الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
العاشر تحسين القراءة وترتيلها بترديد الصوت من غير تمطيط مفرط يغير النظم فذلك سنة قال صلى الله عليه وسلم : زينوا القرآن بأصواتكم وقال عليه السلام : ما أذن الله لشيء إذنه لحسن الصوت بالقرآن وقال صلى الله عليه وسلم : ليس منا من لم يتغن بالقرآن فقيل أراد به الاستغناء وقيل : أراد به الترنم ، وترديد الألحان به ، وهو أقرب عند أهل اللغة .

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ليلة ينتظر عائشة رضي الله عنها فأبطأت عليه فقال صلى الله عليه وسلم : ما حبسك قالت ؟ : يا رسول الله كنت أستمع قراءة رجل ما سمعت أحسن صوتا منه فقام صلى الله عليه وسلم حتى استمع إليه طويلا ، ثم رجع ، فقال صلى الله عليه وسلم : هذا سالم مولى أبي حذيفة الحمد لله الذي جعل في أمتي مثله واستمع صلى الله عليه وسلم أيضا ذات ليلة إلى عبد الله بن مسعود ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، فوقفوا طويلا ، ثم قال صلى الله عليه وسلم من أراد أن يقرأ القرآن غضا طريا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد

وقال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود : اقرأ علي ، فقال : يا رسول الله أقرأ عليك ، وعليك أنزل ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : إني أحب أن أسمعه من غيري فكان يقرأ وعينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تفيضان واستمع صلى الله عليه وسلم إلى قراءة أبي موسى فقال : لقد أوتي هذا من مزامير آل داود ، فبلغ ذلك أبا موسى ، فقال : يا رسول الله لو علمت أنك تسمع ، لحبرته لك تحبيرا ورأى هيثم القارئ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام قال ، فقال لي : أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك ؟ قلت : نعم ، قال : جزاك الله خيرا .

وفي الخبر كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا أحدهم أن يقرأ سورة من القرآن وقد كان عمر يقول لأبي موسى رضي الله عنهما ذكرنا ربنا فيقرأ عنده حتى يكاد وقت الصلاة أن يتوسط فيقال : يا أمير المؤمنين الصلاة الصلاة فيقول أولسنا في صلاة إشارة إلى قوله عز وجل ولذكر الله أكبر وقال صلى الله عليه وسلم من استمع إلى آية من كتاب الله عز وجل كانت له نورا يوم القيامة ، وفي الخبر كتب له عشر حسنات ومهما عظم أجر الاستماع ، وكان التالي هو السبب فيه كان شريكا في الأجر إلا أن يكون قصده الرياء والتصنع .

التالي السابق


(العاشر تحسين القراءة وتزيينها بترديد الصوت من غير تمطيط مفرط بغير النظم فذلك هو السنة ) ، اعلم أن كيفيات القراءة ثلاثة أحدها التحقيق، وهو إعطاء كل حرف حقه من إشباع المد وتحقيق الهمزة، وإتمام الحركات، واعتماد الإظهار، والتشديدات، وبيان الحروف، وإخراج بعضها من بعض بالسكت والرسل والتؤدة، وملاحظة الجائز من الوقوف بلا قصر، ولا اختلاس، ولا إسكان محرك، ولا إدغامه من غير أن يتجاوز فيه إلى حد الإفراط بتوليد الحروف من حركات وتكرير الراآت وتحريك السواكن، وتطنين النونات بالمبالغة في الغنات .

كما قال حمزة لبعض من سمعه يبالغ في ذلك، أما علمت أن ما فوق البياض برص، وما فوق الجعودة قطط، وما فوق القراءة ليس بقراءة. الثانية الحدر بفتح الحاء، وسكون الدال المهملتين، وهو إدراج القراءة، وتحقيقها بالقصر، والتسكين والاختلاس والبدل والإدغام الكبير وتخفيف الهمزة ونحو ذلك مما صحت به الرواية مع مراعاة إقامة الإعراب، وتقديم اللفظ، وتمكين الحروف بدون بتر حروف المد واختلاس أكثر الحركات، وذهاب الصوت إلى غاية لا تصح بها القراءة، ولا توصف بها التلاوة. الثالثة التدوير، وهو التوسط بين المقامين، التحقيق والحدر وهو الذي ورد عن أكثر الأئمة ممن مد المنفصل، ولم يبلغ فيه الإشباع وهو المنفصل وهو المختار عند أكثر أهل الأداء .

