الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومن نظر إلى الأحوال الغالبة على أهل الزمان وإعراضهم عن الله وإقبالهم على الدنيا واعتيادهم المعاصي استعظم أمر نفسه بأدنى رغبة في الخير يصادفها في قلبه وذلك هو الهلاك .

ويكفي في تغيير الطبع مجرد سماع الخير والشر فضلا عن مشاهدته .

وبهذه الدقيقة يعرف سر قوله صلى الله عليه وسلم : عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة .

وإنما الرحمة دخول الجنة ولقاء الله وليس ينزل عند الذكر عين ذلك ولكن سببه وهو انبعاث الرغبة من القلب وحركة الحرص على الاقتداء بهم والاستنكاف عما هو ملابس له من القصور والتقصير .

ومبدأ الرحمة فعل الخير ومبدأ فعل الخير الرغبة ومبدأ الرغبة ذكر أحوال الصالحين فهذا معنى نزول الرحمة .

والمفهوم من فحوى هذا الكلام عند الفطن كالمفهوم من عكسه وهو أن عند ذكر الفاسقين تنزل اللعنة لأن كثرة ذكرهم تهون على الطبع أمر المعاصي واللعنة هي البعد .

ومبدأ البعد من الله هو المعاصي والإعراض عن الله بالإقبال على الحظوظ العاجلة والشهوات الحاضرة لا على الوجه المشروع .

ومبدأ المعاصي سقوط ثقلها وتفاحشها عن القلب .

ومبدأ سقوط الثقل وقوع الأنس بها بكثرة السماع .

إذا ، كان هذا حال ذكر الصالحين والفاسقين ، فما ظنك بمشاهدتهم بل قد صرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : مثل الجليس السوء كمثل الكير إن لم يحرقك بشرره علق بك من ريحه .

فكما أن الريح يعلق بالثوب ولا يشعر به فكذلك يسهل الفساد على القلب وهو لا يشعر به .

وقال مثل الجليس الصالح مثل صاحب المسك إن لم يهب لك منه تجد ريحه ولهذا أقول : من عرف من عالم زلة حرم عليه حكايتها لعلتين : إحداهما أنها : غيبة والثانية : وهي أعظمهما .

أن حكايتها تهون على المستمعين أمر تلك الزلة ويسقط من قلوبهم استعظامهم الإقدام عليها فيكون ذلك سببا لتهوين تلك المعصية فإنه مهما وقع فيها فاستنكر ذلك دفع الاستنكار ، وقال : كيف يستبعد هذا منا وكلنا مضطرون إلى مثله حتى العلماء والعباد ، ولو اعتقد أن مثل ذلك لا يقدم عليه عالم ولا يتعاطاه موفق معتبر لشق عليه الإقدام فكم من شخص يتكالب على الدنيا ويحرص على جمعها ويتهالك على حب الرياسة وتزيينها ويهون على نفسه قبحها ويزعم أن الصحابة رضي الله عنهم لم ينزهوا أنفسهم عن حب الرياسة وربما يستشهد عليه بقتال علي ومعاوية ويخمن في نفسه أن ذلك لم يكن لطلب الحق بل لطلب الرياسة فهذا الاعتقاد خطأ يهون عليه أمر الرياسة ولوازمها من المعاصي .

والطبع اللئيم يميل إلى اتباع الهفوات والإعراض عن الحسنات بل إلى تقدير الهفوة فيما لا هفوة فيه بالتنزيل على مقتضى الشهوة ليتعلل به وهو من دقائق مكايد الشيطان ولذلك وصف الله المراغمين للشيطان فيها بقوله : الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وضرب صلى الله عليه وسلم لذلك مثلا وقال : مثل الذي يجلس يستمع الحكمة ثم لا يعمل إلا بشر ما يستمع كمثل رجل أتى راعيا ، فقال له : يا راعي اجرر لي شاة من غنمك فقال اذهب فخذ خير شاة فيها فذهب عليه السلام فأخذ بأذن كلب الغنم .

التالي السابق


(ومن نظر إلى الأحوال الغالبة على أهل الزمان) الذي هو فيه (وإعراضهم عن الله) -عز وجل- (وإقبالهم على) زخارف (الدنيا واعتيادهم المعاصي) مرة بعد أخرى (استعظم أمر نفسه بأدنى رغبة) وميل (في الخير يصادفها من قبله وذلك هو الهلاك) أي: سببه (ويكفي في تغيير الطبع مجرد سماع الخير والشر) إما بواسطة أو كتاب (فضلا عن مشاهدته) والحضور فيه .

(وبهذه الدقيقة يعرف سر قوله -صلى الله عليه وسلم-: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة) .

قال العراقي: ليس له أصل في الحديث المرفوع [ ص: 351 ] إنما هو قول سفيان بن عيينة. كذا رواه ابن الجوزي في مقدمة صفوة الصفوة اهـ .

قلت: وسئل عنه تلميذه الحافظ ابن حجر فقال: لا أستحضره مرفوعا، وقال تلميذه الحافظ السخاوي في المقاصد: وسأل أبو عمر أبا جعفر بن حمدان وهما صالحان: بأي نية أكتب الحديث؟ فقال: ألستم تروون أن عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة؟ قال: نعم، قال: فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأس الصالحين. اهـ .

