الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
العارض الثالث : في نظم الصوت ، وهو الشعر ، فإن كان فيه شيء من الخنا والفحش والهجو أو ما هو كذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم أو على الصحابة رضي الله عنهم كما رتبه الروافض في هجاء الصحابة وغيرهم فسماع ذلك حرام بألحان وغير ألحان ، والمستمع شريك للقائل .

وكذلك ما فيه وصف امرأة بعينها ، فإنه لا يجوز وصف المرأة بين الرجال .

وأما هجاء الكفار وأهل البدع فذلك جائز .

فقد كان حسان بن ثابت رضي الله عنه ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهاجي الكفار وأمره صلى الله عليه وسلم بذلك .

فأما النسيب وهو التشبيه بوصف الخدود والأصداغ وحسن القد والقامة وسائر أوصاف النساء ، فهذا فيه نظر .

والصحيح أنه لا يحرم نظمه وإنشاده بلحن وغير لحن .

وعلى المستمع أن لا ينزله على امرأة معينة فإن ، نزله فلينزله على من يحل له من زوجته وجاريته فإن نزله على أجنبية فهو العاصي بالتنزيل وإحالة الفكر فيه .

ومن هذا وصفه فينبغي أن يجتنب السماع رأسا فإن من غلب عليه عشق نزل كل ما يسمعه عليه سواء كان اللفظ مناسبا له أو لم يكن إذ ما من لفظ إلا ويمكن تنزيله على معان بطريق الاستعارة فالذي يغلب على قلبه حب الله تعالى يتذكر بسواد الصدغ مثلا ظلمة الكفر وبنضارة الخد نور الإيمان وبذكر الوصال لقاء الله تعالى وبذكر الفراق الحجاب عن الله تعالى في زمرة المردودين وبذكر الرقيب المشوش لروح الوصال عوائق الدنيا وآفاتها المشوشة لدوام الأنس بالله تعالى ولا يحتاج في تنزيل ذلك عليه إلى استنباط وتفكر ومهلة بل تسبق المعاني الغالبة على القلب إلى فهمه مع اللفظ .

كما روي عن بعض الشيوخ أنه مر في السوق فسمع واحدا يقول الخيار عشرة بحبة فغلبه الوجد فسئل عن ذلك فقال : إذا كان الخيار عشرة بحبة فما قيمة الأشرار واجتاز بعضهم في السوق فسمع قائلا يقول : يا سعتر بري فغلبه الوجد فقيل له على ماذا كان وجدك ? فقال : سمعته كأنه يقول اسع ترى برى حتى إن العجمي قد يغلب عليه الوجد على الأبيات المنظومة بلغة العرب ، فإن بعض حروفها يوازن الحروف العجمية فيفهم منها معان أخر .

أنشد بعضهم .


وما زارني في الليل إلا خياله

.

فتواجد عليه رجل أعجمي .

فسئل عن سبب وجده فقال : إنه يقول : " ما زار يم .

" وهو كما يقول فإن لفظ زار يدل في العجمية على المشرف على الهلاك فتوهم أنه يقول : كلنا مشرفون على الهلاك فاستشعر ، عند ذلك خطر هلاك الآخرة .

والمحترق في حب الله تعالى وجده بحسب فهمه وفهمه بحسب تخيله ، وليس من شرط تخيله أن يوافق مراد .

الشاعر ولغته .

فهذا الوجد حق وصدق .

ومن استشعر خطر هلاك الآخرة فجدير بأن يتشوش عليه عقله وتضطرب عليه أعضاؤه .

فإذن ، ليس في تغيير أعيان الألفاظ كبير فائدة بل الذي غلب عشق مخلوق ينبغي ، أن يحترز من السماع بأي لفظ كان ، والذي غلب عليه حب الله تعالى فلا تضره الألفاظ ولا تمنعه عن فهم المعاني اللطيفة المتعلقة بمجاري همته الشريفة .