والفرق بين التحقيق والترتيل أن التحقيق يكون للرياضة والتعليم والتمرين، والترتيل يكون للتدبر والتفكر والاستنباط فكل تحقيق ترتيل، وليس كل ترتيل تحقيقا، وفي جمال القراءة قد ابتدع الناس في قراءة القرآن أصواتا، ويقال أول ما غني به من القرآن قوله تعالى أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر نقلوا ذلك من تغنيهم بقول الشاعر:


أما القطاة فإني سوف أنعتها نعتا يوافق عندي بعض ما فيها

وقد قال صلى الله عليه وسلم في هؤلاء: مفتونة قلوبهم، وقلوب من يعجبهم شأنهم، ومما ابتدعوه شيء، وسموه الترقيص وهو أن يروم السكت على الساكن، ثم ينفر مع الحركة كأنه في عدو وهرولة، وآخر يسمى التطريب وهو أن يترنم بالقرآن، ويتهيم به فيمد في غير مواضع المد، ويزيد في المد على المد على ما ينبغي .

وآخر يسمى التحزين وهو أن يأتي على وجه حزن يكاد يبكي مع خشوع وخضوع، (قال صلى الله عليه وسلم: زينوا القرآن بأصواتكم ) ففيه حث على ترتيله ورعاية إعرابه وتحسين الصوت به، وتنبيه على التحرز من اللحن، والتصحيف فإنه إذا قرئ كذلك كان أوقع في القلوب وأشد تأثيرا وأرق لسامعيه، وسماه تزيينا; لأنه تزيين للفظ وللمعنى .

وقيل: هو على القلب، والمراد زينوا أصواتكم بالقرآن، أي: الهجوا بقراءته، واشغلوا أصواتكم به، واتخذوه شعارا وزينة لأصواتكم، وقد روى الحاكم، عن البراء - رضي الله عنه - هكذا زينوا [ ص: 497 ] أصواتكم بالقرآن فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا، وفي أدائه بحسن الصوت وجودة الأداء بعث للقلوب على استماعه، وتدبره والإصغاء إليه، قال التوربشتي: هذا إذا لم يخرجه التغني عن التجويد، ولم يصرفه عن مراعاة النظم في الكلمات والحروف فإن انتهى إلى ذلك عاد الاستحباب كراهة، وأما الحديث المذكور فقال العراقي: رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، وصححه من حديث البراء ابن عازب اهـ .

قلت: قال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا شعبة، عن طلحة بن مصرف، عن عبد الرحمن بن عوسجة، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: زينوا القرآن بأصواتكم، وهو حديث حسن صحيح أخرجه أحمد، عن محمد بن جعفر، ويحيى بن سعيد كلاهما، عن شعبة مطولا .

وأخرجه البخاري في كتاب خلق أفعال العباد، عن محمود بن غيلان، عن أبي داود الطيالسي، وأخرجه أبو داود والنسائي من رواية الأعمش، وأحمد أيضا، والنسائي من رواية منصور كلاهما، عن طلحة بن مصرف، وأخرجه النسائي أيضا، وابن ماجه من رواية يحيى بن سعيد، وله طريق أخرى، عن البراء بلفظ "حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا" رواه ابن أبي داود، عن إسحاق بن إبراهيم بن زيد، عن محمد بن بكير.

وقد روي هذا الحديث أيضا عن أبي هريرة بلفظ المصنف قال جعفر بن محمد: حدثنا أبو بكر بن أبي عثمان، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه عنه ذكره البخاري في أواخر كتاب التوحيد من صحيحه معلقا، وقال في كتاب خلق أفعال العباد، روى سهيل بن أبي صالح فذكره، وأخرجه ابن أبي داود، عن البخاري، عن يحيى بن بكير، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، عن عمر بن محمد البحيري، عن البخاري.

