الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فضيلة الاستغفار .

قال عز وجل : والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم وقال علقمة والأسود قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم : في كتاب الله عز وجل آيتان ما أذنب عبد ذنبا فقرأهما واستغفر الله عز وجل إلا غفر الله تعالى له والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم الآية وقوله عز وجل : ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما وقال عز وجل : فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا وقال تعالى: والمستغفرين بالأسحار وكان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : " سبحانك اللهم وبحمدك ، اللهم اغفر لي ؛ إنك أنت التواب الرحيم " وقال صلى الله عليه وسلم : من أكثر من الاستغفار جعل الله عز وجل له من كل هم فرجا ، ومن كل ضيق مخرجا وارزقه ، من حيث لا يحتسب " وقال صلى الله عليه وسلم : إني لأستغفر الله تعالى وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة هذا مع أنه صلى الله عليه وسلم غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وقال صلى الله عليه وسلم : " إنه ليغان على قلبي حتى إني لأستغفر الله تعالى في كل يوم مائة مرة " وقال صلى الله عليه وسلم : " من قال حين يأوي إلى فراشه أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاث مرات غفر الله له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر أو عدد رمل عالج أو عدد ورق الشجر ، أو عدد أيام الدنيا " وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر : " من قال ذلك غفرت ذنوبه وإن كان فارا من الزحف " وقال حذيفة " كنت ذرب اللسان على أهلي ، فقلت : يا رسول الله ، لقد خشيت أن يدخلني لساني النار ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فأين أنت من الاستغفار ؟! فإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة " وقالت عائشة رضي الله عنها : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إن : " كنت ألممت بذنب فاستغفري الله ، وتوبي إليه ؛ فإن التوبة من الذنب الندم والاستغفار .

" وكان صلى الله عليه وسلم يقول في الاستغفار : " اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت ، المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير " وقال علي رضي الله عنه : " كنت رجلا إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله عز وجل بما شاء أن ينفعني منه ، وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته ، فإذا حلف صدقته قال ، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول : ما من عبد يذنب ذنبا ، فيحسن الطهور ، ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله عز وجل إلا غفر له ثم تلا قوله عز وجل : والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم " الآية

التالي السابق


* ( فضيلة الاستغفار) *

لما فرغ من بيان فضيلة التحميد والتهليل والتسبيح والتكبير والحوقلة والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- شرع في فضيلة الاستغفار، فقال: ( قال الله -عز وجل-: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ) ، ومن يغفر الذنوب إلا الله ( قال علقمة) بن قيس أبو شبل الفقيه ( والأسود) بن يزيد النخعي -رحمهما الله تعالى-: ( قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: في كتاب الله -عز وجل- آيتان ما أذنب عبدا ذنبا فقرأهما واستغفر الله إلا غفر الله له) الأولى: قوله -عز وجل-: ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم الآية و) والثانية ( قوله -عز وجل-: ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما وقال -عز وجل-: والمستغفرين بالأسحار وقال -عز وجل-: فسبح بحمد ربك ) أي: فأثن على الله بصفات الجلال حامدا له على صفات الإكرام ( واستغفره) هضما لنفسك، واستقصارا لعلمك، واستداركا لما فرط منك، وقيل: استغفره لأمتك، بدأ بالتسبيح، ثم بالتحميد، ثم الاستغفار على طريقة التدلي من الخالق إلى الخلق، كما قيل: ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله .

( إنه كان توابا) لمن استغفره ( وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول: "سبحانك وبحمدك، اللهم اغفر لي؛ إنك أنت التواب الرحيم") قال العراقي: رواه الحاكم من حديث ابن مسعود، وقال: صحيح الإسناد إن كان أبو عبيدة سمع من أبيه، والحديث متفق عليه من حديث عائشة أنه كان يكثر أن يقول ذلك في ركوعه وسجوده، دون قوله: إنك أنت التواب الرحيم .

( وقال -صلى الله عليه وسلم-: من أكثر الاستغفار جعل الله -عز وجل- له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب") قال العراقي: رواه أبو داود والنسائي في اليوم والليلة، وابن ماجه، والحاكم وقال: صحيح الإسناد من حديث ابن عباس، وضعفه ابن حبان.

قلت: وكذلك رواه أحمد، وابن السني في اليوم والليلة، والبيهقي في السنن ( وقال -صلى الله عليه وسلم-: إني لأستغفر الله سبحانه وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة) قال العراقي: رواه البخاري من حديث أبي هريرة، إلا أنه قال: "أكثر من سبعين مرة" وهو في الدعاء للطبراني كما ذكره [ ص: 57 ] المصنف. اهـ .