التالي السابق


(العارض الثالث: في نظم الصوت، وهو الشعر، فإن كان فيه شيء من الخنا والفحش) وهو كل ما عظم قبحه (والهجو) وهو على قسمين: هجو الكفار وهجو المسلمين، وهجو الكفار إما أن يكون بصيغة عامة فيجوز، وإما أن يكون في معين فإن كان حربيا جاز أو ذميا فالمستحب المنع، والمصنف أطلق الجواز، وهو محمول على غير المعين من أهل الذمة، وأما هجو الكفار فسيأتي في كلام المصنف وسبق تفصيل ذلك أيضا، وبكل ما ذكر حمل قوله -صلى الله عليه وسلم-: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرا. رواه مسلم، فقد قيل في تأويله: إن المراد به الشعر الذي فيه هجو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد ورد التصريح به في هذا الحديث أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: إنما قال -صلى الله عليه وسلم-: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير من أن يمتلئ من شعر هجيت به. وقيل: إن المراد به شعر فيه فحش وخنا، قال صاحب الإمتاع: وقد ورد هذان [ ص: 506 ] الوجهان بأن فيهما المسامحة بالقليل، قلت: وجدت بخط العلامة محمد بن حسين القماط صاحب الفتاوى ما نصه: والقليل في التحريم كالكثير; لأن هجوه -صلى الله عليه وسلم- حرام بل كفر قليله وكثيره، قال صاحب الإمتاع: وأصح ما قيل فيه ما حكاه البيهقي وابن حزم أن المراد أن يمتلئ من الشعر حتى لا يشتغل بعلم سواه ولا يذكر غيره، وبوب البيهقي على هذا .

(أو كذب على الله تعالى) أو اعتراض عليه (وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- أو على الصحابة -رضي الله عنهم- كما رتبه الروافض في هجاء الصحابة وغيره) أي: غير ذلك وفي بعض النسخ: وغيرهم، (فسماع ذلك حرام بألحان وبغير ألحان، والمستمع شريك للقائل) وكلاهما في الحرمة سواء ( وكذلك ما فيه وصف امرأة بعينها، فإنه لا يجوز وصف المرأة بين يدي الرجال) ، ولكن فيه تفصيل فإنه المعينة إما أن تكون أجنبية أو لا، كزوجته وأمته، فإن كانت أجنبية فالتشبيب بها ووصف أعضائها الباطنة ونحوها لم يجز، وقد ثبت في الصحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى أن تنعت المرأة المرأة لزوجها، ولا شك أن الوصف يشوق النفوس ويؤثر في القلب قال بعضهم:


أهوى بجارحة السما ع ولا أدري ذات المسمى

وقال آخر:


هويتكم بالسمع قبل لقائكم وسمع الفتى يهوى لعمري لطرفه
وشوقني وصف الجليس إليكم فلما التقينا كنتم فوق وصفه



ولا خلاف في المنع من ذلك إلا أنه وقع لجماعة ممن يعتد بهم التشبيب بالأجنبيات كعبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهما- قال الزبير بن بكار بسنده إلى هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الرحمن بن أبي بكر قدم الشام في تجارة فرأى هناك امرأة يقال لها ابنة الجودي على طنفسة حولها ولائد فأعجبته فقال فيها:


تذكرت ليلى والسمادة دونها فما لابنة الجودي ليلى وما ليا

في أبيات ذكرها، قال: فلما بعث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- جيشه إلى الشام قال لأمير الجيش: إن ظفرت بليلى ابنة الجودي عنوة فادفعها إلى عبد الرحمن، فظفر بها فدفعها إليه، وفي النهاية من شرح الهداية من كتب الحنفية: إن الشعر إذا كان فيه صفة امرأة معينة وهي حية كره، وإن كانت ميتة لم يكره، وإن كانت مرسلة لم يكره. انتهى .

أما غير الأجنبية كزوجته وأمته ففيه خلاف في مذهب الشافعي، وإيراد الرافعي يقتضي عدم الجواز، وقال الروياني في البحر: يجوز أن يشبب بزوجته وأمته ولا ترد شهادته، قاله عامة الأصحاب، وقال الطبراني بسنده إلى الشعبي قال: قال شريح في زينب زوجته:


رأيت رجالا يضربون نساءهم فشلت يميني يوم أضرب زينبا
أأضربها في غير جرم أتت به إلي فما عذري إذا كنت مذنبا
فتاة تزين الحلي إن هي زينت كأن بفيها المسك خالطا محلبا
فلو كنت يا شعبي صادفت مثلها لعشت زمانا ناعم البال طيبا



وقال الطبراني أيضا: حدثنا أبو شعيب الحراني، حدثنا عمرو بن شيبة، حدثنا أبو نعيم، حدثنا عمرو بن ثابت قال: سمعت سكينة ابنة الحسين تقول: عوتب أبي الحسين بن علي في أمي فقال أبي:


لعمرك إنني لأحب دارا تصفيها سكينة والرباب
أحبهم وأبذل جل مالي وليس للائم فيها جواب

أما إذا كان شبب بامرأة غير معينة ففيه خلاف، قال ابن عقيل الحنبلي في الفصول: إذا شبب بأمته أو زوجته قال شيخنا في المجرد: لا ترد شهادته قال: وهذا عندي فيه تفصيل: إن شبب بها ولم يظهر الشعر لم ترد شهادته، وإن شهر صفاتها دخل في مداخل المظهر محاسن زوجته، وكان مقارنا للديوث، وجعله مما يسقط المروءة، وإن اختلق اسما لغير معين كسعاد وسلمى على عادة الشعراء لم يفسق ولم ترد شهادته; لأنه لم يوقع الصفة على معين . اهـ .

وكلام الشافعي صريح في الجواز فإنه قال: إذا شبب بامرأة ولم يسم أحدا لا ترد شهادته; لأنه يمكن أن يشبب [ ص: 507 ] بأمته وزوجته، وهذا النص أيضا يرجح ما ذكره الروياني في المسألة الأولى .

(وأما هجاء الكفار) الحربيين (وأهل البدع) السيئة (فذلك جائز) باتفاق العلماء، وإنما قيدت بالحربيين فإن الذمي محقون الدم والمال وكذلك العرض، وإنما جاز هجومهم على العموم لما ثبت في الصحيحين لعن اليهود، لعن النصارى .

قال -صلى الله عليه وسلم-: لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. الحديث، واللعنة أغلظ من الهجو، وفي كلام القرطبي ما هو صريح في جواز لعن الكفار سواء كانت لهم ذمة أم لا، قال: وكذلك المجاهر بالمعاصي كشرب الخمر وأكله الربا ومن تشبه من النساء بالرجال وعكسه . اهـ .

وأما هجو المشركين غير أهل الذمة فأشار المصنف إلى جوازه بقوله: (فقد كان حسان بن ثابت -رضي الله عنه- ينافح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويهاجي الكفار) ويرد عليهم مهاجاتهم ويوضع له منبر في المسجد لذلك، (وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك) .

قال العراقي: متفق عليه من حديث البراء أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لحسان: اهجهم أو هاجهم وجبريل معك. اهـ. قلت: رواه البخاري عن سليمان بن حرب، ورواه مسلم من أوجه عن شعبة، وعند مسلم من حديث عائشة: هجاهم حسان فشفى واشتفى. وعندهما أيضا من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع حسان بن ثابت يستشهد أبا هريرة: أنشدك الله هل سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: يا حسان أجب عن رسول الله، اللهم أيده بروح القدس؟ فقال أبو هريرة: نعم.

(فأما النسيب وهو التشبيب بوصف الخدود والأصداغ وحسن القد والقامة وسائر أوصاف النساء، فهذا فيه نظر) فكلام الرافعي في السير يقتضي أنه مكروه، فإنه قال: ومن المكروه أشعار المولدين في الغزل والبطالة، وقال اللخمي من المالكية في التبصرة: إنه يكره من الشعر ما فيه ذكر الخمر والخنا، وذكر ابن أبي زيد في نوادره عن ابن حبيب أنه قال: يكره تعليم الشعر وروايته إن كان فيه ذكر الخمر والخنا وقبيح الهجاء، وقاله كله أصبغ، وقال أبو عبد الله القرطبي المفسر: إن ذلك حرام، وجعل منه البيت الأول من قول الشاعر:


ذهبي اللون تحسب من وجنتيه النار تقتدح
خوفوني من فضيحته ليته وافى فافتضح

وكذلك إيراد ابن الجوزي في كتابه "تلبيس إبليس" يقتضي عدم جواز ذلك، وصرح به صاحب المنسوب من الحنابلة، وفي باب الكراهة من فتاوى الصدر الشهيد من الحنفية: إن الشعر الذي فيه ذكر الخمر والفسق وذكر الغلام يكره، وكذلك في فتاوى قاضي خان.