وقد روي هذا الحديث أيضا عن عبد الرحمن بن عوف، وعن أنس كلاهما، عن البزار، وسند كل منهما ضعيف، وعن ابن عباس عند الطبراني، وفي سنده انقطاع، وعند الدارقطني في الأفراد، وسنده حسن، (وقال صلى الله عليه وسلم: ما أذن الله تعالى) أي ما استمع (لشيء إذنه) بالتحريك أي استماعه (لحسن الصوت بالقرآن) .

قال الأزهري: أخبرنا عبد الملك عن الربيع، عن الشافعي أن معناه تحزين القراءة، وترقيقها، وتحقيق ذلك في الحديث الآخر زينوا القرآن بأصواتكم وهكذا فسره أبو عبيد، قال العراقي: متفق عليه من حديث أبي هريرة ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن زاد مسلم لنبي حسن الصوت بالقرآن، وفي رواية له كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن اهـ .

قلت: قال أبو نعيم في مستخرجه على صحيح مسلم: حدثنا عبد الله بن أحمد بن إسحاق، حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، حدثنا سليمان بن داود الرشديني، حدثنا عبد الله بن وهب، حدثني عمر بن مالك، وحيوة بن شريح كلاهما عن ابن الهاد، وهو يزيد بن عبد الله، عن محمد بن إبراهيم التميمي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن، وهو حديث صحيح رواه مسلم، عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، عن عمه عبد الله بن وهب، وأخرج أيضا عن بشر بن الحكم، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن يزيد بن الهاد.

وأخرج البخاري من وجه آخر، عن ابن الهاد، وأخرجه أبو داود، عن الرشديني، عن عبد الله بن وهب، وأخرج الشيخان أصل هذا الحديث من طريق آخر، عن أبي سلمة دون قوله حسن الصوت، وفي بعضها يجهر به، (وقال صلى الله عليه وسلم: ليس منا من لم يتغن بالقرآن) تقدم تخريج هذا الحديث قريبا (قيل أراد به الاستغناء) ، قال الأزهري في التهذيب: قال سفيان بن عيينة معناه ليس منا من لم يستغن بالقرآن، ولم يذهب إلى معنى الصوت، وقال أبو عبيد: وهو فاش في كلام العرب يقولون تغنيت تغنيا وتغانيت تغانيا بمعنى استغنيت (وقيل: أراد به الترنم، وترديد الألحان به، وهو أقرب عند أهل اللغة) ، ولفظ القوت وهو أحد الوجهين وواجهها إلى أهل اللغة .

قلت: والذي نقله الأزهري، عن أبي عبيد يخالف ذلك لكن يقوي هذا الوجه حديث فضالة بن عبيد الذي تقدم ذكره للمصنف مرفوعا لله أشد إذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب لقينة إلى قينته رواه النسائي وابن ماجه وابن حبان وأبو عبيد وأبو مسلم الكجي في السنن، والحاكم [ ص: 498 ] في المستدرك، (وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ليلة ينتظر عائشة رضي الله عنها فأبطأت عليه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حبسك؟ فقالت: يا رسول الله كنت أسمع قراءة رجل ما سمعت أحسن صوتا منه فقام صلى الله عليه وسلم حتى استمع إليه طويلا، ثم رجع، فقال: هذا سالم مولى أبي حذيفة الحمد لله الذي جعل في أمتي مثله ) ، هكذا أورده صاحب القوت .

قال العراقي: رواه ابن ماجه من حديث عائشة ورجال إسناده ثقات اهـ .

قلت: قال ابن ماجه: حدثنا العباس بن محمد الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثني حنظلة بن أبي سفيان أنه سمع عبد الرحمن بن سابط يحدث عن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: أبطأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العشاء تعني في المسجد، ثم جئت، فقال: أين كنت؟ قلت: كنت أسمع قراءة رجل من أصحابك لم أسمع مثل قراءته وصوته من أحد، قالت: فقام وقمت معه حتى استمع له، ثم التفت إليها، فقال: هذا سالم مولى أبي حذيفة الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا، هذا حديث حسن .

