ثم حسد الواعظ للواعظ أكثر من حسده للفقيه ، والطبيب ; لأن التزاحم بينهما على مقصود واحد أخص ، فأصل هذه المحاسدات العداوة وأصل العداوة التزاحم بينهما على غرض واحد ، والغرض الواحد لا يجمع متباعدين ، بل متناسبين ; فلذلك يكثر الحسد بينهما نعم ، من اشتد حرصه على الجاه وأحب الصيت في جميع أطراف العالم بما هو فيه ، فإنه يحسد كل من هو في العالم وإن بعد ممن يساهمه في الخصلة التي يتفاخر بها ، ومنشأ جميع ذلك حب الدنيا فإن الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين ، أما الآخرة فلا ضيق فيها ، وإنما مثال الآخرة نعمة العلم ، فلا جرم إذا عرف ذلك أيضا ; لأن المعرفة لا تضيق على العارفين ، بل المعلوم الواحد يعلمه ألف ألف عالم ، ويفرح بمعرفته ، ويلتذ به ، ولا تنقص لذة واحد بسبب غيره بل يحصل بكثرة العارفين زيادة الأنس وثمرة الاستفادة والإفادة ; فلذلك لا يكون بين علماء الدين محاسدة لأن مقصدهم معرفة الله تعالى وهو بحر واسع لا ضيق فيه وغرضهم المنزلة عند الله ولا ضيق أيضا فيما عند الله تعالى ; لأن أجل ما عند الله سبحانه من النعيم لذة لقائه ، وليس فيها ممانعة ومزاحمة ، ولا يضيق بعض الناظرين على بعض بل يزيد الأنس بكثرتهم . نعم ، إذا قصد العلماء بالعلم المال والجاه تحاسدوا لأن المال أعيان وأجسام إذا وقعت في يد واحد خلت عنها يد الآخر ومعنى الجاه ملك القلوب ، ومهما امتلأ قلب شخص بتعظيم عالم انصرف عن تعظيم الآخر أو نقص عنه لا محالة ، فيكون ذلك سببا للمحاسدة وإذا امتلأ قلب بالفرح بمعرفة الله تعالى لم يمنع ذلك أن يمتلئ قلب غيره بها ، وأن يفرح بذلك والفرق ، بين العلم والمال أن المال لا يحل في يد ما لم يرتحل عن اليد الأخرى ، والعلم في قلب العالم مستقر ويحل في قلب غيره بتعليمه من غير أن يرتحل من قلبه والمال ، أجسام ، وأعيان ، ولها نهاية فلو ملك الإنسان جميع ما في الأرض لم يبق بعده مال يتملكه غيره ، والعلم لا نهاية له ، ولا يتصور استيعابه فمن عود نفسه الفكر في جلال الله ، وعظمته ، وملكوت أرضه ، وسمائه صار ذلك ألذ عنده من كل نعيم ولم يكن ممنوعا منه ، ولا مزاحما فيه ، فلا يكون في قلبه حسد لأحد من الخلق ; لأن غيره أيضا لو عرف مثل معرفته لم ينقص من لذته ، بل زادت لذته بمؤانسته ، فتكون لذة هؤلاء في مطالعة عجائب الملكوت على الدوام أعظم من لذة من ينظر إلى أشجار الجنة ، وبساتينها بالعين الظاهرة ، فإن نعيم العارف وجنته معرفته التي هي صفة ذاته ، يأمن زوالها ، وهو أبدا يجني ثمارها فهو بروحه وقلبه مغتذ بفاكهة علمه وهي فاكهة غير مقطوعة ، ولا ممنوعة ، بل قطوفها دانية فهو وإن غمض العين الظاهرة ، فروحه أبدا ترتع في جنة عالية ورياض زاهرة فإن فرض كثرة في العارفين لم يكونوا متحاسدين بل كانوا كما قال فيهم رب العالمين من يحب معرفة الله تعالى ، ومعرفة صفاته ، وملائكته ، وأنبيائه ، وملكوت سمواته وأرضه لم يحسد غيره ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين ، فهذا حالهم وهم بعد في الدنيا فماذا يظن ، بهم عند انكشاف الغطاء ومشاهدة المحبوب في العقبى فإذا ، لا يتصور أن يكون في الجنة محاسدة ، ولا أن يكون بين أهل الدنيا في الجنة محاسدة ; لأن الجنة لا مضايقة فيها ، ولا مزاحمة ، ولا تنال إلا بمعرفة الله تعالى التي لا مزاحمة فيها في الدنيا أيضا ، في الدنيا ، والآخرة جميعا ، بل الحسد من صفات المبعدين عن سعة عليين إلى مضيق سجين ولذلك وسم به الشيطان اللعين وذكر من صفاته أنه حسد آدم عليه السلام على ما خص به من الاجتباء ولما دعي إلى السجود استكبر ، وأبى وتمرد ، وعصى فقد عرفت أنه لا حسد إلا للتوارد على مقصود . فأهل الجنة بالضرورة برآء من الحسد
يضيق عن الوفاء بالكل ; ولهذا لا ترى الناس يتحاسدون على النظر إلى زينة السماء ويتحاسدون على رؤية البساتين التي هي جزء يسير من جملة الأرض ، وكل الأرض لا وزن لها بالإضافة إلى السماء ولكن السماء لسعة الأقطار وافية بجميع الأبصار ، فلم يكن فيها تزاحم ، ولا تحاسد أصلا فعليك إن كنت بصيرا وعلى نفسك مشفقا أن تطلب نعمة لا زحمة فيها ، ولذة لا كدر لها ، ولا يوجد ذلك في الدنيا إلا في معرفة الله عز وجل ، ومعرفة صفاته ، وأفعاله ، وعجائب ملكوت السموات والأرض ولا ينال ذلك في الآخرة إلا بهذه المعرفة أيضا فإن كنت لا تشتاق إلى معرفة الله تعالى ولم تجد لذتها ، وفتر عنها رأيك ، وضعفت فيها رغبتك ، فأنت في ذلك معذور إذ العنين لا يشتاق إلى لذة الوقاع ، والصبي لا يشتاق إلى لذة الملك ، فإن هذه لذات يختص بإدراكها الرجال دون الصبيان ، والمخنثين فكذلك لذة المعرفة يختص بإدراكها الرجال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ولا يشتاق إلى هذه اللذة غيرهم ; لأن الشوق بعد الذوق ومن لم يذق لم يعرف ومن لم يعرف لم يشتق ومن لم يشتق لم يطلب ومن لم يطلب لم يدرك ومن لم يدرك بقي مع المحرومين في أسفل السافلين ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين .