الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال السري السقطي نفسي منذ ثلاثين سنة تطالبني أن أغمس جزرة في دبس ، فما أطعمتها وقال أبو بكر الجلاء أعرف رجلا تقول له نفسه : أنا أصبر لك على طي عشرة أيام ، وأطعمني بعد ذلك شهوة أشتهيها . فيقول لها : لا أريد أن تطوى عشرة أيام ، ولكن اتركي هذه الشهوة وروي أن عابدا دعا بعض إخوانه فقرب إليه رغفانا فجعل أخوه يقلب الأرغفة ليختار أجودها فقال له العابد : مه أي شيء تصنع ؟ أما علمت أن في الرغيف الذي رغبت عنه كذا وكذا حكمة ، وعمل فيه كذا وكذا صانعا حتى استدار من السحاب الذي يحمل الماء ، والماء الذي يسقي الأرض والرياح والأرض والبهائم وبني آدم حتى صار إليك ، ثم أنت بعد هذا تقلبه ولا ترضى به .

وفي ؟! الخبر : لا يستدير الرغيف ويوضع بين يديك حتى يعمل فيه ثلاثمائة وستون صانعا أولهم ميكائيل عليه السلام الذي يكيل الماء من خزائن الرحمة ثم الملائكة التي تزجي السحاب والشمس والقمر والأفلاك وملائكة الهواء ، ودواب الأرض ، وآخرهم الخباز : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها .

وقال بعضهم : أتيت قاسما الجرعي فسألت عن الزهد أي شيء هو ؟ فقال أي شيء سمعت فيه ؟ فعددت أقوالا فسكت فقلت : أي شيء تقول أنت ؟ فقال : اعلم أن البطن دنيا العبد ، فبقدر ما يملك من بطنه يملك من الزهد ، وبقدر ما يملكه بطنه تملكه الدنيا وكان بشر بن الحارث قد اعتل مرة ، فأتى عبد الرحمن الطبيب يسأله عن شيء يوافقه من المأكولات ، فقال تسألني ، فإذا وصفت لك لم تقبل مني . قال صف لي حتى أسمع قال : تشرب سكنجبينا وتمص سفرجلا ، وتأكل .

بعد ذلك اسفيذباجا فقال له بشر هل تعلم شيئا اقل من السكنجبين يقوم مقامه ؟ قال : لا . قال : أنا أعرف . قال : ما هو ؟ قال : الهندبا بالخل ثم قال أتعرف شيئا أقل من السفرجل يقوم مقامه ؟ قال : لا . قال : أنا أعرف . قال : ما هو ؟ قال : الخرنوب الشامي قال فتعرف شيئا أقل من الاسفيذباج يقوم مقامه ؟ قال لا ، قال : أنا أعرف : ؟ : ماء الحمص بسمن البقر في معناه . فقال له عبد الرحمن : أنت أعلم مني بالطب ، فلم تسألني .

التالي السابق


(وقال السري السقطي ) رحمه الله تعالى: (نفسي منذ ثلاثين سنة تطالبني أن أغمس جزرة في دبس، فما أطعته) .

أخرجه القشيري في الرسالة سماعا عن أبي عبد الرحمن السلمي عن أبي العباس البغدادي ، عن جعفر بن نصير ، عن الجنيد قال: سمعت السري يقول.. فساقه، إلا أنه قال: منذ ثلاثين سنة أو أربعين سنة، وقد تقدم، (وقال أبو بكر بن الجلاء ) رحمه الله تعالى، وهو من مشايخ صاحب القوت، ومن معاصريه: (أعرف رجلا تقول له نفسه: أنا أصبر لك على طي عشرة أيام ، وأطعمني بعد ذلك شهوة أشتهيها. فيقول لها: لا أريد أن تطوي عشرة أيام، ولكن اتركي هذه الشهوة) التي اشتهيتها. أورده صاحب القوت، وقال: سمعت أبا بكر بن الجلاء يقول: أنا أعرف إنسانا.. فساقه .