أخرجه محمد بن نصر في قيام الليل، عن داود بن رشيد، عن الوليد بن مسلم، ورجاله رجال الصحيحين لكن عبد الرحمن بن سابط كثير الإرسال، وقد أخرجه عبد الله بن المبارك في كتاب الجهاد، عن حنظلة شيخ الوليد فأرسله قال ابن سابط: إن عائشة سمعت سالما، وابن المبارك أتقن من الوليد بن مسلم، قال الحافظ: وقد صححه الحاكم وخفيت عليه علته، لكن وجدت له طريقا أخرى أخرجها البزار من رواية الوليد بن صالح بن أبي أسامة، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة فذكر الحديث دون القصة، وقال تفرد به أبو أسامة، قال الحافظ: وإذا انضم إلى السند الذي قبله تقوى به، وعرف أن له أصلا، ولا يبعد تصحيحه وسالم المذكور من المهاجرين الأولين، وكان مولى امرأة من الأنصار أعتقته قبل الإسلام فحالف أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة فتبناه، فلما نزلت: ادعوهم لآبائهم قيل له: مولى أبي حذيفة، وهو أحد الأربعة الذين أمر صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن عنهم، وهو في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر، واستشهد سالم وأبو حذيفة معا باليمامة في خلافة الصديق رضي الله عنهم أجمعين، (واستمع) صلى الله عليه وسلم (أيضا ذات ليلة إلى عبد الله بن مسعود ) - رضي الله عنه - وهو يقرأ، (ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فوقفوا طويلا، ثم قال من أراد أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد ) .

كذا في القوت قال العراقي: رواه أحمد والنسائي في الكبرى من حديث عمر وللترمذي وابن ماجه من حديث ابن مسعود أن أبا بكر وعمر بشراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أحب أن يقرأ... الحديث، وقال الترمذي: حسن صحيح اهـ .

قلت: لفظ المصنف ساقه الطبراني في الكبير عن عبد الله بن عمر، وبلفظ: من أحب، أخرجه أحمد، وابن ماجه والطبراني في الكبير، والحاكم، عن أبي بكر وعمر ورواه أبو يعلى، والطبراني في الكبير، عن ابن مسعود، ورواه أحمد أيضا وابن منده، عن عمرو بن المصطلق، ورواه أبو نصر السجزي في الإبانة والخطيب وابن عساكر، عن ابن عمر ورواه الطبراني أيضا في الكبير عن عمار بن ياسر.

ورواه أبو يعلى أيضا والعقيلي، عن أبي هريرة، وروى ابن عساكر من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن أبيه، عن جده بلفظ: من أحب أن يسمع القرآن جديدا غضا كما أنزل فليسمعه من ابن مسعود (وقال صلى الله عليه وسلم) ذات يوم (لابن مسعود: اقرأ علي، فقال: يا رسول الله أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ فقال: إني أحب أن أسمعه من غيري فكان يقرأ وعينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تفيضان ) أي تسيلان بالدموع كذا في القوت، وذلك عند قوله تعالى: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا وسيأتي للمصنف إعادة ذلك قريبا قال العراقي: متفق عليه من حديث ابن مسعود قلت: وزاد صاحب القوت هنا ما نصه، وكان ابن مسعود يأمر علقمة بن قيس أن يقرأ بين يديه، ويقول له: رتل فداك أبي وأمي، وكان حسن الصوت بالقرآن اهـ .

قلت: قال أبو نعيم في المستخرج: حدثنا أحمد بن جعفر بن سعيد، حدثنا عبد الله بن محمد بن النعمان، حدثنا أبو ربيعة واسمه زيد بن عوف، حدثنا سعيد بن زربي [ ص: 499 ] حدثنا حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم يعني النخعي، عن علقمة قال: كنت رجلا حسن الصوت فكان عبد الله بن مسعود يرسل إلي فآتيه فأقرأ فيقول: رتل فداك أبي وأمي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: حسن الصوت زينة القرآن، وأخرجه ابن أبي داود في كتاب الشريعة، عن أسيد بن عاصم، عن زيد بن عوف.

