الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ولما نظر عليه السلام إلى ولده الحسن رضي الله عنه يتعثر في قميصه نزل عن المنبر واحتضنه ثم قال : صدق الله إنما أموالكم وأولادكم فتنة ، إني لما رأيت ابني يتعثر لم أملك نفسي أن أخذته ففي ذلك عبرة لأولي الأبصار .

فالرجل كل الرجل من يصبر على العافية ، ومعنى الصبر عليها أن لا يركن إليها ، ويعلم أن كل ذلك مستودع عنده : وعسى أن يسترجع على القرب وأن لا يرسل نفسه في الفرح بها ولا ينهمك في التنعم واللذة واللهو واللعب وأن يرعى ، حقوق الله في ماله بالإنفاق وفي بدنه ببذل المعونة للخلق وفي لسانه ببذل الصدق ، وكذلك في سائر ما أنعم الله به عليه .

وهذا الصبر متصل بالشكر فلا يتم إلا بالقيام بحق الشكر كما سيأتي وإنما كان الصبر على السراء أشد لأنه مقرون بالقدرة ومن العصمة أن لا تقدر والصبر على الحجامة والفصد إذا تولاه غيرك أيسر من الصبر على فصدك نفسك وحجامتك نفسك والجائع عند غيبة الطعام أقدر على الصبر منه إذا حضرته الأطعمة الطيبة اللذيذة وقدر عليها فلهذا عظمت فتنة السراء .

التالي السابق


(ولما نظر صلى الله عليه وسلم إلى ولده الحسن) رضي الله عنه (يتعثر في قميصه نزل عن المنبر واحتضنه، وقال: صدق الله إنما أموالكم وأولادكم فتنة، إني لما رأيت ابني) هذا (يتعثر) في قميصه (لم أملك نفسي أن أخذته) .

قال العراقي : رواه أصحاب السنن من حديث بريدة، وقالوا: الحسن والحسين، وقال الترمذي : حسن غريب، انتهى .

قلت: رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو يعلى وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي والضياء كلهم من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه رفعه قال: "صدق الله ورسوله إنما أموالكم وأولادكم فتنة، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما"، وروى ابن ماجه من حديث يوسف بن عبد الله بن سلام قال: جاء الحسن والحسين يستبقان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فضمهما إليه وقال: "الولد مبخلة مجبنة"، وروى العسكري في الأمثال، والحاكم في صحيحه من طريق معمر عن ابن خثيم عن محمد بن الأسود بن خلف عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حسنا فقبله ثم أقبل عليهم فقال: "إن الولد مجبنة مبخلة" وأحسبه قال: "مجهلة"، وتقدم، وروى العسكري من حديث عمر بن عبد العزيز قال: زعمت المرأة الصالحة خولة بنت حكيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وهو محتضن حسنا وحسينا وهو يقول: "إنكم لتجبنون وتجهلون وإنكم لمن ريحان الله".

(ففي ذلك عبرة لأولي الأبصار، وقد جمع الله بين ما سر وضر) وجعلهما من وصف المتقين، ومدحهما بالإحسان معهما، فقال تعالى: أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (فالرجل كل الرجل من يصبر على العافية، ومعنى الصبر عليها أن لا يركن إليها، ويعلم أن كل ذلك مستودع عنده أي: بمنزلة الوديعة، وعسى أن يسترجع على القرب) إلى المودع (وأن لا يرسل نفسه في الفرح بها) والركون إليها (ولا ينهمك في التنعيم واللذة واللهو واللعب، وإن يؤد حقوق الله تعالى في ماله بالإنفاق منه) في المواضع اللائقة (وفي بدنه ببذل المعونة للخلق) على قدر استطاعته (وفي لسانه ببذل الصدق، وكذلك في سائر ما أنعم الله به عليه) . وقال صاحب القوت: ومن الصبر صبر على العوافي أن لا يجريها في مخالفة، والصبر على الغنى أن لا يبذل في الهوى، والصبر على النعمة أن لا يستعين بها على معصية، فحاجة المؤمن على الصبر في هذه المعاني، ومطالبته بالصبر عليها، لحاجته ومطالبته بالصبر على المكاره والفقر، والصبر على الشدائد والضراء .

(وهذا الصبر متصل بالشكر فلا يتم إلا بالقيام بحق الشكر كما سيأتي) إن شاء الله تعالى، (وإنما كان الصبر على السراء أشد لأنه مقرون بالقدرة) والتمكن، (ومن العصمة أن لا تقدر) هو من قول علي رضي الله عنه كما تقدم، والمشهور على الألسنة أن لا تجد (والصبر على الحجامة والفصد إذا تولاه غيرك أيسر من الصبر على فصدك نفسك وحجامتك نفسك والجائع عند غيبة [ ص: 22 ] الطعام أقدر على الصبر منه إذا حضرته الأطعمة الطيبة اللذيذة) المشتهاة (وقدر عليها) من غير مانع حقيقي أو حكمي، (فلهذا عظمت فتنة السراء) .




الخدمات العلمية