بيان سبب سريان التعصب الذميم والتقليد الأعمى إلى أتباع أئمة
أهل البيت، وتنكيلهم بالعلماء المجتهدين، مع تصريح أئمتهم
بأن باب الاجتهاد مفتوح إلى قيام الساعة
والسبب في بلوغهم إلى هذا المبلغ الذي ما بلغ غيرهم -: أن جماعة من شياطين المقلدين، الطالبين لفوائد الدنيا بعلم الدين، يوهمون العوام الذين لا يفهمون ; من الأجناد والسوقة ونحوهم، بأن المخالف لما قد تقرر بينهم من المسائل التي قد قلدوا فيها، هو من المنحرفين عن أمير المؤمنين - كرم الله وجهه -، وأنه من جملة المبغضين له، الدافعين تفضيله وفضائله، المعاندين له وللأئمة من أولاده . علي بن أبي طالب
فإذا سمع منهم العامي هذا، مع ما قد ارتكز في ذهنه من كون هؤلاء المقلدة هم العلماء المبرزون; لما يبهره من زيهم، والاجتماع عليهم، وتصدرهم للفتيا والقضاء، حسب ما ذكرناه سابقا، فلا يشك أن هذه المقالة صحيحة، وأن ذلك العالم العامل بالكتاب والسنة من أعدى القرابة، فيقوم بحمية جاهلية صادرة عن واهمة دينية، قد ألقاها إليه من قدمنا ذكرهم ترويجا لبدعتهم، وتنفيقا لجهلهم وقصورهم، على من هو أجهل منهم .
وإنما أوهموا على العوام بهذه الدقيقة الإبليسية ; لما يعلمونه من أن طبائعهم مجبولة على التشيع إلى حد يقصر عنه الوصف. حتى لو أن أحدهم، لو سمع التنقص بالجناب الإلهي، والجناب النبوي، لم يغضب له عشر معشار ما يغضبه [ ص: 223 ] إذا سمع التنقص بالجناب العلوي، بمجرد الوهم والإبهام، الذي لا حقيقة له.
فبهذه الذريعة الشيطانية، والدسيسة الإبليسية، صار علماء الاجتهاد في القطر اليمني في محنة شديدة بالعامة .
والذنب كل الذنب على شياطين المقلدة ; فإنهم هم الداء العضال، والسم القتال.
ولو كان للعامة عقول، لم يخف عليهم بطلان تلبيس شياطين المقلدة عليهم.
فإن من عمل في شيء من عباداته ومعاملاته بنص الكتاب والسنة، لا يخطر ببال من له عقل أن ذلك يستلزم الانحراف عن علي - رضي الله عنه -.
وأين هذا من ذاك؟ ولكن العامة قد ضموا إلى فقدان العلم فقدان العقل، لا سيما في أبواب الدين، وعند تلبيس الشياطين، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ما للعامة الذين قد أظلمت قلوبهم لفقدان نور العلم وللاعتراض على العلماء والتحكم عليهم؟ وما بال هذه الأزمنة جاءت بما لم يكن في حساب؟ فإن المعروف من خلق العامة في جميع الأزمنة أنهم يبالغون في تعظيم العلماء إلى حد يقصر عنه الوصف، وربما يزدحمون عليهم للتبرك بتقبيل أطرافهم، ويستجيبون منهم الدعاء، ويقرون بأنهم حجج الله على عباده في بلاده، ويطيعونهم في كل ما يأمرونهم به، ويبذلون أنفسهم وأموالهم بين أيديهم.
لا جرم حملهم على هذه الأفاعيل الشيطانية، والأخلاق الجاهلية، أباليس المقلدة بالذريعة التي أسلفنا بيانها.
فانظر هل هذه الأفعال الصادرة من مقلدة "اليمن" هي أفعال من يعترف بأن وأن باب الاجتهاد مفتوح إلى قيام الساعة، وأن رجوع العالم إلى اجتهاد نفسه بعد إحرازه للاجتهاد ولو في [ ص: 224 ] فن واحد ومسألة واحدة، كما صرح لهم بذلك المؤلفون لفقه الأئمة، وحرروه في الكتب الأصولية والفروعية؟ تقليد المجتهدين لا يجوز لمن بلغ رتبة الاجتهاد،
كلا والله، بل صنع من يعادي كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ، والطالب لهما، والراغب فيهما، ويمنع الاجتهاد، ويوجب التقليد، ويحول بين المتشرعين والشريعة، ويحيلها عليهم فهما وإدراكا، كما صنعه غيرهم من مقلدة سائر المذاهب، بل زادوا عليهم في الغلو أو التعصب بما تقدم ذكره.
ومع هذا، فالأئمة قد صرحوا في كتبهم الفروعية والأصولية بتعداد علوم الاجتهاد، وأنها خمسة، وأنه يكفي المجتهد في كل فن مختصر من المختصرات.
وهؤلاء المقلدة، يعلمون أن كثيرا من العلماء العالمين بالكتاب والسنة، المعاصرين لهم، يعرفون من كل فن من الفنون الخمسة أضعاف القدر المعتبر، ويعرفون علوما غير هذه العلوم .
وهم، وإن كانوا جهالا ، لا يعرفون شيئا من المعارف، لكنهم يسألون أهل العلم عن مقادير العلماء، فيفيدونهم ذلك .
وبهذا تعرف أنه لا حامل لهم على ذلك إلا مجرد التعصب لمن قلدوه، وتجاوز الحد في تعظيمه، وامتثال رأيه على حد لا يوصف عندهم للصحابة، بل لا يوجد عندهم لكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم- .
أخرج البيهقي، عن وابن عبد البر، أنه قيل له في قوله تعالى: حذيفة بن اليمان: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله : أكانوا يعبدونهم؟ فقال: لا، ولكن يحلون لهم الحرام فيحلونه، ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه، فصاروا بذلك أربابا.
وقد روى نحو ذلك مرفوعا عن حديث ابن حاتم كما قال البيهقي.
وأخرج نحو هذا التفسير عن بعض الصحابة بإسناد متصل به، قال: أما إنهم لو أمروهم أن يعبدوهم، ما أطاعوهم، ولكنهم أمروهم، فجعلوا حلال الله حراما، وحرامه حلالا، فأطاعوهم. فكانت تلك الربوبية. ابن عبد البر
[ ص: 225 ] ومن قوله تعالى: وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ، قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم ، فآثروا الاقتداء بآبائهم، حتى قالوا: إنا بما أرسلتم به كافرون [الزخرف: 24]، وقال - عز وجل -: إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم .
وقال الله - عز وجل -: إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين [الأنبياء: 52-53]، وقال: إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ، فهذه الآيات وغيرها مما ورد في معناه، ناعية على المقلدين ما هم فيه.
وهي، وإن كان تنزيلها في الكفار، لكنه قد صح تأويلها في المقلدين ; لاتحاد العلة.
وقد تقرر في الأصول: أن الاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. وأن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما .
وقد احتج أهل العلم بهذه الآيات على ولم يمنعهم من ذلك كونها نازلة في الكفار. إبطال التقليد،