وأخرجه أيضا، عن أبيه، وأخرجه البزار، عن محمد بن يحيى كلاهما، عن مسلم بن إبراهيم، عن سعيد بن زربي قال البزار: تفرد به سعيد وليس بقوي، قال الحافظ: وأبو ربيعة فيه مقال لكنه توبع، وقد أخرجه الطبراني وابن عدي وغيرهما من طرق عن سعيد، ووقع في رواية الطبراني من الزيادة، قال علقمة: فكنت إذا فرغت من قراءتي، قال: زدنا من هذا فإني سمعت فذكره، (واستمع صلى الله عليه وسلم إلى قراءة أبي موسى) عبد الله بن قيس (الأشعري) - رضي الله عنه -، (فقال: لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود، فبلغ ذلك أبا موسى، فقال: يا رسول الله لو علمت أنك تسمع، لحبرته لك تحبيرا ) ، قال العراقي: متفق عليه من حديث أبي موسى اهـ .

قلت: ورواه النسائي من حديث عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع صوت أبي موسى الأشعري، وهو يقرأ، فقال: لقد أوتي أبو موسى من مزامير آل داود، وقال أبو نعيم في المستخرج: حدثنا أبو عمرو بن حمدان، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، حدثنا طلحة بن يحيى، عن خاله أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم: لو رأيتني وأنا أستمع قراءتك البارحة، لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود، قلت: يا رسول الله لو علمت أنك تسمع لقراءتي لحبرته لك تحبيرا، أخرجه عن داود بن رشيد، عن يحيى بن سعيد.

وقال أبو نعيم أيضا: حدثنا حبيب بن الحسن، حدثنا يوسف القاضي، حدثنا عمرو بن مرزوق، وقال الدارمي: حدثنا عثمان بن عمر، قال: حدثنا مالك بن مغول، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أوتي الأشعري، أو أبو موسى مزمارا من مزامير آل داود أخرجه مسلم، عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه، عن مالك بن مغول، وقال أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده، حدثنا شريح بن يونس، حدثنا خالد بن نافع، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبي بردة، عن أبي موسى - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم، وعائشة مرا بأبي موسى، وهو يقرأ في بيته فقاما يستمعان لقراءته، فلما أصبح أتى أبو موسى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له، فقال: أما إني يا رسول الله لو علمت لحبرته لك تحبيرا، أخرجه ابن عدي في الكامل في ترجمة خالد بن نافع، وهو مختلف فيه .

وقال محمد بن أبي عمر المدني في مسنده: حدثنا بشر بن السري، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس - رضي الله عنه - أن أبا موسى كان يقرأ ذات ليلة فجعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يستمعن لقراءته، فلما أصبح أخبر بذلك، فقال: لو علمت لحبرته تحبيرا، أو لسوقتكن تسويقا، أخرجه أحمد بن منيع في مسنده، ومحمد بن سعد في الطبقات جميعا، عن يزيد بن معروف زاد ابن سعد وعفان كلاهما، عن حماد بن سلمة، وزاد فيه وكان حلو الصوت، والمراد بالمزمار في الحديث الصوت الحسن، وأصله الآلة التي يزمر بها شبه حسن صوته، وحلاوة نغمته بصوت المزمار، وآل داود هنا داود نفسه، ولفظ الآل مقحم، وقيل: معناه هنا الشخص، وداود هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان إليه المنتهى في حسن الصوت بالقراءة .

