الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الوظيفة الأولى : الشفقة على المتعلمين وأن يجريهم مجرى بنيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما أنا لكم مثل الوالد لولده بأن يقصد إنقاذهم من نار الآخرة وهو أهم من إنقاذ الوالدين ولدهما من نار الدنيا ولذلك صار حق المعلم أعظم من حق الوالدين فإن الوالد سبب الوجود الحاضر والحياة الفانية والمعلم سبب الحياة الباقية .

ولولا المعلم لانساق ما حصل من جهة الأب إلى الهلاك الدائم ، وإنما المعلم هو المفيد للحياة الأخروية الدائمة أعني معلم علوم الآخرة أو علوم الدنيا على قصد الآخرة لا على قصد الدنيا فأما التعليم على قصد الدنيا فهو هلاك وإهلاك نعوذ بالله منه .

وكما أن حق أبناء الرجل الواحد أن يتحابوا ويتعاونوا على المقاصد كلها فكذلك حق تلامذة الرجل الواحد التحاب والتوادد ولا يكون إلا كذلك إن كان مقصدهم الآخرة ولا يكون إلا التحاسد والتباغض إن كان مقصدهم الدنيا فإن العلماء وأبناء الآخرة مسافرون إلى الله تعالى وسالكون إليه الطريق من الدنيا وسنوها وشهورها منازل الطريق والترافق في الطريق بين المسافرين إلى الأمصار سبب التواد والتحاب فكيف السفر إلى الفردوس الأعلى والترافق في طريقه ولا ضيق في سعادة الآخرة فلذلك لا يكون بين أبناء الآخرة تنازع ولا سعة في سعادات الدنيا فلذلك لا ينفك عن ضيق التزاحم .

والعادلون إلى طلب الرياسة بالعلوم خارجون عن موجب قوله تعالى : إنما المؤمنون إخوة وداخلون في مقتضى قوله تعالى : الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين .

التالي السابق


( الوظيفة الأولى:) من الوظائف السبعة:

( الشفقة على المتعلمين) بصرف الهمة إلى إزالة المكروه عنهم ( وأنه يجريهم مجرى بنيه) في تلك الشفقة ( قال صلى الله عليه وسلم: إنما أنا لكم مثل الوالد) قال العراقي: أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان من حديث أبي هريرة اهـ .

قلت: ونص أبي داود في سننه في باب كراهة استقبال القبلة عند الحاجة: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، حدثنا ابن المبارك عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها، ولا يستطيب بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الروث والرمة.

قال الحافظ المنذري في مختصره: وأخرجه أيضا مسلم مختصرا والنسائي وابن ماجه تاما اهـ .

قلت: قال السيوطي في جامعه: أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان أي كلهم في الطهارة عن أبي هريرة قال المناوي: وفيه محمد بن عجلان وفيه كلام اهـ .

قلت: وفي [ ص: 336 ] ترتيب الكامل لابن عدي للحافظ أبي طاهر المقدسي، رواه معدان بن عيسى، عن محمد بن عجلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، ومعدان هذا قال ابن عدي: لا أعرفه، حدث عن محمد بن عجلان بأحاديث الكبار، حدثنا عنه أبو عيسى الدارمي محمد بن غسان بن خالد: ولا أعلم حدث عنه غيره، وهذه أحاديث صفوان بن عيسى عن محمد، فحدثنا بها أبو عيسى قال: حدثنا معدان، ولم يتهيأ له أن يذكر صفوان بن عيسى; لأنه لم يلحق أيامه فقال: معدان بن عيسى اهـ .

قال المناوي في شرح هذا الحديث: إنما أنا لكم أي لأجلكم بمنزلة الوالد في الشفقة والحنو لا في الرتبة والعلو فعلى تعليم ما لا بد منه فكما يعلم ولده الأب فأنا أعلمكم ما لكم وما عليكم، وقدم هذا أمام المقصود إعلاما بأنه يجب عليه تعليمهم أمر دينهم، كما يلزم الوالد وإيناسا للمخاطبين لئلا يحتشموا عن السؤال عما يعرض لهم ومما يستحيا منه اهـ .

وقوله: ( لولده) ليس في سياق النسائي وابن حبان، كذا قاله العراقي.

قلت: وكذا ليس في سياق أبي داود ( بأن يقصد إنقاذهم) أي: تخليصهم ( من) عذاب ( نار الآخرة وهو أهم من إنقاذ لأبوين ولدهما من نار الدنيا) أي: من مشاقها ( ولذلك صار حق المعلم) لطريق الخير ( أعظم من حق الوالدين) إذا تعارضا، ( فإن الولد سبب الوجود الحاضر والحياة الفانية) ، وهما يضمحلان ( والعلم سبب الحياة الباقية) الأبدية ( ولولا المعلم لانساق ما حصل من جهة الأب) ، وفي نسخة: من جهة الوالدين ( إلى الهلاك الدائم، وإنما المعلم هو المفيد للحياة الأخروية الدائمة) .

والسبب الأكبر للإنعام عليه بتلك الحياة والخلود في دار النعيم فأبو الإفادة أقوى من أبي الولادة، وهو الذي أنقذه الله به من ظلمة الجهل إلى نور الإيمان، وقال ابن الحاج في المدخل: أمة النبي صلى الله عليه وسلم في الحقيقة أولاده; لأنه السبب للإنعام عليهم بالنعمة السرمدية، فحقه أعظم من حقوق الوالدين، قال عليه الصلاة والسلام: "ابدأ بنفسك"، فقدم نفسه على غيره، والله قدمه في كتابه على نفس كل مؤمن، ومعناه إذا تعارض حقان، حق لنفسه وحق لنبيه فأكرمها وأوجبها حق النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يعجل حق نفسه تبعا للحق الأول، وإذا تأملت الأمر في الشاهد وجدت نفع المصطفى صلى الله عليه وسلم أعظم من نفع الآباء والأمهات، وجميع الخلق; فإنه أنقذك وأنقذ آباءك من النار وغاية أمر أبويك أنهما أوجداك في الحس، فكانا سببا لإخراجك إلى دار التكليف والبلاء والمحن اهـ .