(والصحيح أنه لا يحرم نظمه وإنشاده بلحن وغير لحن، وعلى المستمع أن لا ينزله على امرأة معينة، وإن نزله نزله على من تحل من زوجته وجاريته) وقال الرافعي في كتاب الشهادات: وينبغي أن يقال على قياس ما ذكره القفال والصيدلاني في مسألة الكذب أنه لا يخل بالعدالة إذا كان في الشعر أن يكون الحكم كذلك إذا شبب بامرأة ولم يذكر عينها، قال صاحب الإمتاع: وهذا الذي ذكره الرافعي بحث جزم به الجرجاني في الشافي حيث قال: إذا شبب بزوجته أو أمته ولم يكثر لم ترد شهادته، وكذا إذا أطلق لجواز أن يريد إحداهما . اهـ. ودليل ذلك قصة كعب بن زهير، وقد رويت من طرق مرفوعة ومرسلة، ومن قصيدته قوله:


وما سعاد غداة البين إذ رحلوا إلا أغن غضيض الطرف مكحول

وقوله في وصف الظلم:


كأنه منهل بالراح معلول

وفي شعر حسان في قصيدته التي يقول فيها:


كأن شبيبة من بيت رأس يكون مزاجها عسل وماء

وفيها ذكر المزاح والخمر، قالها في السنة الثانية من الهجرة وسمعها منه من لا يمكن الطعن عليه، ولم ينكر عليه، وهي قصيدة مشهورة مذكورة في السير، وبعضها في الصحيح وقال الطبراني، حدثنا أحمد بن ثعلب، حدثنا محمد بن سلام الجمعي، حدثنا أبو عبيدة مسلم بن المثنى حدثني رؤبة بن العجاج عن أبيه قال: أنشدت أبا هريرة -رضي الله عنه-:


طاف الخيالان فهاجا سقما خيال مكنى وخيال تكتما
قامت تريك خشية أن تصرما ساقا مخندا وكعبا أورما

[ ص: 508 ] فقال أبو هريرة: كنا ننشد مثل هذا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا يعاب علينا، وساقه ابن عساكر في التاريخ، وابن زرعة أحمد بن الحسين الحافظ في كتاب الغزل، وقال الرافعي في كتاب السير: ومن المباح شعر المولدين الذي لا يتبين فيه الشخص، وقال ابن عبد البر في التمهيد: وقد روى قتيبة بن سعيد عن أبي بكر بن شعيب بن الحجاب المعمولي عن أبيه قال: كنت عند ابن سيرين فجاءه رجل يسأله عن شيء من الشعر قبل صلاة العصر فأنشده ابن سيرين:


كأن المدامة والزنجبيل وريح الخزامى وذوب العسل
يعل به برد أنيابها إذا التحم وسط السماء اعتدل

وقال: الله أكبر، ودخل في الصلاة. قال: وسمع سعيد بن المسيب الأخضر يغني في دار العاصي بن وائل:


تضوع مسكا بطن نعمان إذ مشت به زينب في نسوة خفرات

فكمل عليه أبياتا ذكرت آنفا .

وأخرج الطبراني بسنده إلى سفيان بن عيينة قال: جئت يوما مسعر بن كدام فوجدته يصلي فجلسنا فأطال الصلاة ثم انتقل إلينا بعد ما صلى فتبسم وقال:


ألا تلك عزة قد أقبلت تقلب للعين طرفا غضيضا
تقول مرضت فما عدتنا فقلت لها لا أطيق النهوضا
كلانا مريضان في البلدة وكيف يزور مريض مريضا



فقلت له: تنشد هذا الشعر بعد هذه الصلاة، فقال: مرة هكذا ومرة هكذا، وأنشد السمعاني للشيخ أبي إسحاق الشيرازي أشعارا فيها ذكر الخدود والخمر مع تقشفه وزهده وعلمه .

وروى الخطيب في ترجمة الإمام ابن الإمام أبي بكر محمد بن داود الظاهري في مناظرة جرت بينه وبين ابن سريج أن أبي داود تمدح عليه بقوله:


أكرر في روض المحاسن مقلتي وأمنع نفسي أن تنال محرما
وينطق سري من مترجم خاطري فلولا اختلاس رده لتكلما
رأيت الهوى دعوى من الناس كلهم فما إن رؤي حبا صحيحا مسلما



فقال ابن سريج أو علي تفتخر بهذا وأنا الذي أقول:


ومساهر بالغنج من لحظاته قد بت أمنعه لذيذ سناته
ضنا بحسن حديثه وعتابه وأكرر اللحظات في وجناته
حتى إذا ما الصبح لاح عموده ولى بخاتم ربه وبراته



وكان ذلك بحضرة القاضي أبي عمر محمد بن يوسف. وأمثال ذلك مما هو في أشعارهم وفي إنشادهم ذلك واستماعهم له في كل ورد وصدر ما يرفع الإشكال ويشهد للقائل بالجواز بصحة المقال .

(فإن نزله على أجنبية فهو العاصي بالتنزيل وإجالة الفكر فيه) وتقدم للمصنف قوله وسائر أوصاف النساء تتعلق به مسألة التشبيب بالمردان، وفيها أيضا اختلاف للعلماء، فإن كان في معين فالذي نقل الرافعي أنه حرام، قال صاحب الإمتاع: لا بد أن يقيد هذا بما إذا لم يكن في ابنه ونحوه . اهـ .

قلت: قال الفقيه محمد بن الحسين القماط لا ينبغي هذا التقييد بل التشبيب بالابن أفحش من غيره إلا أن يريد شيئا يحمل على محض الشفقة والرحمة والملاطة لا غير فله وجه، والله أعلم. . اهـ .

وإن كان في غير معين فشبب به وذكر محبته له فقال الروياني في البحر إنه حرام يفسق به، وقال البغوي وغيره: لا يحرم، قال صاحب الإمتاع: وهذا هو الذي يترجح ويحمل على محمل صحيح، وقد يذكر المذكر ويراد به الشيخ وغير ذلك قال: ولعل مراد الروياني إذا فهم بالقياس، والقياس إرادة من تحرم محبته والتشبيب به، وإلا فالتفسيق بالمحتملات بعيد عن القواعد، وذكر ابن عقيل الحنبلي في الفصول أنه إذا شبب بالمردان ووصف قدودهم وشعورهم ردت شهادته; لأنهم لم يباحوا بحال قال: ويحتمل أن لا ترد; لأنه وصف ما لم يخلق للتمتع فهو كوصف البهائم، وإن كان في الناس من يشته البهائم وهذا عند من يحرم، وأما من يبيح نظر الأمرد كالظاهرية وغيرهم لم يفسق. وقد ساق الخطيب وابن الجوزي عن أبي بكر بن داود الإمام أنه عشق [ ص: 509 ] بعض الغلمان وشبب بمحبته ومات من العشق، وكذا ابن حزم وابن طاهر عشقا وشببا في شعرهما وقبل الناس شهادتهم وروايتهم، وقال الرافعي: على قياس ما ذكره القفال والصيدلاني في مسألة الكذب أن يكون التشبيب بالنساء والغلمان بغير تعيين لا يخل بالعدالة إذ غرض الشاعر تحسين الكلام لا تحقيقه، قال صاحب الإمتاع: وهذا الذي بحثه هو المتجه، وإذا سقطت أشعار العلماء الذين يقتدى بهم وسماعهم لذلك كان كثيرا، والله أعلم .

(ومن هذا وصفه فينبغي أن يجتنب السماع رأسا فإن من غلب عليه عشق) لشيء (نزل كل ما يسمعه عليه) لكمال تعلقه به (سواء كان اللفظ) الذي سمعه (مناسبا أو لم يكن) كذلك (إذ ما من لفظ إلا ويمكن تنزيله على معان) متنوعة (بطريق الاستعارة) والتشبيه والنقل، (فالذي يغلب على قلبه حب الله تعالى يتذكر بسواد الصدغ) أي: الشعر النابت عليه مثلا (ظلمة الكفر) بجامع الضلال فيهما، ففي الأول ضلال الفكر، وفي الثاني ضلال العقل، (وبنضارة الخد نور الإيمان) وطلاوته ووفوره بجامع البهجة فيهما، أو يتذكر بسواد الأصداغ ليالي الفراق فإنها سود; وبنضارة الخدود الصبح المسفر عن الوصال، (وبذكر الوصال لقاء الله تعالى) فإنه الوصال الذي لا انقطاع بعده، (وبذكر الفراق الحجاب عن الله تعالى في زمرة المردودين) أي: البعد عن حضرته بسوء ما جنته يداه، (وبذكر الرقيب) وهو العذول الذي يحول بينه وبين محبوبه ويعذله عن حبه له وهو (المشوش لروح الوصال عوائق الدنيا) أي: موانعها (وآفاتها المشوشة عن الأنس بالله تعالى) فتلك بمنزلة الرقباء بين العبد وربه .

(ولا يحتاج في تنزيل ذلك عليه إلى استنباط وتفكر ومهلة بل تبق المعاني الغالية على القلب إلى فهمه مع اللفظ) بسرعة (كما روي عن بعض الشيوخ أنه مر في السوق فسمع واحدا يقول الخيار عشرة بحبة) وهو إنما أراد الخيار المأكول وأنه عشرة تساوي حبة درهم (فغلبه الوجد) وغشي عليه من سماعه، (فسئل عن ذلك فقال: إذا كان الخيار عشرة بحبة فما قيمة الأشرار) أي: سبق إلى ذهنه أن المراد بالخيار هم الناس الأخيار ذوو الصلاح، فإن كانوا بحبة درهم فقد بخست قيمتهم فما مقدار سواهم عند الله تعالى، فهذا المعنى الذي سبق إلى ذهنه أدهشه وأورث فيه الوجد، ولفظ القشيري في الرسالة قيل: سمع الشبلي قائلا يقول: الخيار عشرة بدانق فصاح وقال: إذا كان الخيار عشرة بدانق كيف الأشرار .

