الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الوظيفة الثالثة : أن لا يدع من نصح المتعلم شيئا وذلك بأن يمنعه من التصدي لرتبة قبل استحقاقها والتشاغل بعلم خفي قبل الفراغ من الجلي ثم ينبهه على أن الغرض بطلب العلوم القرب إلى الله تعالى دون الرياسة والمباهاة والمنافسة ويقدم تقبيح ذلك في نفسه بأقصى ما يمكن فليس ما يصلحه العالم الفاجر بأكثر مما يفسده فإن علم من باطنه أنه لا يطلب العلم إلا للدنيا نظر إلى العلم الذي يطلبه فإن كان هو علم الخلاف في الفقه والجدل في الكلام والفتاوى في الخصومات والأحكام فيمنعه من ذلك فإن هذه العلوم ليست من علوم الآخرة ولا من العلوم التي قيل فيها تعلمنا العلم لغير الله فأبى العلم أن يكون إلا لله وإنما ذلك علم التفسير وعلم الحديث وما كان الأولون يشتغلون به من علم الآخرة ومعرفة أخلاق النفس وكيفية تهذيبها فإذا تعلمه الطالب وقصد به الدنيا فلا بأس أن يتركه فإنه يثمر له طمعا في الوعظ والاستتباع ولكن قد يتنبه في أثناء الأمر أو آخره إذ فيه العلوم المخوفة من الله تعالى المحقرة للدنيا المعظمة للآخرة وذلك يوشك أن يؤدي إلى الصواب في الآخرة حتى يتعظ بما يعظ به غيره .

ويجري حب القبول والجاه مجرى الحب الذي ينثر حوالي الفخ ليقتنص به الطير، وقد فعل الله ذلك بعباده إذ جعل الشهوة ليصل الخلق بها إلى بقاء النسل وخلق أيضا حب الجاه ليكون سببا لإحياء العلوم وهذا متوقع في هذه العلوم .

فأما الخلافيات المحضة ومجادلات الكلام ومعرفة التفاريع الغريبة فلا يزيد التجرد لها مع الإعراض عن غيرها إلا قسوة القلب وغفلة عن الله تعالى وتماديا في الضلال وطلبا للجاه إلا من تداركه الله تعالى برحمته أو مزج به غيره من العلوم الدينية .

ولا برهان على هذا كالتجربة والمشاهدة فانظر واعتبر واستبصر لتشاهد تحقيق ذلك في العباد والبلاد والله المستعان .

وقد رؤي سفيان الثوري رحمه الله حزينا فقيل له ما لك فقال : صرنا متجرا لأبناء الدنيا يلزمنا ، أحدهم حتى إذا تعلم جعل قاضيا أو عاملا أو قهرمانا .

التالي السابق


( الوظيفة الثالثة: أن لا يدخر)

