بيان . معنى الأنس بالله تعالى
قد ذكرنا أن الأنس والخوف والشوق من آثار المحبة إلا أن هذه آثار تختلف على المحب بحسب نظره وما يغلب عليه في وقته ، فإذا غلب عليه التطلع من وراء حجب الغيب إلى منتهى الجمال واستشعر قصوره عن الاطلاع على كنه الجلال انبعث القلب إلى الطلب وانزعج له وهاج إليه ، وتسمى هذه الحالة في الانزعاج شوقا ، وهو بالإضافة إلى أمر غائب وإذا غلب عليه الفرح بالقرب ومشاهدة الحضور بما هو حاصل من الكشف وكان نظره مقصورا على مطالعة الجمال الحاضر المكشوف غير ملتفت إلى ما لم يدركه بعد استبشر القلب بما يلاحظه فيسمى استبشاره أنسا وإن كان نظره إلى صفات العز والاستغناء وعدم المبالاة وخطر إمكان الزوال والبعد تألم القلب بهذا الاستشعار فيسمى تألمه خوفا .
وهذه الأحوال تابعة لهذه الملاحظات ، والملاحظات تابعة لأسباب تقتضيها لا يمكن حصرها فالأنس معناه استبشار القلب فرحه بمطالعة الجمال حتى إنه إذا غلب وتجرد عن ملاحظة ما غاب عنه وما يتطرق إليه من خطر الزوال عظم نعيمه ولذته ومن هنا نظر بعضهم حيث قيل له : أنت مشتاق ؟ فقال : لا ، إنما الشوق إلى غائب ، فإذا كان الغائب حاضرا فإلى من يشتاق ؟! وهذا كلام مستغرق بالفرح بما ناله غير ملتفت إلى ما بقي في الإمكان من مزايا الألطاف .
ومن غلب عليه حال الأنس لم تكن شهوته إلا في الانفراد والخلوة كما حكي أن نزل من الجبل فقيل له : من أين أقبلت ؟ فقال : من الأنس بالله وذلك ؛ لأن إبراهيم بن أدهم بل كل ما يعوق عن الخلوة فيكون من أثقل الأشياء على القلب ، كما روي أن الأنس بالله يلازمه التوحش من غير الله ، موسى عليه السلام لما كلمه ربه مكث دهرا ، لا يسمع كلام أحد من الناس إلا أخذه الغثيان لأن الحب يوجب عذوبة كلام المحبوب وعذوبة ذكره ، فيخرج من القلب عذوبة ما سواه .
ولذلك قال بعض الحكماء في دعائه : يا من آنسني بذكره وأوحشني من خلقه وقال الله عز وجل لداود عليه السلام : كن بي مستأنسا ومن سواي مستوحشا ، وقيل لرابعة: بم نلت هذه المنزلة ؟ قالت : بتركي ما لا يعنيني ، أي : وأنسي بمن لم يزل .
وقال : مررت براهب فقلت له: يا راهب لقد أعجبتك الوحدة؟ فقال: يا هذا لو ذقت حلاوة الوحدة لاستوحشت إليها من نفسك، الوحدة رأس العبادة فقلت: يا راهب ما أقل ما تجده في الوحدة؟ قال: الراحة من مداراة الناس والسلامة من شرهم. قلت: يا راهب متى يذوق العبد حلاوة الأنس بالله تعالى؟ قال: إذا صفا الود وخلصت المعاملة قلت: ومتى يصفو الود؟ قال: إذا اجتمع الهم فصار هما واحدا في الطاعة، وقال بعض الحكماء: عجبا للخلائق كيف أرادوا بك بدلا عجبا للقلوب كيف استأنست بسواك عنك؟ . عبد الواحد بن زيد
فإن قلت: فما علامة الأنس؟ فاعلم أن علامته الخاصة ضيق الصدر من معاشرة الخلق والتبرم بهم واستهتاره بعذوبة الذكر فإن خالط فهو كمنفرد في جماعة ومجتمع في خلوة وغريب في حضر وحاضر في سفر وشاهد في غيبة وغائب في حضور مخالط بالبدن منفرد بالقلب مستغرق بعذوبة الذكر كما قال علي كرم الله وجهه في وصفهم: هم قوم هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعر المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه .
فهذا معنى الأنس بالله وهذه علامته وهذه شواهده .