الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما الآثار فقد وجد في رسالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري عليك بالصبر ، واعلم أن الصبر صبران ؛ أحدهما أفضل من الآخر ، الصبر في المصيبات حسن ، وأفضل منه الصبر عما حرم الله تعالى ، واعلم أن الصبر ملاك الإيمان ، وذلك بأن التقوى أفضل البر والتقوى بالصبر وقال علي كرم الله وجهه : بني الإيمان على أربع دعائم ؛ اليقين والصبر والجهاد والعدل وقال أيضا : الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، ولا جسد لمن لا رأس له ، ولا إيمان لمن لا صبر له وكان عمر رضي الله عنه يقول : نعم العدلان ونعمت العلاوة للصابرين ، يعني بالعدلين الصلاة والرحمة ، وبالعلاوة الهدى ، والعلاوة ما يحمل فوق العدلين على البعير وأشار به إلى قوله تعالى : أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون وكان حبيب بن أبي حبيب إذا قرأ هذه الآية : إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب بكى وقال : واعجباه أعطى وأثنى ، أي : هو المعطي للصبر وهو المثني وقال أبو الدرداء : ذروة الإيمان الصبر للحكم والرضا بالقدر هذا بيان فضيلة الصبر من حيث النقل وأما ، من حيث النظر بعين الاعتبار فلا تفهمه إلا بعد فهم حقيقة الصبر ، ومعناه إذ معرفة الفضيلة والرتبة معرفة صفة فلا تحصل قبل معرفة الموصوف فلنذكر حقيقته ومعناه وبالله التوفيق .

التالي السابق


(وأما الآثار) في الصبر (فقد وجد في رسالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري) رضي الله عنه أرسلها إليه حين كان واليا بالبصرة (عليك بالصبر، واعلم أن الصبر صبران؛ أحدهما أفضل من الآخر، الصبر في المصيبات حسن، وأفضل منه الصبر على ما حرم الله تعالى، واعلم أن الصبر ملاك الإيمان، وذلك بأن التقوى أفضل البر والتقوى بالصبر) ، رواه إبراهيم بن بسار الرمادي عن سفيان عن والد إدريس بن عبد الله عن سعيد بن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه، وكان أبو موسى قد [ ص: 7 ] أوصى إلى ابنه أبي بردة رسائل عمر التي كان يكتبها إليه .

(وقال علي رضي الله عنه: بني الإيمان على أربع دعائم؛ اليقين والصبر والجهاد والعدل) ، ولفظ القوت: وقد جعل علي رضي الله عنه الصبر ركنا من أركان الإيمان وقرنه بالجهاد والعدل والإيقان، فقال: "بني الإيمان على أربع دعائم على اليقين والصبر والجهاد والعدل" اهـ. قلت: وقد روي ذلك من حديث علي مرفوعا، قال أبو نعيم في الحلية: حدثنا أحمد بن السندي حدثنا الحسن بن علوية القطان حدثنا إسماعيل بن عيسى العطار، حدثنا إسحاق بن بشر حدثنا مقاتل عن قتادة عن خلاس بن عمرو قال: كنا جلوسا عند علي بن أبي طالب إذ أتاه رجل من خزاعة فقال: يا أمير المؤمنين هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينعت الإسلام؟ قال: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بني الإسلام على أربعة أركان: على الصبر واليقين والجهاد والعدل. الحديث، وهو طويل وقد تقدم بعضه في كتاب التوبة، ثم قال صاحب الحلية: كذا رواه خلاس بن عمرو مرفوعا وخالف الرواة عن علي فقال: الإسلام، ورواه الأصبغ بن نباتة عن علي فقال: الإيمان، ورواه الحارث عن علي موقوفا مختصرا، ورواه قبيصة بن جابر عن علي من قوله، ورواه العلاء بن عبد الرحمن عن علي من قوله، اهـ .

قلت: وبلفظ الإيمان موقوفا رواه صاحب نهج البلاغة .

(وقال) علي رضي الله عنه (أيضا: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا جسد لمن لا رأس له، ولا إيمان لمن لا صبر له) ، كذا في القوت ولكن بلفظ: "إنما الصبر من الإيمان"، وهكذا رواه البيهقي في الشعب بإسناده إليه، قال: "الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس مات الجسد"، ثم قال علي رافعا صوته: "أما إنه لا إيمان لمن لا صبر له"، وروى صاحب نهج البلاغة قال علي رضي الله عنه: "أوصيكم بخمس لو ضربتم إليها آباط الإبل لكانت لذلك أهلا، لا يرجون أحد منكم إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه، ولا يستحيين أحد إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم، ولا يستحيين أحد إذا لم يتعلم الشيء أن يتعلمه، وعليكم بالصبر، فإن الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس معه، ولا في إيمان لا صبر معه" انتهى. وقد روي أوله مرفوعا من حديث أنس ، رواه الديلمي في مسند الفردوس من رواية يزيد الرقاشي عن أنس ، ويزيد ضعيف .

(وكان عمر) بن الخطاب (رضي الله عنه يقول: نعم العدلان) مثنى العدل بكسر العين والدال المهملتين، وهو الحمل زنة ومعنى إذ كل منهما عديل للآخر، قال ابن فارس: العدل الذي يعادل في الوزن والقدر، وعدله بالفتح ما يقوم مقامه من غير جنسه، وفي المصباح: عدل الشيء بالكسر مثله من جنسه ومقداره، (ونعمت العلاوة للصابرين، يعني بالعدلين الصلاة والرحمة، وبالعلاوة الهدى، والعلاوة) بالكسر (ما يحمل فوق العدلين على البعير) فيكون كعدل ثالث، وفي المصباح: ما يعلق على البعير بعد حمله مثل الأداوة والسفرة، والجمع علاوي. (أشار إلى قوله تعالى: أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) كذا في القوت، وقد أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في السنن وابن أبي الدنيا في العزاء عن عمر بن الخطاب قال: "نعم العدلان ونعم العلاوة الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون نعم العلاوة". (وكان حبيب بن أبي حبيب) البجلي أبو عمرو البصري نزيل الكوفة، صدوق يخطئ، روى له الترمذي (إذا قرأ هذه الآية: إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب ) يعني داود عليه السلام (بكى وقال: واعجباه أعطى وأثنى، أي: هو المعطي للصبر وهو المثني عليه) . والرب إذا أثنى على أعمال عباده فقد أثنى على فعل نفسه؛ لأن أعمالهم من خلقه .

(وقال أبو الدرداء:) رضي الله عنه (ذروة الإيمان الصبر للحكم والرضا بالقدر) نقله صاحب القوت، وقال أبو نعيم في الحلية: حدثنا محمد بن علي بن حبيش حدثنا موسى بن هارون الحافظ، حدثنا أبو الربيع وداود بن رشيد قالا: حدثنا بقية، حدثنا يحيى بن سعد عن خالد بن معدان حدثني يزيد بن رشيد الهمداني أبو عثمان عن أبي الدرداء أنه كان يقول: "ذروة الإيمان الصبر للحكم، والرضى بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب تعالى".

(هذا بيان فضيلة الصبر من حيث النقل، فأما من [ ص: 8 ] حيث النظر بعين الاعتبار فلا تفهمه إلا بعد فهم حقيقة الصبر، ومعناه إذ معرفة الفضيلة والرتبة معرفة صفة فلا تحصل قبل معرفة الموصوف) فلابد من معرفة الموصوف الذي هو حقيقة الصبر، (فلنذكر حقيقته ومعناه وبالله التوفيق) .




الخدمات العلمية