( وهذا مع أنه صلى الله عليه وسلم) كان قد ( غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) فهو من باب الترقي أو الاعتراف بما عسى حصل له من التقصير في رؤية الأعمال والالتفات ( وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنه ليغان على قلبي) الغين: شيء رقيق من الصدأ يغشى القلب، فيغطيه بعض التغطية، وهو كالغيم الرقيق الذي يعرض في الهواء، فلا يحجب الشمس، لكنه يمنع ضوأها، ذكره الإمام الرازي ( حتى إني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة") قال العراقي: رواه مسلم من حديث الأغر. اهـ .

قلت: وهو المزني، له صحبة، روى عنه معاوية بن قرة، وأبو بردة، وقد أورده هكذا أحمد والنسائي وابن ماجه بلفظ: "وإني لأستغفر الله في اليوم".

( وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من قال حين يأوي إلى فراشه) أي: عند النوم ( أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاث مرات غفر الله له -عز وجل- ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر) وهو ما يعلو عليه عند التموج ( أو عدد رمل عالج) وهو موضع في بلاد بني تميم كثير الرمال ( أو كعدد ورق الشجر، أو كعدد أيام الدنيا") رواه الترمذي من حديث أبي سعيد، وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن الوليد الوصافي، قال العراقي: الوصافي وإن كان ضعيفا فقد تابعه عليه عصام بن قدامة، وهو ثقة، رواه البخاري في التاريخ دون قوله: "حين يأوي إلى فراشه" وقوله: "ثلاث مرات" .

قلت: رواه أحمد وأبو يعلى، ولفظ الترمذي: "من قال حين يأوي إلى فراشه أستغفر الله الذي لا إله إلا هو" فساقه كسياق المصنف، إلا أنه قال بعد قوله "زبد البحر": "وإن كانت عدد رمل عالج، وإن كانت عدد أيام الدنيا" .

ورواه ابن عساكر من حديثه بلفظ: "من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاثا غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل رمل عالج، وغثاء البحر، وعدد نجوم السماء".

ورواه ابن السني، والطبراني في الأوسط، وابن عساكر، وابن النجار من حديث أنس بنحوه، إلا أنه قال: "صبيحة الجمعة قبل الغداة" وفيه: "لو كانت أكثر من زبد البحر" وفي الإسناد حنيف بن عبد الرحمن الجزري، مختلف فيه .

( وقال -صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر: "من قال ذلك غفرت ذنوبه وإن كان فارا من الزحف") رواه أبو داود والترمذي من حديث زيد مولى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: غريب .

قال العراقي: قلت: ورجاله موثقون .

ورواه الحاكم من حديث ابن مسعود، وقال: صحيح على شرطهما. اهـ .

قلت: لفظ الحاكم: "من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاثا" والباقي سواء .

ولفظ الترمذي بعد قوله: "وأتوب إليه غفر له وإن كان فر من الزحف" ولم يذكر: "ثلاثا" .

وبلفظ الترمذي رواه ابن سعد في الطبقات، والبغوي، وابن منده، والبارودي، والطبراني في الكبير، والضياء، وابن عساكر، كلهم عن بلال بن زيد، عن أبيه، عن جده، قال البغوي: ولا أعلم له غيره .

ورواه ابن عساكر، عن أنس.

ورواه أبو بكر بن أبي شيبة، عن ابن مسعود ومعاذ موقوفا عليهما .

( وقال) أبو عبد الله ( حذيفة) بن اليمان -رضي الله عنه-: ( "كنت ذرب اللسان) أي: حديده وسليطه، أو فاحشه ( على أهلي، فقلت: يا رسول الله، لقد خشيت أن يدخلني لساني النار، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: فأين أنت من الاستغفار؟! فإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة") قال العراقي: رواه النسائي في اليوم والليلة، وابن ماجه، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد على شرط الشيخين .

قلت ورواه أبو داود، والطيالسي، وهناد، وأحمد، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في السنن، وأبو يعلى، والروياني، والضياء، وقال أبو نعيم في الحلية: حدثنا أحمد بن محمد بن مهران، حدثنا محمد بن العباس بن أيوب، حدثنا الحسن بن يونس، حدثنا محمد بن كثير، حدثنا عمرو بن قيس الملائي، عن أبي إسحاق، عن عبيدة بن المغيرة، عن حذيفة قال: "آتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله إن لي لسانا ذربا على أهلي، قد خشيت أن يدخلني النار، قال: فأين أنت من الاستغفار؟! إني أستغفر الله في كل يوم مائة مرة".

وحدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان البصري، حدثنا عبد الله بن أحمد الدورقي، حدثنا مسدد، حدثنا أبو الأحوص، حدثنا أبو إسحاق، عن أبي المغيرة، عن حذيفة قال: "شكوت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذرب لساني، فقال: أين أنت من الاستغفار؟! إني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة".

( وقالت عائشة -رضي الله عنها-: قال) لي ( رسول [ ص: 58 ] الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، وتوبي إليه؛ فإن التوبة من الذنب الندم والاستغفار") قال العراقي: متفق عليه دون قوله: "فإن التوبة" إلخ، وزاد: "وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه" وللطبراني في الدعاء: "فإن العبد إذا أذنب ثم استغفر الله غفر له".

قلت: يشير إلى قصة أهل الإفك، قال لها ما قال حين قال أهل الإفك ما قالوا: "إن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله ثم توبي؛ فإن العبد" الحديث بطوله، وقد رواه الجماعة إلا الترمذي.

( وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول في الاستغفار: "اللهم اغفر لي خطيئتي) أي: ذنبي ( وجهلي) أي: ما لم أعلمه ( وإسرافي في أمري) أي: مجاوزتي الحد في كل شيء ( وما أنت أعلم به مني) مما عملته ومما لم أعمله ( اللهم اغفر لي جدي وهزلي) وهما متضادان ( وخطئي وعمدي) وهما متقابلان ( وكل ذلك عندي) ممكن أو موجود، أو أنا متصف بهذه الأمور فاغفرها لي، قاله تواضعا، أو أراد ما وقع سهوا، أو ما قبل النبوة، أو مجرد تعليم للأمة ( اللهم اغفر لي ما قدمت) قبل هذا الوقت ( وما أخرت) عنه ( وما أسررت) أي: أخفيت ( وما أعلنت) أي: أظهرت، أي: ما حدثت به نفسي، وما يتحرك به لساني، قاله تواضعا وإجلالا لله تعالى، أو تعليما لأمته .

وتعقب في الفتح الأخير؛ فإنه لو كان للتعليم فقط كفى فيه أمرهم بأن يقولوا، فالأولى أنه للمجموع .

( وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم) أي: بعض العباد إليك بتوفيق للطاعات ( وأنت المؤخر) بخذلان بعضهم من التوفيق، فتؤخره عنك، أو أنت الرافع والخافض، أو المعز والمذل ( وأنت على كل شيء قدير") أي: أنت الفعال لكل ما تشاء؛ ولذا لم يوصف به غير الباري، ومعنى قدرته على الممكن الموجود حال وجوده أنه إن شاء أبقاه وإن شاء أعدمه، ومعنى قدرته على المعدوم حين عدمه أنه إن شاء إيجاده أوجده وإلا فلا، وفيه أن مقدور العبد مقدور لله تعالى حقيقة؛ لأنه شيء .

قال العراقي: متفق عليه من حديث أبي موسى، واللفظ لمسلم.

قلت: رواه في كتاب الدعوات من الصحيح، ورواه كذلك البيهقي وغيره .

( وقال علي -رضي الله عنه-: "كنت رجلا إذا سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثا نفعني الله -عز وجل- منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني أحد) وفي رواية: رجل ( من أصحابه استحلفته، فإذا حلف) لي ( صدقته، وحدثني أبو بكر) رضي الله عنه ( وصدق أبو بكر، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ما من عبد يذنب ذنبا، فيحسن الطهر، ثم يقوم فيصلي) وفي رواية: ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي، وفي أخرى: يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يقوم فيصلي ( ثم يستغفر الله -عز وجل- إلا غفر الله له) وفي رواية: ثم يستغفر الله لذلك الذنب ( ثم تلا قوله -عز وجل-: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ") ذكروا الله إلى آخر ( الآية) .

قال العراقي: رواه أصحاب السنن، وحسنه الترمذي.

قلت: قال الترمذي: حديث حسن، لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث عثمان بن المغيرة.

ورواه أبو داود الطيالسي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأحمد، البزار، وأبو يعلى، وابن حبان، وصححه، والدارقطني في الأفراد، وابن السني في عمل يوم وليلة، والبيهقي في السنن، والضياء، والحميدي، والعوفي، وعبد بن حميد، وابن منيع، كلهم عن علي، عن أبي بكر رضي الله عنهما .




الخدمات العلمية