أشار بذلك أن له أصلا وقال أبو نعيم في الحلية: حدثنا أبو حاتم أحمد بن محمد بن الحسن، حدثنا الحسن بن محمد الهيثمي، حدثنا محمد بن حسين قال: سمعت ابن عيينة يقول: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة، ووقع في كتاب جامع العلم لابن عبد البر عزوه إلى الثوري، والمشهور الأول (وإنما الرحمة) المرادة هنا (دخول الجنة ولقاء الله تعالى وليس ينزل عند الذكر عين ذلك ولكن سببه وهو انبعاث الرغبة من القلب وحركة الحرص على الاقتداء بهم والاستنكاف عما هو ملابس له من القصور والتقصير، ومبدأ الرحمة فعل الخير ومبدأ فعل الخير الرغبة ومبدأ الرغبة ذكر أحوال الصالحين) ومقاماتهم وما اختصهم الله -عز وجل- من المعارف (فهذا معنى نزول الرحمة) والمتبادر من معنى الأثر المذكور... أنه عند ذكر الله وخاصته في مجلس من المجالس فيكون استغفارهم سببا لرحمتهم بأن تغفر سيئاتهم وتتقبل حسناتهم، وما من صالح يذكر في مجلس إلا ويذكر الله معه، فإذا ذكر الله في مجلس غشيته الملائكة بالرحمة كما ورد ذلك في أخبار سبق ذكرها .

(والمفهوم من فحوى هذا الكلام عند الفطن) العارف (كالمفهوم من عكسه) وفي نسخة: من نقيضه، وفي أخرى: من ضده، وفي أخرى: من بدله (وهو أن عند ذكر الفاسقين تنزل اللعنة) ويسمى هذا مفهوم المخالفة عند الأصوليين وذكرهم لا يخلو إما أن يكون على سبيل الثناء عليهم فهو سبب للمقت وإما أن يكون على سبيل الذم فهو إما غيبة وإما بهتان وكل منهما سبب اللعنة، اللهم إلا أن يكون على سبيل التحذير منهم فقد ورد: لا غيبة لفاسق (لأن كثرة ذكرهم) على اللسان (يهون على الطبع أمر المعاصي واللعنة هي البعد) عن رحمة الله تعالى .

(ومبدأ البعد من الله هو المعاصي والإعراض عن الله بالإقبال على الحظوظ العاجلة والشهوات الحاضرة لا على الوجه المشروع) فإذا تمكن ذلك منه ألقي في هوة الإدبار فكان سببا لطرده وبعده عن ساحة الرحمة (ومبدأ المعاصي سقوط ثقلها وتفاحشها عن القلب) بأن يستخفها (ومبدأ سقوط الثقل وقوع الأنس بها لكثرة السماع، وإذا كان هذا حال تأثير ذكر الصالحين والفاسقين، فما ظنك بمشاهدتهم) فهو أقوى قواما وأتم تأثيرا .

(بل قد صرح به -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: مثل الجليس السوء كمثل الكير) هو بكسر الكاف أصله البناء الذي عليه الزق ثم سمي به الزق مجازا للمجاورة (إن لم يحرقك شرره يعلق بك من ريحه) الخبيثة (فكما أن الريح تعلق بالثوب ولا يشعر به كذلك يسهل الفساد على القلب وهو لا يشعر به وقال) صلى الله عليه وسلم: (مثل الجليس الصالح مثل صاحب المسك) وفي رواية: حامل المسك. وهو أعم من الأول (إن لم يهب لك منه تجد ريحه) .

قال العراقي: متفق عليه من حديث أبي موسى اهـ .

قلت: هما حديث واحد، وقد أدرج المصنف بينهما كلاما من عنده، واختلف في سياق لفظه، فلفظ البخاري: مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك وكير الحداد لا يعدم منه صاحب المسك إما يشتريه أو يجد ريحه، وكير الحداد يحرق بيتك أو ثوبك أو تجد منه ريحا خبيثة.

وهكذا رواه أيضا ابن حبان، وفي لفظ: وفاتح الكير إما يحرق ثيابك أو تجد منه ريحا خبيثة، ورواه ابن حبان أيضا والرامهرمزي في الأمثال بلفظ: مثل الجليس الصالح مثل العطار، إن لم يصبك منه شيء أصابك ريحه، ومثل الجليس السوء مثل الكير إن لم يحرقك بشرره علق بك من ريحه. وقد روي هذا أيضا من حديث أنس بلفظ: ومثل جليس الصالح كمثل صاحب المسك إن لم يصبك منه شيء أصابك من ريحه، ومثل جليس السوء كمثل صاحب الكير إن لم يصبك من شرره أصابك من دخانه، هكذا رواه أبو داود والنسائي من طريق قتادة عن أنس وبلفظ: مثل الجليس الصالح مثل العطار إن لم يعطك من عطره أصابك من ريحه، ومثل الجليس السوء مثل الكير إن لم يحرق ثوبك أصابك من ريحه هكذا [ ص: 352 ] رواه أبو داود أيضا وأبو يعلى وابن حبان في روضة العقلاء والحاكم والضياء في المختارة من طريق شبيل عن أنس قال الراغب: نبه بهذا الحديث علي أن حق الإنسان أن يتحرى بغاية جهده مصاحبة الأخيار ومجالستهم، فهي قد تجعل الشر خيرا كما أن صحبة الأشرار قد تجعل الخير شرا يرى، قال الحكماء: من صحب خيرا أصاب بركة؛ فجليس أولياء الله لا يشقى وإن كان كلبا ككلب أصحاب الكهف؛ ولهذا قال الحكماء:.... الأحداث بالبعد عن مجالس السفهاء .