وقال أبو نعيم: حدثنا أحمد بن محمد بن يوسف، حدثنا عبد الله بن محمد البغوي، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري، وحدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا سليمان التميمي، عن أبي عثمان النهدي قال: صلى بنا أبو موسى الأشعري صلاة الصبح فما سمعت صوت صنج، ولا بربط كان أحسن صوتا منه هذا موقوف صحيح، أخرجه أبو عبيد في الفضائل، ومحمد بن سعد في الطبقات كلاهما، عن إسماعيل بن إبراهيم، أخبرنا سليمان التميمي، قال الولي العراقي في شرح التقريب: استدل بهذا الحديث على أنه لا بأس بالقراءة بالألحان، وبه قال أبو حنيفة وجماعة من السلف .

وقال: بكراهتها، مالك وأحمد والجمهور، ونقل المزني والربيع المرادي، عن الشافعي أنه لا بأس بها، ونقل عنه الربيع [ ص: 500 ] الجيزي: أنها مكروهة، قال بعض الأصحاب: وليس في هذا اختلاف، ولكن موضع الكراهة أن يفرط في المد، وفي إشباع الحركات حتى يتولد من الفتحة ألف، ومن الضمة واو، ومن الكسرة ياء، أو يدغم في غير موضع الإدغام فإن لم ينته إلى هذا الحد فلا كراهة، وكذا حمل الحنابلة نص إمامهم على الكراهة على هذه الصورة، وهي كراهة تنزيه .

وقال النووي في "الروضة": الصحيح إنه إذا فرط على الوجه المذكور، فهو حرام صرح به صاحب الحاوي، فقال: هو حرام يفسق به القارئ، ويأثم المستمع; لأنه عدل به عن نهجه القويم، وهذا مراد الشافعي بالكراهة، وذكر الإسنوي في المهمات أن تصحيح النووي في هذه المسألة ضعيف مخالف لكلام الشافعي، والأصحاب فلا معول عليه قال: ثم إن القول بالتفسيق بتقدير التحريم مشكل لا دليل عليه، بل الصواب على هذا التقدير أن يكون صغيرة اهـ .

وقال أبو العباس القرطبي بعد ذكره الخلاف في ذلك: ولا شك أن موضع الخلاف في هذه المسألة إنما هو إذا لم يغير لفظ القرآن بزيادة، أو نقصان، أو يبهم معناه بترديد الأصوات، فلا يفهم معنى القرآن فإن هذا مما لا أشك في تحريمه، فإما إن سلم من ذلك وحذا به حذو أساليب الغناء والتطريب والتحزين فقط، فقال مالك: ينبغي أن تنزه أذكار الله، وقراءة القرآن، عن التشبه بأحوال المجون والباطل فإنها حق وجد وصدق، والغناء هزل ولهو ولعب، وهذا الذي قاله مالك وجمهور العلماء هو الصحيح اهـ .

وفي الحديث منقبة لأبي موسى الأشعري، وفيه جواز مدح الإنسان في وجهه إذا لم يخش من ذلك مفسدة بحصول العجب للممدوح، والله أعلم .

(ورأى الهيثم القارئ) هو الهيثم بن حميد الغساني، عن يحيى بن الحارث الزماري وزيد بن واقد، وعنه هشام بن عماد، وعلي بن حجر قال رحيم: كان أعلم الناس بقول مكحول، وقال أبو داود: ثقة (النبي صلى الله عليه وسلم في المنام قال، فقال لي: أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك؟ قلت: نعم، قال: جزاك الله خيرا) ، وهذا يقوي ما ذكرناه في حديث زينوا القرآن بأصواتكم أنه لا قلب فيه، (وفي الخبر كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا أحدهم أن يقرأ سورة من القرآن) نقله صاحب القوت .

(وقد كان عمر) بن الخطاب (يقول لأبي موسى) الأشعري رضي الله عنهما: (ذكرنا ربنا فيقرأ عنده حتى يكاد وقت الصلاة أن يتوسط) أي: يصير وقتا بين الوقتين، (فيقال: يا أمير المؤمنين الصلاة الصلاة فيقول أولسنا في صلاة) ؟! هكذا أورده صاحب القوت، (إشارة إلى قوله تعالى) ، ولفظ القوت كأنه يتأول قوله تعالى (ولذكر الله أكبر) ، زاد صاحب القوت هنا: وقال بعض عباد البصرة لما وضع بعض البغداديين كتابا في معاني الرياء، وخفي آفات النفوس، قال: لقد كنت أمشي بالليل أسمع أصوات المتهجدين كأنها أصوات الميازيب فكان في ذلك أنس وحث على الصلاة، والتلاوة حتى جاء البغداديون بدقائق الرياء، وخفايا الآفات، فسكت المتهجدون فلم يزل ذلك ينقص حتى ذهب فانقطع وترك إلى اليوم اهـ .