(وروي) عن وهب بن منبه وغيره، (أن عابدا دعا بعض إخوانه فقرب إليه رغفانا) جمع رغيف، ككثيب وكثبان، (فجعل أخوه) أي: العابد (يقلب) بعض (الأرغفة) جمع آخر لرغيف، كحمير وأحمرة، (ليختار أجودها) أي: أحسنها، (فقال له العابد: مه) أي: كف عن هذا التقليب، (أي شيء تصنع؟ أما علمت أن في الرغيف الذي رغبت عنه) ولم تقنع به، (كذا وكذا حكمة، وعمل فيه كذا وكذا صانع) ، وظهرت كذا وكذا صنعة، (حتى استدار) أي: صار مستديرا (من السحاب الذي يحمل الماء، والماء الذي يسقي الأرض والرياح والأرض) التي أنبتت، (والبهائم وبني آدم حتى صار إليك، ثم أنت بعد هذا تقلبه ولا ترضى به؟!) ، هكذا أورده صاحب القوت من رواية وهب بن [ ص: 418 ] منبه قال: (وقال) الآخر: زيادة (في الخبر: لا يستدير الرغيف ويوضع بين يديك حتى يعمل فيه ثلاثمئة وستون صانعا ) ، ولفظ القوت: ثلاثمئة وستون بين صانع وصنعة، (أولهم ميكائيل ) عليه السلام، يقال: إن اسمه عبد الرزاق، وكنيته أبو الفتوح، (الذي يكيل الماء من خزائن الرحمة) ، أي: من تحت العرش، (ثم الملائكة التي تزجر السحاب) ، أي: تسوقه، (والشمس والقمر والأفلاك وملائكة الهواء، ودواب الأرض، وآخرهم الخباز: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) ، قال العراقي : هذا الحديث لم أجد له أصلا، قلت: رواه صاحب القوت عن وهب بن منبه باللفظ الأول، وعن غيره باللفظ الثاني، والقصة واحدة، وهي قصة دعاء العابد لبعض إخوانه، وقد صرح صاحب القوت بذلك، وميز بين السياقين، حيث قال: وقال الآخر زيادة في الخبر، أي: في هذا الخبر الذي ساقه، وأراد به هذه القصة، ولم يرد صاحب القوت بقوله: في الخبر، أنه مرفوع إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، فمن هنا جاء الاشتباه، والحق أن سياق المصنف مشعر بأنه في الخبر النبوي، ولكن حيث وجدنا أصل الكلام الذي هو مأخذ المصنف في كتابه هذا استرحنا، فهو خبر إسرائيلي من قول ذلك العابد الذي دعا مخاطبا به أخاه، وهذا موضع شديد الالتباس، وناهيك بالمصنف مع جلالة قدره كيف يغفل عن ذلك، ويزيد في كلامه لبسا حتى يظن من جاء بعده أنه كلام نبوي؟ ولكن مراجعة الأصول الصحيحة تمنع من الوقوع في الغلط، والله أعلم .

(وقال بعضهم:) ولفظ القوت: وحدثونا عن بعض هذه الطائفة قال: (أتيت قاسما الجوعي) ، هو القاسم ابن عثمان الدمشقي ، قال ابن السمعاني في الأنساب: ولعله كان يبقى جائعا كثيرا، فلقب بالجوعي، له كرامات، روى عن أبي اليمان الحكم بن نافع ، وعنه محمد بن المعافى العابد ، (فسألته عن الزهد أي شيء هو؟ فقال) لي: (أي شيء سمعت فيه؟ فعددت أقوالا) قيلت فيه، (فسكت) ، ولفظ القوت: فقلت: قالوا: الزهد قصر الأمل. فقال الحسن : وأيش سمعت أيضا؟ فقلت: قالوا: الزهد ترك الادخار. فقال: حسن. حتى عدد عليه أقوالا، قال: فسكت، (فقلت: أي شيء تقول فيه أنت؟ فقال: اعلم أن البطن دنيا العبد، فبقدر ما يملك من بطنه يملك من الزهد، وبقدر ما يملكه بطنه تملكه الدنيا) ، زاد صاحب القوت، وعلى هذا المعنى كان شيخنا ابن سالم يقول: إذا أعطيت البطن حظه من الشبع طلبت كل جارحة حظها من اللهو، فجمحت بذلك النفس إلى الهلكة، وإذا منعت البطن حظه قصرت كل جارحة عن حظها؛ فاستقام القلب لذلك واعتدل. (وكان) أبو نصر (بشر بن الحارث) الحافي رحمه الله تعالى (قد اعتل مرة، فأتى عبد الرحمن المتطبب يسأله عن شيء يوافقه من المأكولات، فقال) له عبد الرحمن : (تسألني، فإذا وصفت لك لم تقبل مني. قال) له بشر : (صف لي حتى أسمع) فقال: تحتاج أن تستعمل ثلاثة أشياء، فإن فيهن صلاح جسمك، (قال: تشرب سكنجبينا) وهو المعمول بالخل والعسل، (وتمص سفرجلا، وتأكل بعد ذلك إسفيدباجا) وهو الشورباج، ويعرف بالمسلوقة، فإنه يقوي الجسد ويرطبه، (فقال) له بشر: (هل تعلم شيئا أقل) ثمنا، (من السكنجبين يقوم مقامه؟ قال: لا. قال: أنا أعرف. قال: ما هو؟ قال: الهندبا بالخل) ، ثم قال: (أتعرف شيئا أقل) ثمنا (من السفرجل يقوم مقامه؟ قال: لا. قال: أنا أعرف. قال: ما هو؟ قال: الخرنوب الشامي) ، ثم قال: (أتعرف شيئا أقل) ثمنا (من الإسفيدباجة يقوم مقامها؟ قال) : أما هذا (لا، قال: أنا أعرف. قال: ما هو؟ قال: ماء الحمص بسمن البقر في معناها. فقال له عبد الرحمن : أنت أعلم مني بالطب، فلم تسألني) ، هكذا أورده صاحب القوت .




الخدمات العلمية