(واجتاز بعضهم) في السوق (فسمع قائلا يقول: يا سعتر بري) وهو إنما يريد بذلك النداء على السعتر النبات المعروف في كتب الطب ينبت بنفسه في البراري يقصد بذلك بيعه ويصف بأنه بري غير مستنبت وهو أقوى، (فغلب عليه الوجد فقيل له على ماذا كان وجدك؟ فقال: سمعته كان يقول اسع) أي: اجتهد في طاعتي (تر) وأصله ترى، وإنما سقطت ياؤه لكونها وقعت في جواب الأمر (بري) بكسر الباء أي: خيري ومواهب كرامتي، ولفظ القشيري في الرسالة: سمعت محمد بن أحمد بن محمد الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن علي الطوسي يقول: سمعت يحيى بن الرضي العلوي قال: سمع أبو سليمان الدمشقي طوافا ينادي: يا سعتر بري، فسقط مغشيا عليه، فلما أفاق سئل فقال: حسبته يقول: اسع تر بري. انتهى .

وقد نقله القطب سيدي عبد الوهاب الشعراني هكذا في بعض مصنفاته، وقد وفد إلينا من الغرب أحد الأولياء الصالحين محمد العربي ابن القطب سيدي محمد المعطي بن محمد الصالح بن محمد المعطي بن عبد الخالق بن عبد القادر بن أبي عبد الله محمد الشرقي النادلي نفع الله به فرأيت عنده كتاب المرقي في مناقب سيدي محمد الشرقي تأليف أحد أحفاده وهو عبد الخالق بن محمد بن أحمد بن عبد القادر بن سيدي محمد الشرقي، وفيه ما نصه: كان رجل في زقاق مصر يبيع ويقول: يا سعتر بري، ففهم منه ثلاثة من العباد الأول من أهل البداية: اسع تر بري، أي: اجتهد في طاعتي تر مواهب كرامتي، والثاني متوسط ففهم: يا سعة بري أي: ما أوسع معروفي وإحساني لما أحبني وأطاعني، والثالث من أهل النهاية ففهم: الساعة ترى بري أي: الفتح جاء إبانه فتواجدوا جميعا. انتهى .

(حتى إن العجمي) الذي لا يعرف يتكلم بالعربية (قد يغلب عليه الوجد على) سماع (الأبيات المنظومة بلغة العرب، فإن بعض حروفها توازن الحروف العجمية) مع بقاء التركيب (فيفهم منها معاني أخر) غير التي قصدها [ ص: 510 ] الشاعر (أنشد بعضهم) :


(وما زارني في النوم إلا خياله فقلت له أهلا وسهلا ومرحبا)



(فتواجد عليه أعجمي) أي: أخذه الوجد بسماعه (فسئل عن سبب وجده فقال: إنه يقول: "ما زار يم" وهو كما يقول فإن لفظ زار يدل في العجمية على المشرف على الهلاك) ولفظ ما موضوع بإزاء أنا والياء والميم المضاف إليهما زار موضوع بإزاء ضمير الجمع (فتوهم أنه يقول: كلنا مشرفون على الهلاك، واستشعر عند ذلك خطر هلاك الآخرة والمحترق في حب الله تعالى وجده بحسب فهمه) من منطوق اللفظ الذي يسمعه، (وفهمه بحسب تخيله، وليس من شرط تخيله أن يوافق مراد الشاعر ولغته، فهذا الوجد حق وصدق، ومن استشعر خطر هلاك الآخرة فجدير أن يشوش عليه عقله وتضطرب عليه أعضاؤه، فإذا ليس في تغيير أعيان الألفاظ كبير فائدة بل الذي غلب عليه عشق مخلوق، فينبغي أن يحترز من السماع بأي لفظ كان، والذي غلب عليه حب الله تعالى فلا تضره الألفاظ ولا تمنعه عن فهم المعاني اللطيفة المتعلقة بمجاري همته الشريفة) .




الخدمات العلمية