(وقال صلى الله عليه وسلم من استمع إلى آية) أي أصغى إلى قراءة آية (من كتاب الله) ، وعدى الاستماع بإلى لتضمنه معنى الإصغاء، (كانت له نورا يوم القيامة، وفي الخبر كتب له عشر حسنات) ، هذا لفظ القوت، وسياقه قال العراقي: رواه أحمد من حديث أبي هريرة من استمع إلى آية من كتاب الله كتب له حسنة مضاعفة، ومن تلاها كانت له نورا إلى يوم القيامة، وفيه ضعف وانقطاع اهـ .

قلت: قال الهيتمي فيه عباد بن ميسرة ضعفه أحمد وغيره، وقد رواه ابن مردويه أيضا من هذا الطريق إلا أنه قال: نورا يوم القيامة، وروى أبو نعيم في الحلية، عن ابن عباس من استمع إلى كتاب الله عز وجل كان له بكل حرف حسنة وعند ابن عدي والبيهقي من حديثه من استمع حرفا من كتاب الله طاهرا كتب له عشر حسنات، ومحيت عنه عشر سيئات، ورفعت له عشر درجات الحديث، وروى الديلمي عن أنس من استمع إلى كتاب الله كان له بكل حرف حسنة، (ومهما عظم أجر الاستماع، وكان التالي هو السبب فيه كان شريكا في الأجر إلا أن يكون قصده الرياء والصنع) ، ولفظ القوت، والتالي شريك المستمع في الأجر; لأنه أكسبه ذلك .

وقال بعضهم: للقارئ أجر، وللمستمع أجران، وقال آخر: وللمستمع تسعة أجور، وكلاهما صحيح; لأن كل [ ص: 501 ] واحد منهما على قدر إنصاته ونيته فإذا كان التالي مكسبا لغيره هذه الأجور، فإن له بكل أجر أكسبه أجر يكسبه; لقوله صلى الله عليه وسلم الدال على الخير كفاعله، سيما إن كان عالما بالقرآن فقيها فيه فيكون مقروءه ووقوفه حجة، وعلما لسامعه، وقال في موضع آخر: فإن لم يكن للتالي نية في شيء مما ذكرنا، وكان ساهيا غافلا، عن ذلك، أو كان واقفا مع شيء من الآفات، أو تشبح في قلبه شخص، أو ساكن ذكر هوى فقد اعتل فعليه أن يحتمي الجهر، فإن جهر على ذلك ثقل قلبه، وفسد عمله لاستكنان الداء فيه، وكان إلى النقصان أقرب، ومن الإخلاص أبعد فعليه حينئذ بالإخفاء فهو دواؤه يعالج به حاله فهو أصلح لقلبه، وأسلم لعمله، وأحمد في عاقبته، وقد يكون العبد واجدا لحلاوة الهوى في الصلاة والتلاوة، وهو يظن أن ذلك حلاوة الإخلاص، وهذا من دقيق شأن الشهوة الخفية، ولطيف الانتقاص .

وقد تلبس ذلك على الضعفاء ولا يفطن له إلا العلماء، وإنما يجد حلاوة الإخلاص الزاهدون في الدنيا، وفي مدح الناس لهم نصح المعاملة، وصدق الخدمة المحبون لله تعالى العلماء به، واعتبار فقد ذلك بأحد شيئين سقوط النفس باستواء المدح والذم، وهذا حال في مقام الزهد، أو خروج الخلق من القلب بشهادة اليقين، وهذا في مقام المعرفة، وفي هذين المقامين يستوي السر والعلانية، والله أعلم .




الخدمات العلمية