بيان ، وبني العم ، والأقارب ، وتأكده ، وقلته في غيرهم ، وضعفه : السبب في كثرة الحسد بين الأمثال والأقران والإخوة
اعلم أن الحسد إنما يكثر بين قوم تكثر بينهم الأسباب التي ذكرناها ، وإنما يقوى بين قوم تجتمع جملة من هذه الأسباب فيهم ، وتتظاهر إذ الشخص الواحد يجوز أن يحسد ; لأنه قد يمتنع عن قبول التكبر ، ولأنه يتكبر ، ولأنه عدو ، ولغير ذلك من الأسباب .
وهذه الأسباب إنما تكثر بين أقوام تجمعهم روابط يجتمعون بسببها في مجالس المخاطبات ، ويتواردون على الأغراض ، فإذا خالف واحد منهم صاحبه في غرض من الأغراض نفر طبعه عنه ، وأبغضه وثبت الحقد في قلبه فعند ذلك يريد أن يستحقره ويتكبر عليه ، ويكافئه على مخالفته لغرضه ، ويكره تمكنه من النعمة التي توصله إلى أغراضه ، وتترادف جملة من هذه الأسباب ; إذ لا رابطة بين شخصين في بلدتين متنائيتين ، فلا يكون بينهما محاسدة ، وكذلك في محلتين نعم ، إذا تجاورا في مسكن أو سوق ، أو مدرسة ، أو مسجد ، تواردا على مقاصد تتناقض فيها أغراضهما ، فيثور من التناقض التنافر والتباغض ، ومنه تثور بقية أسباب الحسد ولذلك ترى العالم يحسد العالم دون العابد ، والعابد يحسد العابد دون العالم ، والتاجر يحسد التاجر ، بل الإسكاف يحسد الإسكاف ولا يحسد البزاز إلا بسبب آخر سوى الاجتماع في الحرفة ويحسد الرجل أخاه وابن عمه أكثر مما يحسد الأجانب والمرأة تحسد ضرتها وسرية زوجها أكثر مما تحسد أم الزوج وابنته .
لأن مقصد البزاز غير مقصد الإسكاف ، فلا يتزاحمون على المقاصد ; إذ مقصد البزاز الثروة ولا يحصلها إلا بكثرة الزبون وإنما ينازعه فيه بزاز آخر ; إذ حريف البزاز لا يطلبه .
الإسكاف ، بل البزاز ، ثم مزاحمة البزاز المجاور له أكثر من مزاحمة البعيد عنه إلى طرف السوق ، فلا جرم يكون حسده للجار أكثر وكذلك الشجاع يحسد الشجاع ، ولا يحسد العالم لأن مقصده أن يذكر بالشجاعة ، ويشتهر بها وينفرد بهذه الخصلة ولا يزاحمه العالم على هذا الغرض ، وكذلك يحسد العالم العالم ، ولا يحسد الشجاع .