قال علي -رضي الله عنه-: لا تصحب الفاجر فإنه يريد لك فعله ويود لو أنك مثله، وقالوا: إياك ومجالسة الأشرار؛ فإن طبعك يسرق منهم وأنت لا تدري وليس أعداء الجليس جليسة بمقاله وفعاله فقط بل بالنظر إليه، والنظر إلى الصور يؤثر في النفوس أخلاقا متناسبة لأخلاق المنظور إليه، فإن من دامت رؤيته لمسرور سر أو لمحزون حزن، وليس ذلك في الإنسان فقط بل في الحيوان والنبات؛ فالجمل الصعب يصير ذلولا بمقارنة الذلل، والذلول قد ينقلب صعبا بمقارنة الصعاب، والريحانة الغصة تذبل بمجاورة الزابلة؛ ولهذا تلتقط أهل الفلاحة الرمم عن الزروع لئلا تفسدها، ومن المشاهدات الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيفة فما الظن بالنفوس البشرية التي موضوعها لقبول صور الأشياء خيرها وشرها، فقد قيل: سمي الإنس إنسانا لأنه يأنس بما يراه خيرا أو شرا .

(ولهذا أقول: من عرف من عالم زلة حرمت عليه حكايتها) للناس (لعلتين: إحداهما: أنه غيبة) لأنه ذكره بما يكرهه (الثانية: وهي أعظمها أن حكايتها تهون على المستمعين أمر تلك الزلة ويسقط عن قلوبهم استعظامهم الإقدام عليها فيكون ذلك سببا لتهوين تلك المعصية فإنه مهما وقع فيها فاستنكر ذلك) عليه (دفع الاستنكار، وقال: كيف يستبعد مثل هذا) منا (وكلنا مفرطون إلى مثله حتى العلماء والعباد، ولو اعتقد أن مثل ذلك لا يقدم عليه عالم ولا يتعاطاه مرموق) أي: منظور إليه (متخصص) وفي نسخة: معتبر (لشق عليه الإقدام) عليه (فكم من شخص يتكالب على الدنيا) أي يتواثب عليها (ويحرص على جمعها) من هنا ومن هنا (ويتهالك على حب الرياسة وتزينها) في عينه (ويهون على نفسه قبحها ويزعم أن الصحابة -رضي الله عنهم- لم يزهدوا عن حب الرياسة قديما) ولم ينزهوا نفوسهم عنه (وربما استشهد) عليه (بقتال علي ومعاوية -رضي الله عنهما-) بصفين (ويخمن ذلك في نفسه أن ذلك لم يكن لطلب الحق) من باب الاجتهاد (بل لطلب الرياسة فهذا الاعتقاد الخطأ يهون عليهم أمر الرياسة ولوازمها من المعاصي) وما يرتكبه مما يخالف المروءة (والطبع اللئيم يميل إلى اتباع الهفوات والإعراض عن الحسنات) لما جبل فيه من اللؤم فلا يرى إلا ما يناسبه (بل إلى تقدير الهفوة فيما لا هفوة فيه بالتنزيل على مقتضى الشهوة) النفسية (ليتعلل به) وفي نسخة بذلك (وهذا من دقائق مكايد الشيطان) ومن خفايا ضروب حيله .

(ولذلك وصف الله تعالى المراغمين للشيطان فيها بقوله: الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- لذلك مثلا وقال: مثل الذي يجلس يستمع الحكمة) وهي هنا كل ما يمنع من الجهل ويزجر عن القبيح (ثم لا يحمل إلا شر ما يستمع) وفي رواية: ولا يحدث عن صاحبه إلا شر ما يسمع (كمثل رجل أتى راعيا، فقال له: يا راعي اجزرنا) وفي رواية: اجزرني أي: أعطني (شاة من غنمك) تصلح للذبح يقال: أجزرت القوم إذا أعطيتهم شاة يذبحونها، ولا يقال إلا في الغنم خاصة. قاله ابن الأثير (فقال) له الراعي (اذهب فخذ خير شاة فيها) وفي رواية: فخذ بأذن خيرها (فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم) أي: الذي يحرس الغنم من الذئاب .

قال العراقي: ورواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة بسند ضعيف اهـ .

قلت: وكذلك رواه أحمد وأبو يعلى والرامهرمزي في الأمثال والبيهقي في الشعب، وسند أحمد رجاله موثقون .




الخدمات العلمية