أي لا يبقي المعلم ( من نصح المتعلم شيئا) ما والتنكير للتقليل ( وذلك بأن يمنعه من التصدي) أي: التعرض ( لرتبة قبل استحقاقها) أي: قبل الاستئهال لها كالتدريس مثلا لما في الحديث: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ( والتشاغل بعلم) من العلوم ( خفي) المدرك بعيد الغور ( قبل الفراغ من) العلم ( الجلي) وتحصيله وذلك كان يتشاغل بمعرفة دقائق أسرار الشريعة قبل تكميل ظواهرها وكذلك التعرض لأسرار الحقيقة لمن لم يتهذب في ظاهر العلوم وهذا ضرر كبير فسد به جملة من الطالبين ومنعوا عن الوصول إلى المطلوب وهذا الذي يقال فيه: ظفر ظفرة النظام وتزبب قبل أن يتحصرم ( ثم) على المعلم ( أن ينبهه) مرة بعد مرة ( على أن مطلب العلوم) والمقصد من تحصيلها إنما هو ( القرب من الله) تعالى والوصول إليه ( دون الرياسة) الظاهرية ( والمباهاة) والمفاخرة ( والمنافسة) مع الأقران في مجالس الأمراء والكبار ليقال إنه عالم وإنه مبرز وإنه فارس الميدان، ( ويقدم تقبيح ذلك في نفسه) أي: المتعلم ( بأقصى ما يمكن) ، ونهاية ما يستطيع بلطف تدبير وحسن احتيال في إيصال ذلك إلى ذهنه إذ النفوس بجبلتها مائلة إلى الرئاسة ومشغوفة بتحصيل الشهرة فلا يمكن إخراج ذلك منه إلا بما ذكرنا، وهذا هو عين الإرشاد ( فليس ما يصلحه العالم الفاجر) وهو الشاق ستر الديانة، أو الذي يباشر الأمور على خلاف الشرع والمروءة ( بأكثر مما يفسده) ; لأن طلب الرياسة هلاك في نفسه وصاحبها إذا صلح على يده غيره فهو نادر بالنسبة إلى ما يترتب على فساده، وإفساده من التداعي إلى الدنيا والجاه ظاهرا أو إلى تركها ظاهرا وحبها باطنا وكلاهما مهلكان، وقد تقدم شيء من ذلك في كلام المصنف في أثناء آفات المناظرة .

وأخرج أبو نعيم في الحلية في ترجمة وهيب بن المورز المكي بسنده إليه قال: بلغنا أن العلماء ثلاثة: فعالم يتعلمه لنفد به عند التجار وعالم يتعلمه لنفسه لا يريد به إلا أنه خاف أن يعمل بغير علم فيكون ما يفسد أكثر مما يصلح ( فإن علم) المعلم ( من باطنه) أي: المتعلم ( أنه لا يطلب العلم) ويشتغل به عليه ( إلا للدنيا) أي: تحصيلها وفي معناه طلب الرياسة والجاه، فإن عليهما مدار حصول الدنيا ( نظر) المعلم ( إلى العلم الذي يطلبه) ، ويشتغل به ( فإن كان هو علم الخلاف في الفقه) أي: علم خلاف فقهاء الأمصار أو فقهاء المذهب خاصة وهو علم الفروع، ( و) علم ( الجدل في الكلام) الذي يتوصل بمعرفته إلى معرفة مذاهب الموافق والمخالف والردود على الفرق الضالة، التي أفسدت عقائدها، ( و) علم ( الفتاوى في الخصومات) الحاصلة بين الناس، ( و) معرفة ( الأحكام) المتعلقة بذلك ( فيمنعه من ذلك) باللطف والتدريج، ( فإن هذه العلوم) التي ذكرت ( ليست من العلوم التي قيل فيها) فيما سلف ( تعلمنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله) ، وقد تقدم هذا القول في كلام المصنف وذكرنا ما يتعلق به ( وإنما ذلك) العلم ( علم التفسير وعلم الحديث) ومتعلقاتهما، ( وما كان الأولون) من السلف ( يشتغلون به) من العلوم النافعة ( وعلم) معرفة ( الآخرة) وأحكامها ( و) علم ( معرفة أخلاق النفس) ممدوحها ومذمومها ( وكيفية تهذيبها) بالرياضات الشرعية ( فإذا تعلمه الطالب) واشتغل به [ ص: 340 ] ( و) لكن ( قصده) حصول متاع ( الدنيا فلا بأس أن يتركه) وفي نسخة: أن يترك أي على قصده ( فإنه يتشمر له) أي: يتهيأ لتحصيله ( طمعا في الوعظ) أي: يكون واعظا، ( والاستتباع) أي: طلب تبع الناس له ( ولكن قد يتنبه) من غير قصد منه ( في أثناء الأمر) وتضاعيفه ( أو آخره) على اختلاف نيته ( إذ فيه العلوم المخوفة) ، أي في مجموع ما ذكر علوم تورث الخوف والخشية من الله ( المحقرة للدنيا) ومتاعها ( المعظمة للآخرة) ، وما أعد الله فيها، ( وذلك يوشك) بكسر الشين وفتحها لغة ضعيفة أي يقرب ( أن يرد) ، وفي نسخة يؤدي ( إلى الصواب في الآخرة) ، وفي نسخة بالآخرة ( حتى يتعظ) بنفسه ( بما يعظ به غيره) عملا بما يعلم غيره، ( ويجري) بذلك ( حب القبول) في الخلق ( والجاه) عندهم ( كالحب الذي ينثر) ويرمي ( حوالي الفتح) الذي ينصب ( ليقتنص به الطير) أي: يصطاد، ( وقد فعل الله) عز وجل ( ذلك بعباده) ، حكمة بالغة ( إذ خلق الشهوة) في أصل التركيب وأوجدها فيه ( ليصل الخلق بها) وفي نسخة به وهو خلاف الظاهر ( إلى بقاء) نظام العالم بوجود ( النسل) والذرية ( وخلق أيضا حب الجاه) والقبول وركزها في بعض النفوس; ( ليكون سببا لإحياء العلوم) ، ولولا ذلك لاندرست، وهذه العبارة منتزعة من سياق القوت، ولفظه: وقال الحسن رحمه الله: يتعلم هذا العلم قوم لا نصيب لهم منه في الآخرة يحفظ الله بهم العلم على الأمة; لئلا يضيع وقال المأمون: لولا ثلاث لخربت الدنيا: لولا الشهوة لانقطع النسل، ولولا حب الجمع لبطلت المعايش، ولولا طلب الرياسة لذهب العلم اهـ .

