفسه وإلى الشيطان، والصواب إلى الله، كما تقدم عن في تفسير "الكلالة" ، وكما يروى عنه وعن غيره في فرائض الحد، وكما كان يقول الصديق في تفسير قوله تعالى: عمر وفاكهة وأبا [عبس: 31].
وهذا البحث نفيس، فتأمله حق تأمله تنتفع به .
ومن جملة ما استدلوا به: قوله تعالى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، قالوا: وأولو الأمر هم العلماء، وطاعتهم: تقليدهم فيما يفتون به .
والجواب: أن للمفسرين في تفسير "أولي الأمر" قولين:
أحدهما: أنهم الأمراء، والثاني: العلماء.
ولا تمتنع إرادة الطائفتين من الآية الكريمة .
ولكن أين هذا من الدلالة على مراد المقلدين؟! فإنه وإلا، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم-: أنه [قال]: لا طاعة للعلماء، ولا للأمراء إلا إذا أمروا بطاعة الله على وفق شريعته، . "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"
[ ص: 197 ] وأيضا العلماء إنما أرشدوا غيرهم إلى ترك تقليدهم، ونهوا عن ذلك كما سيأتي بيان طرف منه عن الأئمة الأربعة وغيرهم، فطاعتهم ترك تقليدهم.
ولو فرضنا أن في العلماء من يرشد الناس إلى التقليد، ويرغبهم فيه، لكان مرشدا إلى معصية الله، ولا طاعة له بنص حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
وإنما قلنا: إنه مرشد إلى معصية الله; لأن من أرشد هؤلاء العامة - الذين لا يعقلون الحجج، ولا يعرفون الصواب من الخطأ - إلى التمسك بالتقليد، كان هذا الإرشاد منه مستلزما لإرشادهم إلى ترك العمل بالكتاب، إلا بواسطة آراء العلماء الذين يقلدونهم، فما عملوا به عملوا، وما لم يعملوا به لم يعملوا، ولا يلتفتون إلى كتاب ولا سنة.
بل من شرط التقليد الذي أصيبوا به أن يقبل من إمامه رأيه، ولا يعتزل عن روايته، ولا يسأله عن كتاب ولا سنة، فإن سأله عنهما، خرج عن التقليد; لأنه قد صار مطالبا بالحجة.