ويلحق به صلى الله عليه وسلم كل معلم لطريقته على وجه الإرشاد والإصلاح والهداية، وبهذا التقرير يظهر لك سر كلام المصنف وبدؤه بحديث أبي هريرة، فتأمل ذلك ترشد .

وعبارة الذريعة حق المعلم أن يجري متعلميه مجرى بنيه، فإنه في الحقيقة لهم أشرف الأبوين كما قال الإسكندر وقد سئل عن ذلك: أمعلمك أكرم عليك أم أبوك؟ فقال: معلمي; لأنه سبب حياتي الباقية، ووالدي سبب حياتي الفانية، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله: إنما أنا لكم مثل الوالد فحق معلم الفضيلة أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم إذ هو في إرشاد الناس خليفة ويشفق عليهم إشفاقه ويتحنن عليهم تحننه كما قال الله تعالى في وصفه عليه السلام: حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم اهـ .

( أعني) بذلك ( معلم علوم الآخرة) على وجه الإرشاد والتربية والتسليك على طريقته صلى الله عليه وسلم إذ العلماء ورثة الأنبياء فهم في مقام إرشاد الأمة ( أو) معلم ( علوم الدنيا على قصد) الوصول إلى ما ينفع في ( الآخرة لا على قصد) الوصول إلى حصول أمور ( الدنيا فأما التعليم) والتعلم ( على قصد) تحصيل حطام ( الدنيا) والتمكن في زينتها والتفاخر بها في الملابس والمآكل والراكب ( فهو هلاك) في نفسه ( وإهلاك) لغيره ( نعوذ بالله منه) آمين ( وكما أن حق أبناء الرجل الواحد) من الأب والأم ( أن يتحابوا) بالألفة المعنوية ( ويتعاونوا على المقاصد) غير متحاسدين ( فحق تلامذة الرجل الواحد) جمع تلميذ وهو المتعلم ( التحاب) مع البعض والتواد ( ولا يكون) الحال ( إلا كذلك إن كان مقصودهم) من اجتماعهم على الشيخ الاستفادة والاهتداء إلى طريق (الآخرة ولا يكون إلا التحاسد والتباغض) وقطع الأعراض والإعراض مع المفاخرة ( إن كان مقصدهم) طلب ( الدنيا فإن العلماء) بالله تعالى [ ص: 337 ] ( وأبناء الآخرة مسافرون) على مطايا هممهم ( إلى الله تعالى وسالكون إليه الطريق) على تباين مراتبهم في سلوكهم قوة وضعفا ( من الدنيا وسنوها) جمع سنة ( وشهورها) وجمعها ( منازل الطريق) بمثابة منازل الحج المعلومة ( والترافق في الطريق) بمقتضى الرفيق قبل الطريق ( بين المسافرين) سفرا ظاهريا ( إلى الأمصار) والقرى لأغراض معلومة; ( سبب التواد والتحاب) لأنه الذي يجمع كلمتهم، ويضم شملهم هذا حال السفر في منازل الدنيا، ( فكيف) حال ( السفر) المعنوي الذي يحتاج إلى اهتمام زائد إلى عالم البرزخ أولا، ثم إلى الجنة، ثم ( إلى الفردوس الأعلى) الذي هو أعلى منازلها، وقد ورد: "إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى"، ( و) انظر كيف يكون ( الترافق في طريقه) والتعاون على الوصول إليه، ( ولا ضيق في سعادات الآخرة) لكونها أفاضت والمهيع واسع; ( فلذلك لا يكون بين أبناء الآخرة تنازع) ولا تنافس وكل وارد على ذلك المهيع على قدر اجتهاده ( ولا سعة في سعادات الدنيا) لكونها مشوبة بالأكدار، ممزوجة بركوب الأخطار; ( فلذلك لا ينفك) أبدا ( عن ضيق التزاحم) والتنافس والتوثب على البعض بموجب الشهوات النفسية على قلة وكثرة واختلاف مراتب حسب الدواعي .

( والعادلون) أي: المائلون ( إلى طلب الرياسة) والوجاهة ومتاع الدنيا الزائلة ( بالعلوم) أي: بتحصيلها ( خارجون عن موجب قوله تعالى: إنما المؤمنون إخوة ) فأصلحوا بين أخويكم ، قال السمين: وفي الآية إشارة إلى الحق وتشاركهم في الصفة المقتضية لذلك، وقال ابن عرفة: الأخوة إذا كانت في غير الولادة كانت المشاركة والاجتماع في الفعل ( داخلون في مقتضى قوله تعالى: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) والموجب والمقتضي واحدا ذات مقتضى النص ما لا يدل اللفظ عليه ولا يكون ملفوظا، لكن يكون من ضرورة اللفظ أعم من أن يكون شرعيا أو عقليا، ونص الذريعة: كما أن من حق أولاد الأب الواحد أن يتحابوا فيتعاضدوا ولا يتباغضوا، كذلك حق بني المعلم، بل بني الدين الواحد أن يكونوا كذلك؛ فأخوة الفضيلة فوق أخوة الولادة، ولذلك قال تعالى: إنما المؤمنون إخوة ، وقال تعالى: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين اهـ .

فهذا أصل العبارة وزاد المصنف عليه كما ترى .




الخدمات العلمية