( وهذا متوقع) ومرجو ( في هذه العلوم) التي ذكرت ( فأما) معرفة ( الخلاف المحض ومجادلة الكلام ومعرفة التفريعات الغريبة) من المسائل الفقهية الفرعية ( فلا يزيد التجرد لها) والاهتمام بها ( مع الإعراض) الكلي ( عن غيرها إلا قسوة في القلب) وظلمة ( وغفلة عن الله) تعالى لأن هذه العلوم لا تكاد أن يوجد فيها ذكر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ما عدا الخطب ( وتماديا في الضلال وطلب الجاه) وتطاولا فيهما ( إلا من تداركه الله تعالى برحمته) فعصمه من الغفلة والقسوة ( أو مزج به غيره من العلوم الدينية) غير متفرد عليه ( ولا برهان على هذا) أي: الذي ذكرت ( كالتجربة) في نفسه ( والمشاهدة) في علماء عصره وأقرانه ( فانظر يا أخي واعتبر) بفكرك ( واستبصر) بعين قلبك ( لتشاهد تحقيق ذلك في العباد والبلاد) مع اختلافهم وتباينها ( الله المستعان) وعليه التكلان ( وقد رؤي) الإمام الزاهد الورع ( سفيان) بن سعيد بن مسروق ( الثوري) رحمه الله تعالى ( حزينا) أي: مغموما ( فقيل) : أي قال له بعض أصحابه ( ما لك) أي: لأي شيء أراك محزونا؟ ( فقال: صرنا متجرا لأبناء الدنيا، فيلزمنا أحدهم) في طلب علم الحديث ( حتى إذا تعلم) رغب إلى الدنيا ورغب إليه الناس فإما ( جعل عاملا) على الخراج السلطاني ( أو قاضيا) يقضي بالأحكام ( أو قهرمانا) يلي أمور السلطان .

أخرجه الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في مناقب سفيان بالسند وهي في حلية الأولياء لأبي نعيم الحافظ في ترجمته وأوردها كذلك صاحب القوت وعنه أخذ المصنف، ولفظه: قال بعض أصحاب الحديث: رأيت سفيان الثوري حزينا فسألته فقال وهو متبرم: ما صرنا إلا متجرا لأبناء الدنيا فقلت: وكيف؟ قال: يلزمنا أحدهم حتى إذا عرف بنا وحمل عنا جعل عاملا أو جابيا أو قهرمانا .




الخدمات العلمية